*إبراهيم صموئيل
ثمة سؤال قديم يتجدد: لماذا لم تتمكن التجربة الكتابية التي قام بها جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف من أن تحيا وتستمر حين قدما في مطلع ثمانينيات القرن الفائت رواية “عالم بلا خرائط” التي أثارت اهتمام القراء حينها، ولفتت الأنظار إليها كتجربة في التشارك الإبداعي؟
وعلى الرغم مما لدى كل كاتب منهما من الموهبة الأصيلة، والتجربة الأدبية العريقة، والأعمال الروائية المعروفة عربيا وعالميا، والمكانة الإبداعية المشهود لها فإن هذا كله -وهو ليس بالقليل- لم يمنح مغامرتهما الديمومة، ولا كانت روايتهما علامة فارقة مميزة أو حتى عملا أدبيا ذا تأثير في قرائه، أو إضاءة في خارطة الأدب العربي الحديث مما لا يُنسى.
ومن حيث أن تجربة كتلك كانت جديدة على الحياة الثقافية بعامة فإنها لم تشق دربا ليسلكه كتاب من عالمنا العربي، ولا هي دشنت تقليدا ثقافيا، أو شكلت منعطفا في فن الرواية على غرار المنعطف الذي راده في فن الشعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، ثم سلك وفقه العديد من الشعراء العرب بعدهما.
لم تتمكن تجربة منيف وجبرا من امتلاك سمة الكشف والجذب، لم تستقطب معجبين بها ناهجين نهجها فظلت مفردة وحيدة من دون تأثير أو تميز يذكر، وهي الحال نفسها التي وسمت رواية سبقت في الظهور بعنوان “القصر المسحور” تشارك حينذاك في تأليفها الكاتبان الكبيران طه حسين وتوفيق الحكيم.
لتشارك في البحث
بالطبع، في العمل النقدي البحثي من الوارد -بل من الضروري- أن يتشارك العديد من الباحثين والنقاد والدارسين كمجموعات عمل لإنجاز مشروع دراسة موسعة أو القيام ببحث نقدي عن النتاج الشعري العربي الحديث مثلا، أو عن الإنجاز الروائي على مدار قرن، أو التجارب المسرحية العربية منذ بواكيرها الأولى حتى اليوم، أو صورة المرأة في القصص العربية.. وما إلى ذلك.
بل إن التشارك حاجة للعديد من حقول الثقافة، منها مثلا “المختارات” من القصص والقصائد المراد نشرها في الملاحق الصحافية أو في الكتب الصادرة، والتي طالما كان يؤخذ عليها انفراد مثقف واحد باختيارها، في حين أن فعالية كهذه تحتاج إلى تعدد في الآراء وتنوع في وجهات النظر، ليتكامل المشهد أو يقارب التكامل جراء العمل الجماعي.
أما في ما يتعلق بالنتاج الأدبي من قصة وشعر ورواية فأمر التشارك بين كاتبين أو أكثر غير وارد، لأنه مخالف لطبيعة الأدب، ويخرج بالنص المكتوب عن جنسه ونوعه إلى جنس ونوع آخر من الكتابة، كما أرى أن العمل الأدبي فردي بامتياز، مزاجي وشخصي، بل وأناني بامتياز أيضا.
يصعب على المبدع فيه القبول بالتداخل أو الاقتسام أو الاستكمال، فهو عالمه ومشاعره ورؤاه ولغته وصوره وذائقته الأشد خصوصية من بصمة يده.
من هنا، يمكن أن نفهم لماذا لم تشق تجربتا التشارك الروائي، سواء بين حسين والحكيم، أو منيف وجبرا دربا تعبيريا عربيا للكتابة الإبداعية المشتركة، ولا تمكننا من تكريس تقليد جديد في حياتنا الثقافية العربية، الأمر الذي جعل التجربتين تنتهيان إلى فراغ كما جاءتا من فراغ.
قليعة
أقول ذلك لأننا لم نشهد حتى يومنا الحالي أجيالا تالية على جيلي الكتاب الأربعة يسلك أفرادها مسلك التشارك في تأليف الروايات والقصص والقصائد من جهة، كما أن ثقافتنا الأقدم المتمثلة بشعرنا العربي القديم لم تعرف -على ما أعلم- تجربة أدبية قام خلالها شاعران أو أكثر بنظم قصيدة واحدة من جهة أخرى.
ولعل دأب أكثر من عاصمة للثقافة العربية على إقامة “ورشات إبداعية” ودعوة شباب إليها كي ينتجوا نصوصا أدبية خلال أيام محدودات إنما هو من باب التظاهرة الإعلامية والإعلانية، وليس رعاية جادة لأدب الشباب، لأن الرعاية لا تكون في مواسم تنقضي، ناهيك عن كون الأدب لا يصنّع في ورشات خلال إقامة لأيام.
بالطبع، من باب التجريب و”التقليعة” يمكن ابتداع أي شيء، يمكن لكاتب أن يقوم بتكميل نص كاتب آخر، يمكن لأفراد أسرة أن يتشاركوا في كتابة نص واحد، يمكن جمع قصاصات من صحف ومجلات متنوعة وتركيب نصوص منها، يمكن تقديم “لوحة” من تلطيخ ولهو طفل عابث.. غير أن هذا ليس موضوعنا.
فهل تجربتا التشارك لإنتاج رواية واحدة كانتا جراء نزوة أو خاطر عابر أو رغبة في التجريب أشبه بعمليات التهجين في عالم الزراعة؟ أم أن كتاب الأجيال التالية لم يتنبهوا إلى أهمية هذا المنعطف الأدبي؟ أم أن الحياة لم تكتب للتجربتين رغم جدية أصحابهما وآمالهم بالريادة ربما؟
أيا يكن، فعندي أن تقييد الكاتب لعالمه ولغته ورؤيته وإحساسه وخياله بما لدى كاتب آخر لا ينتج إبداعا أدبيا مهما بلغت درجة الانسجام بين الكاتبين، إضافة إلى أن الأدب بالذات -دون غيره من صنوف الكتابة والسرد- لا يقبل القسمة على اثنين أساسا، وإن جرب هذا فلا يثمر ولا يستمر.
____
*الجزيرة. نت