*سلمان عز الدين
ينطوي العنوان الذي اختاره تزفيتان تودوروف لكتابه «الأدب في خطر» على مفاجأة، إذ لم نعتد من ناقد أكاديمي مرموق أن يطلق مثل هذا التحذير الذي يليق أكثر بالإثارة الصحفية.غير أن الكتاب نفسه، ومنذ سطوره الأولى، سرعان ما يكشف عن مفاجأة أكبر. فالخطر الذي يتهدد الأدب حسب تودوروف لا يأتي من الأيديولوجيا، ولا من انصراف القراء عن كتب الأدب، ولا من تكنولوجيا المعلومات المستجدة، وكذلك ليس من منافسة الأنواع والمجالات المعرفية الأخرى..مصدر الخطر، وببساطة، مدارس النقد المعاصرة المهيمنة هي التي عزلت الأدب عن الواقع وعن العالم، ومن أولئك النقاد الذين باتوا يقدسون مناهج النقد مقابل إهمال النقد، بل والنصوص المنقودة نفسها، محولين النقد الأدبي إلى ما يشبه ناد للنخبة، يتداول أعضاؤه المصطلحات فيما بينهم، ويكتبون لبعضهم البعض، دون الاكتراث بكل من يقف خارج ناديهم. والأخطر أنهم نجحوا في ترسيخ النظرة الكارثية للأدب، والتي تعتبره مجرد تجربة جمالية مغلقة على نفسها، لا معنى لها خارجها ولا غاية إلا ذاتها، من دون أدنى صلة بالحياة.. بالواقع.. بالعالم.
تزفيتان تودوروف (1939 ..) ناقد ومفكر فرنسي من أصل بلغاري. وله أكثر من عشرين كتاباً في نظرية الأدب ونظرية الثقافة وتاريخ الفكر، وقد اهتم باللسانيات، كما طاف، دارساً ومدرساً، على مختلف مدارس النقد المعاصرة. ومن هنا تأتي أهمية كتابه «الأدب في خطر»، إذ نقف هنا أمام نوع من النقد الذاتي.. شهادة من الداخل اتسمت بالدقة والمعرفة الواسعة، إضافة إلى الشجاعة التي حدت بالمؤلف أن يصف حاله، وحال زملائه من النقاد، إزاء مؤلفي الأدب ب «بالأقزام الذين يحاولون اعتلاء أكتاف العمالقة».
وربما كان أسلوب الكتاب هو الميزة الأكثر أهمية، إذ نجح تودوروف في تحويل النقاش حول مسائل أكاديمية، غالباً ما تكون عويصة وجافة، إلى نص شيق وممتع، وذلك من خلال مزجه الذكي بين الذاتي والموضوعي، بين تاريخ النقد والتعاطي مع الأدب وبين سيرته المهنية والشخصية.
يتذكر المؤلف، بداية، سنوات طفولته الأولى في صوفيا (بلغاريا) والتي قضاها بين أكوام من الكتب، ولسنوات بعد ذلك ظلت الروايات والقصائد والمسرحيات محور حياته، الشيء الذي جعل انتسابه إلى كلية الآداب أمراً محتوماً «الكلام عن الكتب سيكون مهنتي»..
ولكن لسوء الحظ فإن بلغاريا كانت حينئذ (أواخر الخمسينات) جزءاً من الكتلة الشيوعية، حيث كان تدريس الأدب في جامعاتها يخضع للأيديولوجيا الماركسية، فكانت النصوص الأدبية تقسم إلى أبيض وأسود، جيد ورديء. الأبيض الجيد هو ما يتوافق مع الماركسية ويدعمها، والأسود الرديء هو ما يخالفها.. لم يكن المؤلف مؤمناً بالشيوعية «غير أنه للتوفق في الدراسات العليا كان لا بد، في نهاية السنة الخامسة، من تحرير بحث شهادة التخرج. كيف الحديث عن الأدب دون الخضوع لمطالب الأيديولوجيا المهيمنة؟ سلكتُ إحدى الطرق النادرة التي تتيح الهروب من التعبئة الشاملة. تلك الطريق هي الاهتمام بموضوعات من دون حمولة أيديولوجية، وإذاً، في الأعمال الأدبية، بما يتصل بمادية النص نفسها، بأشكاله اللسانية».
الأشكال اللسانية هي ما شكلت، منذ ذلك الوقت، موضوع دراسته واهتمامه. وعندما ذهب إلى باريس في بعثة دراسية، واصل ملاحقته ل «عناصر الأعمال الأدبية المتخلصة من الأيديولوجيا: الأسلوب، التركيب، الأشكال السردية، باختصار، التقنية الأدبية». وفي سعيه المحموم إلى التعمق في ذلك، سرعان ما عثر على ضالته في أستاذ مميز، هو واحد من ألمع الأسماء الفرنسية: رولان بارت.
غير إن إقامته في فرنسا، المتحررة من أسر أيديولوجيا شمولية، وتحوله إلى مواطن فرنسي، قد غيرا مزاجه ونوع فضوله، فلم تعد الأيديولوجيا شبحاً يطارده في تناوله للأدب «لم تعد القيم والأفكار التي يحملها كل عمل أدبي سجينة أغلال أيديولوجية مقررة سلفاً. فلم يعد موجب لطرحها جانباً وتجاهلها. لقد تلاشت أسباب اهتمامي الحصري بالمادة اللفظية للنصوص. ومنذ تلك اللحظة، في أواسط السبعينات، فقدتُ الميل لمناهج التحليل الأدبي، وتعلقتُ بالتحليل نفسه، أي بلقاء مؤلفين».
هذا عن مزاج تودوروف، أما المزاج الأدبي والنقدي العام فكان يسير في اتجاه مختلف تماماً. ففي المدارس الإعدادية والثانوية كان الهدف الأول للدراسات الأدبية هو التعريف بالأدوات التي تستخدمها تلك الدراسات. وقراءة القصائد والروايات لا تقود إلى التفكير في الوضع الإنساني، والفرد والمجتمع، والحب والكراهية، والفرح واليأس، بل للتفكير في مفاهيم نقدية، تقليدية أو حديثة. «في المدرسة لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية وإنما عن ماذا يتحدث النقاد».. وكذلك هو الوضع في الجامعات، وفي الجرائد والدوريات الأدبية، بل إن كثيراً من كتاب الأدب صاروا يتبنون هذه المفهوم، فراحوا ينتجون نصوصاً متحذلقة لغوياً وشكلياً، مركزين على ألعاب التقنية الأدبية، دون أي اهتمام بتقديم وجهة نظر في العالم، أو رأي في الحياة.
النقاد الذين اقتفوا أثر «الشكلانيين الروس» وتبنوا «البنيوية» وغيرها من المدارس النقدية، أهملوا كل ما يتصل بالمضمون من أفكار وقيم وتجارب اجتماعية أو نفسية، مكتفين بدراسة الشكل (أساليب وتقنيات وأنساق سردية..)، كما أنهم أنكروا أي صلة تربط النص الأدبي بالواقع، مشجعين الأدباء على الاهتمام بتقديم ذواتهم فقط (وهو ما يسميه تودوروف الأنانية)، أما المدرسة التي اعترفت بمعنى للنص الأدبي (التفكيكية)، فقد رأت أن هذا المعنى هو فقط «أن لا وجود لأي معنى في هذا العالم».. وهكذا اكتملت الدائرة المطوقة للأدب، والذي صار أسيراً للشكلانية والأنانة والعدمية.
كيف آل الأمر إلى هذه الحال؟
يستقصي المؤلف تاريخ الأفكار والرؤى التي ناقشت طبيعة الأدب ووظيفته، منذ أرسطو ونظريته عن المحاكاة، وهوراتيوس وحديثه عن شرطي المتعة والفائدة، مروراً بالعصور الوسطى، فعصر النهضة، وصولاً إلى الزمن المعاصر.. ليستخلص أنه على اختلاف الآراء خلال هذه العصور فقد ظل هناك إقرار بمرجعية الواقع وبصلة الأدب بالعالم. أما الإلحاح على القطيعة، وعلى عزل الأدب عن محيطه، فقد جاء مع مطلع القرن العشرين وصار مهيمناً منذ ذلك الوقت.
بالطبع لا يريد تودوروف تحطيم المناهج النقدية، بل وضعها في نصابها الصحيح، وضمن حدودها الطبيعية كأدوات ووسائل لا كغاية. وهو لا يريد استبعاد دراسة الأساليب والأشكال السردية، بل عدم إعطائها الأولوية على حساب استجلاء معاني النصوص واكتشاف كنوزها من أفكار وتصورات وتجارب إنسانية. وكذلك هو لا يريد العودة إلى مفاهيم «الواقعية الاشتراكية» التي اختزلت الأدب في وظيفته التعليمية الإرشادية التثويرية، واعتبرته مجرد أداة في بناء يوتوبيا ما. إنه باختصار يريد ل «بندول» النقد أن يستقر على نقطة توازن.. نظرة للأدب أكثر عمقاً واتساعاً.. نظرة تعترف، أولاً وقبل كل شيء، بأن الأدب حاضر في هذا العالم.
________
*الخليج الثقافي