*بروين حبيب
عاش العالم العربي حروبا كثيرة، منها الحروب الخفية التي تشبه الحرب الباردة وتحوّل حياة أفرادها إلى جحيم نفسي، ومنها الحروب الواضحة حيث الدمار والقتل العشوائي وحشد الجماهير المغفلة لمزيد من الكراهية والتصفيات الجسدية.
ومنها حروب أخرى، لا نراها ولكنها تحدث يوميا، حيث القوي يلقي بقائمته الديناصورية على المواطن الضعيف ويدهسه حتى يصبح «كفتة»..
ومنها حروب الحموات على كنائنهن وأبنائهن، حرب لا هوادة فيها تجعل الحياة في البيوت أشبه بحرب فيتنام…
ومنها حروب الرجل على المرأة من أجل فشة الخلق، تستعمل فيها كل الكلمات البذيئة، التي اخترعها البشر على المستوى العالمي، وتنتهي بالضرب إن اقتضى الأمر، سواء حسب فتوى شرعية تبيح ضرب النساء، أو بدون فتوى، فيكفي أن يكون الرجل «ذكرا» ليصبح كل ما يقوم به من ظلم في المجتمع محللا، ولا أحد بإمكانه ردعه، حتى الوزراء والنواب في اجتماعاتهم يخفون بربطات عنقهم الأنيقة وبدلاتهم البرّاقة «صورة الرّجل الظالم في أعماقهم، الذي حين يفقد أعصابه يهين من حوله بدءا بأولاده إلى زوجته إلى الجيران»، لهذا لا يدينون أنفسهم ولا يدينون غيرهم، تبقى القوانين الإصلاحية التي يمكن أن تغير وجه المجتمع العربي حبيسة أدراجهم إلى الأبد.
الحرب المستمرة التي نعيشها يكشفها الأدب بشكل واضح، وإن كانت النساء يكتبن أكثر عن هذه الحرب الشعواء التي أعلنت ضد أجسادهن، فإن النقد «غير الناضج» أو «المبرمج لتحطيمهن» يستمر في تشويه سمعة الكاتبات واتهامهن بأنهن يروجن للرذيلة.
الحرب السياسية التي تضع المثقفين بين أسنان قرش جائع، حتى يكفّوا عن التحريض على الحرية، يواجهها «نقد مأجور» لتشويه الكاتب الحر وتقديمه للجمهور على أنه شخص فاشل في الحياة، حشاش، ضائع، سكارجي، سواء كان كذلك أو لم يكن… وإن لم يكن كذلك تعمل جهات سياسية معينة على تجويعه، وحيثما يطرق بابا للكتابة يغلق في وجهه… حتى ينتهي به الأمر مثل هررة المزابل.
في مواضع أخرى تجد أن أقلاما تافهة، تفرد سيطرتها على صفحات الإعلام العربي بنظريات أشبه بصور الجميلات اللواتي نجهل من هن، ولماذا وضعت صورهن على الجرائد.
إنها صورة قاتمة للمجتمع العربي ولفنونه التي أصبحت مجرّد مرايا تنقل مآسيه بألوان داكنة. الحرب على سوريا بعد خمس سنوات من هرس أدمغة السوريين، ودك تاريخها العريق، وكسر تقاليد الإبداع لديهم، بدأت تؤتي ثمارها، حين دخلت الحرب إلى النتاج السوري الدرامي والسينمائي والأدبي والفني على أنواعه…
وهذه المرحلة قد تكون مشابهة لما سبق مرحلة الخمود والموت البطيء للإبداع في لبنان، بعد حربه الأهلية، التي إن انتهت شكليا فإنها مستمرة بطرق أكثر قسوة، حين تغرس الحرب في نفوس الناس لا جدوى الحياة، ولا جدوى الإبداع، وعبثية كل شيء نقوم به…
لنتذكر معا أن بداية ما سمي بالثورات العربية شد أنظار العالم، وحققت من خلال نقلها مباشرة على بعض الفضائيات أكبر نسبة مشاهدة، ذلك أن الناس عاشوا شيئا فريدا من نوعه، وكان بودهم أن يتغير واقع الفرد العربي نحو الأفضل، لكن بعد خمس سنوات من «علك الكلام» وتبادل التهم، واتساع شرارة الحرب، من العراق إلى ليبيا إلى سوريا إلى اليمن، لم يعد للناس رغبة حتى في مشاهدة نشرات الأخبار.
والأسوأ من ذلك أنه لم يعد للناس رغبة في مشاهدة التلفزيون، فخارج شهر رمضان وموسم الدراما المكثف، تحوّلت التفزيونات إلى «اكسسوار» منسي في البيوت…
المسطح والكبير والمدجج بتقنات اللمسة اللطيفة وبصمة العين وما إلى ذلك، كله لم يعد مغريا ليجلس الشخص في بيته أمام شاشته ويتابع برنامجا بعينه حتى ينتهي…
وهذا كله ناتج عن كم العنف الذي أصبحت تحمله الشاشة للمتفرج…
كم «الآكشن» في الأفلام الغربية لم يعد مرغوبا بعد «الآكشن» الذي يعيشه الفرد العربي في الشارع يوميا وبين أهله، في أتفه صراعات حول دعوات الأعراس وحصص الميراث وغيرها…
أقوى مشاهد الرعب أصبحت تعج بها نشرات الأخبار عندنا، وكل حيل هيوليوود اليوم سقطت أمام «الإبداعات الداعشية»، لجعل المشاهد يرى الكوابيس في وضح النهار، ويسف أدوية مضادة للاكتئاب وكأنه « يقزقز اللب»…
دخنا والله، ومللنا، وبلغنا حافة رفض الحياة برمتها، بعد بالوعة الحروب هذه التي تشفطنا نحو قاع نجهله.
يقول الكاتب فرانسيس بلانش، إنه لولا الأدب لما عرفنا مآسي الحرب، ذلك أن التاريخ يروي الأحداث وكأنّها مجرد أسماء وأرقام، وحده الأدب يعطي الرّوح لكل تلك الأحداث، فيصف الألم والفجائع والفظائع، وما لا يمكن رؤيته حين يتحدث المنتصر عن انتصاراته، والخاسر عن شهدائه وتضحياته… يذهب الأدب بعيدا في أعماق الإنسان ويكتب بكل جرأة، أن الجميع انقادوا للحرب مخدوعين، يزيل الستارة عن مشهد النياشين والخطب السياسية الرنّانة لنرى بشاعة الحرب…
سنة 2005 صدرت للكاتب الأسترالي ماركوس زوساك روايته الأولى «سارقة الكتب» وسريعا سجّلت نجاحا باهرا، جعلها تقفز من بلد إلى بلد لتنشر في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، وإن كانت قد وجهت في أوروبا لفئة الأشبال، وفي الولايات المتحدة لفئة الكبار، لكن أحد أقوى نقاد «النيويورك تايمز» قال، إن هذه الرواية يجب أن يقرأها الجميع.
سنة 2013 خرجت الرواية في نسختها السينمائية التي أبهرت الجمهور فعلا، خاصة أن الرّاوي في الرواية كما في الفيلم لم يكن سوى: الموت… منذ بدء الفيلم إلى آخره نتشبث بكل تفاصيل الفيلم وكأنّه قدر يتعلّق بنا… هذا الفيلم، أو هذا الكتاب، نموذج لا مثيل له لمن يريد أن يعرف ما معنى الحرب، ومن ينقذ الإنسان من مآسيها…؟
بين الكاتب والحرب العالمية الثانية زمن طويل، بين عالمه وعالم ألمانيا الحرب مسافات زمنية ونفسية وثقافية، ومع هذا لم يترك لنا الكاتب خيارا آخر سوى أن نعشق طريقته في رؤية الحياة من خلال عيون الموت، أمّا المخرج فقد اختار وجه الطفلة صوفي نيليس التي لم تكن سوى أيقونة الفيلم وسحره المكتمل.
وكأنّ مقولة فيكتور هيجو عن أن «الحرب يصنعها الرجال، والسلام حرب تصنعها الأفكار» صحيحة إلى أبعد حد… فقبل أن تخمد الحروب، الأدب يصمت… يتأمل… يراقب… ينظر ويمحص المنظر تلو المنظر… ثم حين تصمت البنادق، وتنطفئ النيران، وتتلاشى روائح الجثث والدماء المحروقة، تنبت الحرب في الكتب…
ربما هذا صحيح، لكن أحيانا يحدث العكس، تعزف الحرب معزوفة تناسب من يعشق لعبة الموت والحياة معا، عرفت ذلك حين قرأت رواية همنغواي «وداعا للسلاح» وبحثت بين الأدب العربي عن نص يشبهها فلم أجده… وجدت شيئا مغايرا وعميقا لتولستوي «الحرب والسلام»، لكن من يقرأ هذه الكتب الآن في زمن طغت فيه ثقافة الإنترنت السطحية على كل شيء…؟ هل تريديون شيئا مماثلا وجميلا ومدهشا يقدم الحرب برداء الأدب؟ إقرأوا جبور الدويهي في روايته «شريد المنازل»… وللحديث بقية إن شاء الله
_______
*القدس العربي