*لطفية الدليمي
القسم الأول
يختص الكائن البشري بميزة فريدة تماما : تلك هي الوعي التام بأن السنوات التي يُحسَبُ بها عمر الكائن – مهما طالت – تبقى قصيرة وغير قادرة على تمثّل كافة أنواع التجارب التي يمكن أن يتفاعل معها العقل البشري ويحولها خبرات منتجة . ليس الأمر مرهوناً بقصر سنوات عمرنا فحسب بل بمحدودية الفضاءات الفيزيائية التي تعد ميادين حقيقية لاكتساب خبراتنا : إذ ما من فرد يستطيع عملياً أن يقيم كل بضعة أسابيع في بلاد جديدة وأن يصبح عنصراً فاعلاً في بيئتها المستكشفة بسبب جملةٍ من المعوقات القانونية والمالية والإسكانية واللغوية . ولست أحسب أن ثمة سندباد مُعاصر بنسخة القرن الحاضر هذا يمكن له أن يقيم اليوم مع قبائل الزولو الأفريقية ليغادرها في الأسبوع الذي يليه إلى جوف غابات الأمازون ، ومن بعدها الى القمة البيضاء في جبال الألب . هذه كلها أمور لا تحصل لأفرادٍ هم نظراؤنا وأحسبها لن تحصل في قادم الأيام طالما بقيت اليقينيات المحلية والمحدوديات الطبيعية تحكمنا . وهنا نواجه المفارقة القاسية : كيف السبيل إلى تمثّل تجارب الآخرين – بكل غناها وثرائها – ونحن نعيش تحت ضغط هذه المحدوديات التي هي أصبحت واقع حال معلن ؟ . يبدو لي أن الجواب ينحو لأن يكون حفراً واستكشافاً متواصلاً في فضاءين مشتبكين يمثلان المنبع الأزلي والدائم للخبرات البشرية :-
1) الفضاء الأول : هو الفضاء العرفاني ، الجوّاني ، إذ ثمة دوماً دافع نبيل وراء السعي الدائب للفرد إلى التماهي مع الرابطة الكونية ومحاولة الانغمار الكامل فيها عبر روابط تستعصي على التشخيص وتتجاوز عتبة معرفتنا الحسية المباشرة الى فضاء ميتافيزيقي بعد اختبار كشوفات ثرية توصف عادة بالاستنارة الداخلية والكشف الذاتي المدهش . إن واحداً من أهمّ ما يسِمُ هذه المعرفة أنها عصية على التنميط والضغط في خوارزميات جاهزة بسبب من غرائبيتها واختلاف الدافع للانخراط فيها وتلوّنها بلون التجربة الفردية المضمخة بنكهة غير مفهومة ولا يمكن تمريرها للآخرين.
2) الفضاء الثاني : هو ذات الفضاء الطبيعي المحدود الذي يحيا فيه الفرد ، لكن مع السعي إلى محاولة توسيع تخومه عبر تمثل خبرات أخرى تتجاوز الحدود الطبيعية لحياة الفرد ، أي بلغة أكثر دقة ومهنية : أن نحصل على الخبرة جاهزةً بدون أن نكون طرفاً في صناعتها أو تخليقها ، وهذا ما يحيل إلى خبرات من نوع خوارزمي محدد . ثمة من سينتقد وبلغة درامية منتحبة : إن هذا النوع من الخبرات تعوزه سخونة التجربة المباشرة وحميمية اللحظة الكاشفة. وهنا يمكن الرد على هذه النقودات بطريقة علمية مختبرة تفيد بأن ليس في إمكان جهازنا العصبي وطاقتنا الإدراكية – مهما علت و تسامت – القدرة على تمثّل كل التجارب بسبب من المحدوديات الطبيعية الذاتية التي ينقاد لها حتماً كل كائن بيولوجي . هنا نكون أمام خيار صعب : أما أن نقنع ببضع تجارب نعيشها عن قرب و بحسية مباشرة مع القبول بفقر مزمن في عدتنا المفاهيمية ، أو أن نقبل بخبرات جاهزة في صيغة حزمة خوارزميات هي نتاج تجربة آخرين ممّن نثق بهم وهم أنفسهم دفعوا أثماناً لتجاربهم تلك ، فلماذا نعيد دفع ثمن خبرةٍ مدفوعة الثمن أصلاً ؟
________
*المدى