مصر: نيل من الأصوات لا يؤخذ على مقصده البسيط


نداء يونس*


خاص ( ثقافات )

يقول المكان: أحفظ أسماء العاشقين

كنت أعرف يقيناً أن زيارة لمصر لا يمكن أن تمر دون أثر عميق تتركه فيَّ، لكن لم أكن أعتقد أنها ستجلو روحي، وأنني سوف أرتديها وتفاصيلها ظلاً ليومي، لكنني عرفت منذ اللحظة الأولى أن لمصر صوتها الندي وهمسها الخفي، ولها روحها التي تحكي حكايا العاشقين للعاشقين.
في مصر لم أحمل قلماً ولا ورقة، لم يكن في نيتي أن أكتب شيئاً، فما كتبه المصريون وما كتب عن مصر كثير، لكنني أدركت أن لهذا البلد سحراً قوياً، وكل ما فيه يكتبك وتكتبه. في مصر القديمة، ضمنت الأبنية والنقوش وأوراق البردي والمسلات والنقوش الغائرة في الجدر، وتلك الملونة والتي يشتغل العلماء على ترميمها، الخلود لحضارة لا نزال نسعى إلى اكتشاف أسرارها. واليوم، تضيف النصوص التي تكتب حول مصر والصور التي نتداولها لأماكن بدأت منذ فجر الحضارة وحملت إلى وقتنا الحاضر سحر البلاد وفرادتها العالية، إلى إرث طويل من الدعوات المفتوحة إلى تفاعل بصري مع مكونات المكان التاريخية والطبوغرافية والعمرانية والزمكانية، إلا أن القليل من التوثيق يرتكز، بل ويعمد إلى استدعاء التفاعل السمعي مع المكان والزمان مع نيل الأصوات التي تأتي من كل لون ونقش وحجر وبناء وشارع ووجه مصري جميل. 
في مصر رأيت، والأهم من ذلك أنني استدعيت تفاعلاً سمعياً خاصاً مع المكان، ثم مع الشخوص، ثم مع الزمان. كل شيء في مصر يحكي، وتصمت الضجة العالية. هكذا بدأت أعي مستويين للمكان وللأصوات وللشخوص وللصور. شيء ما شدني للباطني، رغم انشغال لم أُخْفه بكل ملموس، وانبهار بحداثة تعطي لمصر ديمومتها وتفتح أفقها العالي إلى المستقبل كأي شيء حي. كل طريق حكاية وكل حجر يروي تاريخاً. الراوي متعدد، واحد في كثير وكثير في واحد. وكما تخرج الأغنية من صدر المغني، والهواء من قصب الناي والقصة من صدر الحكاء، تخرج الأصوات من الزمان ومن المكان، جليلة ومهيبة وجميلة وبهية، وتخرج خافتة أحياناً وأحياناً أخرى تكون مثل صوت الجلجلة. هل أسجل الصوت، أم أدون معناه؟ هي جدلية أزلية بين فعل التوثيق النقي وتداخل المعرفي والإسقاط الذاتي.
للضباب الذي يلف الأبنية صوت العصافير الغائبة، وللشوارع التي سلكها الجنود والأحصنة، صوت جوقة عالٍ، هناك صوتٌ فردٌ لكل من سقط من ذاكرة التاريخ، ولكل من نذكره، يمر هؤلاء محملون بهم، ويعودون من باب موارب إلى عوالم غائبة. للنقوش الحاضرة على واجهات المباني وللنقوش التي سقط بعضها تعباً من الوقوف على حرف التاريخ المائل، لغة مكسورة، ضبابية وسائلة، هي تحكي، وأنت تلم الصوت الكثيف حرفاً، حرفاً، وتكوي به الذاكرة.
في شارع المعز لدين الله تكاد تمسك التاريخ بيدك، وتدنو من فكرة لمِّ الصوت الذي يغسل غبار الوقت. في شارع شامبليون، وتلك الشوارع المؤدية إلى ميدان طلعت حرب، وغمامة الأبنية القديمة جداً على طريق المطار- في شارع صلاح سالم، وعلى جانبي جسر 6 أكتوبر أو تلك التي تمتد على مرمى الأفق خلف الحسين والأزهر مثلاً، يشدك صوت الألوان في الأبنية القديمة، الألوان التي تنام كببغاء رمادي اللون، وتكرر ثغاءها الباهت خلف الألق الضائع. 
للقباب وقع رقصة الصوفي، تنفتح على استدارة محملة بالنقش البديع، وتكتفي بارتفاعها المثير، تبدو لوهلة مثل الراقصين في حضرة الله، غائبة في الحضرة، حاضرة في التجلي الكثيف، وتبدو أحياناً مثل قفير النحل، تفتح باباً من خيال على العسل الكثير، وترفع سماوات من زرقة وقطن. بعض القباب تضع عصبة من لون واحد، الوردي مثلاً، كالمتحف المصري، وآخذها على مقصدها البسيط.
الكباري، تمتد لتسلم العابرين للعابرين، تلك هي وظيفتها الأزلية، لكنها كثيراً ما تُتأتئ بلغة مبهمة، قف قليلاً على كوبري قصر النيل، وفسر السلام والكلام والصوت الخفيض. كلام الدرابزينات الضخمة القديمة المخضرة الجميلة التصميم المائلة أحياناً على الكباري هناك، حيث تبدأ أوركسترا ما، عزفها الطويل، تختلط أدوات صناعة اللحن بهمس عاشقين كتبا اسميهما على قاعدة أحد أعمدة الكباري الكثيرة، أو على الحديد الذي يقاوم الصدأ، يقول الكوبري: كان هنا عاشقان، وهنا أيضاً كان عاشقان، ويبدأ بإرشادك إلى خارطة الأسماء الوالهة. 
رغم اهتزاز، لم تخطئه آذاننا، خلال مرورنا راجلين على كوبري قصر النيل، إلا أن فخامة ما لا زالت توحي بالثقة، فلم أخَفْ، تذكرت دعاية لإحدى مؤسسات مصر تؤكد لك أن حضن مصر آمن. تبدد الوحشة أصوات الازدحامات على الكباري مثل كوبري 6 أكتوبر، والباعة بلون طين النيل، والشمس المائعة اللون خلف ضباب أقل تلوثاً من الماضي، وأسود حديدية ضخمة على مداخل الكباري، وتوحي بحياة تنفجر من رمل المكان. للالتواء الخفيف المتوحش المتوثب في أعناق الأسود الحديدية طعم العنفوان. هي هناك، لا لأنها فائض عن حاجة الاستخدام البسيط لليومي المشاع، ولا لأنها انعكاس لنرجسية المصمم الفذ على طوق النهر الكبير، أنا هنا، تقول، أحمي أسماء العاشقين على جسد الليل فيَّ. هي تقف حارسة لشيء ما، لوجودنا الحاضر، أو ربما للماضي الذي يجري تحت جسور أرواحنا، أو للماء المقدس حيث تنادي هميس، آخر عروس نيل، وآخر قرابين العذارى الحارسات المبتهلات للمطر. 
التماثيل: حالة تجاوز لنقص 
في كل ميدان ترك المصريون تمثالاً: محمد طلعت باشا، الرجل الذي يؤشر بأصبعه كما تسميه الدليل، تمثال النحاس باشا أو تمثال صغير لسيمون بوفوار في جاردن سيتي، وآخر في مدخل الدقي سقط اسمه من ذاكرة مزدحمة، التماثيل تتعب حين يتعب التاريخ، كلها مفتوحة الأعين. جربت أن أسأل أحدها عن وجهة القلب، فانشطر. وهناك أيضاً، تفترش الأرض – في ساحة الحسين، مثلاً – تماثيل لرجال ونساء، وتنتشر أحياناً بين شجيرات تزين جُزراً خضراء في الميادين وتحتمي بورق شجرها الخفيف، تهرب من فقر إلى نوم، أقول تماثيل وتكاد نصدق، لولا الرائحة.
شدتني أصوات تماثيل النساء المعلقات في فضاء مفتوح على كل شيء في منتصف أقواس شبابيك ضخمة جداً لقصر شامبليون الفخم المهمل، الذي يقع خلف نقابة الصحفيين المصريين. ناداني تمثال رأس المرأة الحزين المعلق، خيل إليَّ أنه حزين، رأس وحيد تخلص النحات من جسده بلا سبب واضح، ماذا يفعل رأس دون فورة الأعضاء، ماذا يقول دون قدرة على دعوة الحياة إلى الرقص في مجاري الدم، هو مجرد رأس مشلول غير قادر على تجاوز نقصه، وغير قادر على ترك غضبه على قدر البتر وتظاهُر السادة الغارقين في التخيل والتمني بالحزن الجليل. الكمال يحيط بنقص وسؤال، على الجانبين تمثالان كاملان لامرأتين جميلتين ترتديان غلالتين شفافتين تكشفان عن أنوثة، تفرض نفسها من نقش الحجر في أعلى الأقواس وتبشر بقيامة الورد المقدس من تحت القماش، لكنهما يشكوان تعلق المارين بالوجه الحزين. ماذا تعني هذه المسرنمات غير دورة كاملة للنقص في نصف قوس، وبماذا توحي؟ أراها تنحاز لـ”لو”، وتنكسر دواماً لمن لا يرى سوى الانحناء في قوس الألوان. 
ابتكار وخفة روح: باذنجانة في معرض غزل
تتعبك الأصوات الباطنية، تغلق روحك قليلاً، كي لا تذبحك الأسئلة التي ليس لها إجابات. الأصوات المعتادة ومخارج الحروف التي تشرح نفسها بخفة مباشرة تبدأ بالعلو. يعاكس رجال في ميدان التحرير النساء العابرات، هناك سمعت أغرب “قفشة” غزل على الإطلاق. الرجل الذي يجلس جهة اليمين، وخلفة المتحف المصري، يحاول أن يجتهد في لفت انتباه جميلتين متعبتين تسيران في الميدان، يحاول أن يجرب “قفشة” جديدة جاذبة، وتسمعه يرمي الكلام الغريب: “تعبانة تعبانة، بس بتننجانة”، باذنجانة، تخيله يقولها بعفوية هكذا، وحاول أن تستوعب أن توصف امرأة بالباذنجانة، وأن ترد كلمة كهذه في معرض غزل! ضحكت طويلاً، تخيلت أنني أرمقه بغضب، مثلاً، وتخيلته يرد “دي ماطلعتش بتنجانة، دي طلعت بابا غنوج”. دائماً تذهلنا قدرة الشعب المصري على اجترار النكتة وتركيب الصور الجديدة، ونقع غالباً في سباق المسافة إلى روح النكتة العالية. 
تحبهم، شعب مصر، من قلبك: لا تملك إلا أن تحب آلاء رفعت، الصحفية في وكالة الأنباء المصرية، حين تأتي بتلك المصطلحات الفريدة لتختصر الكلام العادي، يسهل أن أتذكر من ضمنها: “اتدلق زي الجردل”، والورق “باش” يعني تبلل، أو “راشقة”. أحب مخارج الحروف السلسة في لهجتها المصرية الجميلة وانتقاداتها الدائمة لي “انتِ بتتكلمي مصري كويس، كلمة “يختي” دي لوحدها تديك الجنسية، بس احنا بنقول مسا الخير أو السلام عليكو، مش يسعد مساك”، اتعلمي بقى، وتضحك. 
كان قمر مصر عالياً جداً، وكانت هند مختار، الصحفية أيضاً في نفس الوكالة، تمشي في الشارع مثل فراشة، كاميرا جوالها توثق كل لحظة ممكنة، تشرح بفرح كل ما تعرفه عن تاريخ نمر به، تقول “دي تعتبر حديثة جداً بالنسبة للآثار الفرعونية أم سبع تلاف سنة”. تبتسم أمام مسجد جميل التصميم يسمى مسجد برقوق، وتقول: سمي برقوق “لأنه كان جاحظ العينين”، ونضحك. نسير بالعكس من الأحدث إلى الأقدم، نمشي في أزقة خان الخليلي ونخرج إلى شارع المعز، ونسير طويلاً وصولاً إلى بوابة مصر القديمة، أحسست أننا فعلاً انتقلنا بالزمن إلى تاريخ سابق، حتى لكأنني رأيت أن حصاناً يخرج من البوابة حاملاً فارساً ضخماً. ماذا الذي سيفعله فارس من زمن غابر في شارع المعز؟ يمتهن السياسة، ربما يلقي نكتة عابرة؟
تذكر الصديقتان الساحرتان أسماء الأمكنة، تناقش آلاء معي مواضيع روايات مختلفة، ونتحدث عن أشياء لم أقرأها أنا وأشياء لم تقرأها هي، وتصر هند على إهدائي مجموعة كتب، اشتريناها من معرض الربع الثقافي، حيث يعرض شبان بمبادرة منهم، عدداً كبيراً من الكتب المتخصصة في الهندسة والزراعة والطب والأدب وأدب الأطفال، الخ، بلغات ثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية. في شرفات المبنى الداخلية المطلة على ساحته المربعة، بعض الكتب القديمة، وقعت في يدي قواميس متخصصة صدرت عام 1967 أو 1974 و1982، لكن أغلب الكتب حديثة، تباع بعشرين جنيهاً للكتاب وأحياناً بعشرة، فيما تباع مجلة متخصصة للأطفال بجنيهين، ويقع هذا المعرض في مبنى قديم، بتصميم لم آلفه في الأبنية المصرية وأقصد شكله المربع الذي يرتفع لطابقين، وساحته الداخلية غير المبلطة والتي تحتوي على نقش مستطيل من بلاط مكسر، ربما هو بقية لأرضية درست. 
تصر آلاء على دعوتي إلى أكل الحمام المحشي في “فرحات”، أقدم مطعم في مصر، يزيد عمره عن مئة عام، ولا يزال يحتفظ بشكله القديم دون تجديد أو إضافات ديكور مغرية. لاحقاً تناولنا الطعام في “قدورة” للسمك، والذي أنشئ عام 1952، و”أبو شقرة”، الذي يعد أيضاً أحد أقدم مطاعم القرن العشرين، والتي تقدم نفسها من خلال ديكور حديث وفي مواقع مميزة في شارع جامعة الدول العربية، المهندسين، وفي مكان لا يبعد كثيراً عن شارع سوريا، حيث يقدم طهاة سوريون أشهى الأطباق الممكنة.
دعتنا آلاء إلى جولة في النيل على سفينة سكاربيه التي تتخذ من كورنيش جاردن سيتي مرفأ دائماً لها. كانت السماء والماء والكباري تتوارى خلفنا، وكنا نسبقها إلى أماكن أخرى من مصر. اقتربنا من فندق سوفوتيل على طرف الجزيرة، تلك التي تقسم النيل في وسط القاهرة، إلى ممرين أضيق، وتقام عليها أهم معالم القاهرة مثل ميدان التحرير والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، الذي زرته هذه المرة ممثلة لفلسطين كرئيس لوفد الخبراء الإعلاميين العرب لتشكيل عضوية اللجنة الدائمة للإعلام العربي وتعديل النظام الأساسي لمجلس وزراء الإعلام العرب، وكذلك المتحف المصري ودار الأوبرا. تقترب المعادي منا بهدوء يشبهها، ونقترب منها بصخب أرواحنا، وتنخفض الأبنية في المكان الراقي، ويصبح النيل أوسع. 
المرايا: لعبة المكان الساحرة
على شاطئ النيل، أقيم “فرح مصري”، سمعت تلك الموسيقى “الصعيدية” التي عرفناها من الأفلام المصرية، وتراقصت المفرقعات النارية في جهة أخرى. الماء لم يكن عالياً، كأن النيل يرحب بضيوفه على طريقته الخاصة ليلاً، فيما يمكنك أن ترى انعكاس الشمس صباحاً على سطح مائه كنجوم تدور مسرعة في مجرة. تحملك خطواتك إلى هذا الجمال وترى وتصغي، وكما الموسيقى كان هذا الالتماع، قادراً على جعل روحي أكثر نقاء وجسمي أكثر خفة وقلبي أكثر فرحاً. إزاء ذلك كله، قلت لمن معي: هناك ألف سبب للموت، ربما، لكن هذا المنظر وحده، سبب كاف للحياة.
المقاهي، ظاهرة جميلة في مصر، يجلس الرجال والنساء على مقهى وادي النيل، والأمريكان، والفيشاوي، والمقاهي المتناثرة في خان الخليلي، يشربون “البن المحوج”، والشاي “أبو فتلة” والزنجبيل وطيف واسع من المشروبات. 
مقهى الفيشاوي أحد أقدم المقاهي في المحروسة، أنشئ عام 1710، كما يظهر نقش بارز على باب غرفة داخلية، غرفة لا يرتادها أحد من زوار المقهى الضيق المستطيل الشكل بسقفه المرفوع على أقواس جميلة، ويزدان بالنقوش والأرابيسك والنحاسيات القديمة رغم أن مساحته لا تتجاوز 2م على أقصى تقدير. 1710 تاريخ ليس بالقريب، لكن المقهى لا يزال قائماً، ويمتنع أصحابه عن ترميم تلك الأجزاء المتساقطة من السقف، أو إعادة دهان أطر المرايا الضخمة التي تملأ جدران المقهى الداخلية والخارجية. في منتصف المقهى، مرآة بالغة الضخامة، يبرز لون الخشب الداخلي الفاتح من ثنايا صغيرة في لونها الأبنوسي، وفيها كسر مائل يرتفع من منتصفها 20 سنتيمتراً تقريباً إلى الأعلى ويبدو كعشبة جافة، أو كنهر يسحب الكثير من رسائل الأرض إلى البلور. حين لمسته، تساءلت: هل يرتفع الكسر، هل هناك كسر يعلو، هل للكسر وظيفة أخرى خلاف ما نعرف؟ 
عادة ما يكون الكسر لئيماً، لم يجبني حين سألته: ما الذي قصده حين لم يكتمل؟ هل كان هو وسيلة المرآة لذرف الدمع حين ينام المغني؟ هل كان ينوي إكمال طريقه ليصير طريقاً لنا؟ كان البلور يبتلع الكسر تماماً، وكان الكسر يبتلع ذاته ويسيح في اللوحة المتحركة. في أماكن كهذه، يمكن أن نجد إجابات مختلفة، ومفاجئة، وربما تتعلم أيضاً كيف تطرح الأسئلة. 
يشعر أصحاب المقهى بالفخر، يشير أحدهم مرحباً ومبتسماً إلى واجهة ملأى بالصور في الغرفة الداخلية، حيث تتناوب الصور والأرابيسك على مهمة التوثيق، وتتبادل الأدوار في منح القيمة. من يعطي الأهمية لمن؟ ويعدد الرجل أسماء أبرز الشخصيات التي زارت المقهى: الملك فاروق ونلسون مانديلا… يستمر فيض الأسماء، وانظر مجدداً في المرآة الضخمة في الداخل، واحدق بما يشبه عيني البوم في منتصف إطارها الذي لا يوجد في المكان أعرض منه، أو أغمق منه لوناً. شعرت بقليل من الارتباك، وتركت المكان.
في الفيشاوي، استعدت رابطاً مع الخرافة. هناك، أحسست أن للمرايا الضخمة أرواحاً، تحتفي بالغبرة الغائرة في نقوشها العميقة، وتبتسم. المرايا ترحب بنا، أحسست أنها تبتلع المكان والزمان وصورنا. عالم موازٍ، والشخوص هناك يشبهوننا، يقلدون حركاتنا المائعة، ويقتربون من الأطر حين نهم بالرحيل. يسدل سيد المرايا الستار عن مشهد يحمل صورنا، ليبدأ مشهد آخر. ربما لو صمتنا قليلاً لسمعنا أصواتها تحكي عمن مروا هناك، لو أصغيتُ قليلاً لسمعتها، ربما، تذكر اسمي، ولربما سمعتها تضحك من مشهد سيدة جلست خلفي مباشرة، في الزاوية المطلة على الشارع الضيق، وهي تصرخ برعب بسبب قطة مرت أسفل مقعدها، للناس فوبياهم الخاصة، وللمرايا لؤمها الجميل.
في الفيشاوي، ينتظر الليل لينفتح باب في المرايا. سحبت شبيهتي، من الكسر المائل، وخرجنا. هي معي هنا، نكتب النص وتدهن الكلمات بالبلور والفضة المذابة، وتحمل حكايا الأرابيسك، أواني النحاس، المذياع ذا الأصابع العاج في أعلى الزاوية عند المدخل الأيمن، إطارات المرايا الضخمة التي تعاقب على حفرها نجارون مصريون تناسخ في أيديهم أسلافهم وأقواس تحنو على العابرين. 
أشياء تعلو على التاريخ وأخرى لا تعلو على المقدس
للبنايات في مصر فرادتها، عادة تبدو عالية جداً ومكتظة بالناس. ما خلا الأبراج الحديثة، غالبية الأبنية قديمة أو قديمة جداً أو آيلة للسقوط، لكنها لا تزال تحفل بسكانها. كلما ظن الرائي أن الحداثة سادت الأحياء الجديدة في مصر، فوجئ بقصر بهي كانت تسكنه إحدى الهوانم يختنق صمتاً بين العمارات العالية، ويحتفي بمعماره المتفرد الأنيق بأنفة وصمت. العشوائيات الواطئة تغص بالبشر وتمتد حتى تظن أنها لا تنتهي، ككل شيء في مصر.
برج القاهرة مرتفع جداً، هو لا يعلو على التاريخ بقدر ما يعلو على السياسة، يرتفع البرج 187 متراً. قال لي أحدهم: أراد الأمريكيون أن يساوموا عبد الناصر على بناء السد العالي، وعرضوا عليه عشرة ملايين دولار، أخذ الرجل المال، وبنى البرج ثم قام ببناء السد العالي. هكذا، لا يزال البرج يعلو على رغبة الذين لا تاريخ لهم ويريدون مصادرة مستقبل الآخرين، ويسعون إلى تدمير كل تاريخ في المنطقة العربية يزيد عمره عن 500 سنة، لتتساوى الرؤوس في القدم/ الحداثة، ربما. 
في خان الخليلي يقع الأزهر ومسجد الحسين، وحيث يخضع الأزهر لعملية ترميم، فإننا لم نتمكن من دخوله، فيما تجلت في الحسين سلطة دينية صارمة، يقررها الرجال كالعادة، فهم يمنعون النساء، من دخول الجزء الأعظم من المسجد بحجة أنه مخصص لهم، تُمنع النساء من رؤية السقف المخشب المائل إلى الاخضرار، والذي يشبه إلى حد ما سقف الممر المخشب الذي يؤدي إلى المحراب في المسجد الأقصى، وكذلك الأعمدة البنية الكثيرة التي تملأ المكان، والثريات التي تدور حولها أقمار الضوء الزجاجية الموزعة بشكل دائري. المشهد ذكرني بعباءة الصوفي حين تصل أقصى اتساع لها، ويحصل الكشف، كيف رأيتها، وكيف أصفها؟ طبعاً تحديت – بقدر ما يلزمني- الرجال الذين تدخل عدد منهم لمنعي من الوقوف بالباب الكبير، قابلتهم بحزم هادئ، ثم تجاهلت وجودهم، واستمروا بالنظر إلى بحنق. بحزن تذكرت كيف تفتح كل المساجد الاثرية في سوريا وإسطنبول والقدس أبوابها للجميع لمشاهده البدائع، أما هنا، فلا. بسعادة رأيت أفلاك الضوء في مداراتها كأقمار الأمسيات الرائقة، بينما الرجال ممتعضون، وقبل أن أودع المكان، فكرت بمن ذهب إلى تقسيم بيوت الله. 
النساء يحتشدن في الجزء الصغير المخصص لهن، والمقسم إلى جزأين: مكان للصلاة بمحراب مزين بالرخام يستوطن طير من الحمام أحد شبابيكه العالية التي تطل بعين واحدة على الجزء المخصص للصلاة خارج الضريح، ثم، مكان الضريح الذي يقود إليه باب ضخم، يعلوه قوس غير مزين بالنقوش التي تراها تؤطر الباب. النساء يقرأن الفاتحة، برفقة أطفالهن، يستنجدن بالحسين، لقضاء الحوائج والشفاء من الأمراض، بإيمان وخوف وهدوء يميل إلى الصمت الذي يتخلله بعض التدافع الخفيف بسبب ضيق المكان المقسم إلى نصفين بفاصل من خشب الأرابيسك يرتفع متراً أو يزيد قليلاً ويمتد من منتصف الضريح أسفل الشبابيك المسيجة، باتجاهين متعاكسين، ويفصل النساء عن الرجال في الجهة المقابلة ويحجب الضريح غالبيتهم عن الأعين، وبعضهم يُرى، فيما لا يفصل شيء عن الله، هؤلاء الرجال والنساء الذين قالت لهم الجدات أن الحسين يحمل دعواتهم ويحققها، تراهم يضيئون الشموع بخشوع وصمت. هنا، ينطق الصمت الذي لا تسمعه في شوارع القاهرة العامرة.
رجلان يجلسان على مدخل الباب المؤدي إلى الضريح المجلل بالفضة وتتوسطه الثريات الكبيرة التي تحمل مصابيح دائرية، يبهر عيناك ضوؤها- إن نظرت إلى أعلى، فتمسح يد من عتمة نقوشاً بديعة وكثيفة في سقف المكان، لكنها لا تغطي على رخام أبيض مطعم بدوائر من الرخام البني مرسومة داخل مستطيلات عمودية من نفس اللون، تزنر المكان وتمتد على ارتفاع يزيد على المترين على طول محيط جدران المقام، إضافة إلى مستطيلات مشابهة لها ومفرغة من الرسم والنقش، تمتد على الجدر بشكل أفقي، ذكرتني وأنا أتأملها بتلك النقوش التي تزين الجدران الخارجية لمسجد الجزار في عكا ومدخله الجميل. 
أحد الرجلين اللذين فيما يبدو، يحق لهما دخول المكان، والجلوس به والاختلاط بالنساء، على العكس مما يحدث في الجزء المخصص للرجال، يعلق بابتسامة محذرة، فيما تشير يده إلى كرتونة ورقية مفتوحة للتبرعات يحملها زميل له، “حاجة لله، بدال ما تصوري”، وارفض… لا مال يصل إلى الله هكذا، ولا دعاء يصل إلى الله من خلال أحد، لكنني اعتدت أن أضيع بروحانية الأمكنة.
في خان الخليلي، رأيت طالبة مدرسة سمراء صغيرة، تبلغ من العمر سبع سنوات، تقريباً، تشتري من بائع متجول قطعة حلوى، وتحمل على ظهرها حقيبة مربعة، جديلتاها نيلان صغيران، وابتسامتها تثير غيرة حورس في علاه، تمشي بثقة، كملكة، وتنظر إلى السائحين بأنفة شهية عالية، تمنيت لو كلمتها، هن كذلك نساء مصر: شفافات، قويات، واثقات، وإذا لزم الأمر “بيْسيَّحوا” لمن يمسهن بسوء. 
هناك، في الخان، تسأل النساء البائعين عن بضائعهم، يساومن على سعر أقل، التقطت أذني امرأة حنطية تقول: “يعني الكلمة اللي تجيب البيع والشرا”، لتحصل على سعر نهائي من البائع، أعجبتني الجملة، طلبت إليها إعادتها، تفاجأتْ وخجلتْ، لكنها أعادتها ببطء جميل، ضحك البائع وحفظتها. 
في الشارع أمام الحسين، سائق سيارة أجرة لم يقبل أن يقلنا، انتبه إلى مسبحة اشتراها زميلي عبد الجابر النبالي، ورغم جمالها، فقد لفتت نظره حباتها التسعة والتسعين التي لا فواصل بينها، وعرض أمامنا سبحته الخشبية “الإسلامية” التي تفوح منها رائحة عطرية. عبد الجابر، رد بذكاء: الله لا ينظر إلى مسابحنا”. سائق سيارة أخرى يقلنا إلى شارع شهاب بالمهندسين، يلخص الوضع في بلادنا العربية، فكراً وإدارة، بقوله “كل واحد عندنا بياخد باله من عياله بس، محدش له دعوة بعيال الجيران.. والصهاينة جايين بمشروع”. الرجل الذي لم يحصل على تعليم كافٍ يختصر الحكاية ببضع كلمات، مضيفاً: “ليس في مصر وحدها، بل في سوريا وفلسطين…”.
المصطلح حنكة الخبراء والإعلام يسطح للوعي
للمصريين مصطلحاتهم الجميلة حتى أثناء ركن السيارة، يقولون، مثلاً: “لِمّ عجلك”، ولهم مصطلحاتهم الخاصة في كل شيء، وهو ما يميز هذه اللهجة، ويجعلها مختلفة وباهرة ومفهومة في نفس الوقت، ويعكس قدرة المصريين على الابتكار، كما يعكس عمق ثقافتهم ووعيهم وقدرتهم على إثارة الدهشة دائماً، إلا أن ما تبثه بعض الإذاعات يثير الاستغراب والتساؤل. إحدى الإذاعات التي استمعنا إليها على كوبري 6 أكتوبر أثناء أزمة مرورية اعتيادية خانقة بثت صوتين لمقدمي أحد البرنامج، شاب وصبية، يضحكان بشكل مستمر، لا يكفان عن مقاطعة بعضهما، ويتفوهان بلا أشياء، المأساة أن الشاب أعاد أربع مرات ما أسماه “اللغة المصرية”، تساءلت: هل يعي أنه ينزع مصر ولهجتها الآسرة التي سرعان ما ننغمس في تقليدها- بعضنا بشكل أقرب إلى الإتقان، على ما نأمل، وبعضنا بشكل يثير الضحك- من نسيجها العربي ويدمر ما نسميه الرابط اللغوي أو وحدة اللغة، ويعمل على تسطيح الوعي المصري، أم أنه يعي ويدرك فعلاً ما يقول؟ 
الكثير من الإذاعات تبث أغاني هابطة، لكن إذاعة الأغاني، تتخصص في بث الأغاني القديمة حيث تبدأ كل ساعتين وصلة بث لمغنٍّ فخم، الساعة التاسعة صباحاً لفيروز والواحدة ظهراً لعبد الوهاب والثالثة عصراً لـ”أم كلثوم” أو ثومة كما يسميها المصريون، والخامسة لفريد الأطرش والسابعة لحليم، وغالباً التاسعة مساء لمحمد فوزي، وهكذا. سررت جداً.
نيل من الأصوات 
الأصوات كثيرة في القاهرة: أصوات المتجمهرين على أبواب حلويات العبد في شارع طلعت حرب، والذين يقفون في صفوف أمام بواباته وشبابيكه الأربعة لشراء حلوى العيد وعرائس المولد الشهية، السيدات اللواتي يرددن أغاني للحسين، أصوات الباعة في العتبة، أجراس الكنائس القديمة جداً قدم مصر، الأذان العالي في مساجدها الكثيرة التي تتزين للمولد النبوي، كما تتزين الكنائس لمولد السيد المسيح، صوت التاريخ من أمكنة لم نصل إليها: الأهرامات التي لا تعني لي مشاهدتها شيئاً بقدر ما تعنيه تجربة التجوال داخلها وتسلق أحجارها الضخمة، وهو ما لم يكن ممكناً في زيارتنا القصيرة هذه، الأصوات القادمة من أسوان والسد العالي والأقصر ومعبد الكرنك، جنوباً، وهمس بحر الرمال في سيوة وخرير عين كليوباترا، غرباً، وصوت النوبة، بلاد الملكات، حيث الأهرامات الصفراء تفترش شمال السودان وأرض النوبة، تحمل عظمة الملكات وإرثهن العظيم، كلها تصل مرحبة، ولا يسعفني الوقت القصير لها.
نيل من الأصوات يجري، ويلزمني الكثير من العمر لأسجل كل ما سمعت في موئل الأصوات العالية.. الباقية. 
للحضارات القديمة أسباب خلودها ورموزها المتشابهة، وتاريخها الباهر، زهرة اللوتس رمز اشتق اسمه من كلمة لوتاز التي تعني الجمال. في الديانة البوذية. اللوتس رمز، وكي يعيش الرمز، ينبغي أن يتم دفنه، هكذا يحيا بعد ذلك من جديد، والتقمص يدل على كل شيء حي وميت في نفس الوقت، وتشير إليه زهرة اللوتس. في مصر، التي تبدو كزهرة لوتس عملاقة من الفضاء، يمثل اللوتس بنوعيه الأزرق والذي تتفتح أزهاره صباحاً وتقفل بتلاتها مساء، والأبيض الذي يقفل بتلاته صباحاً ويتفتح ليلاً دورة الحياة والموت والبعث، زهرة اللوتس تتوج برج القاهرة وكل الأعمدة، وبنقوشها تمتلئ المقابر الفرعونية والمعابد. 
لم أنجُ من المكان، ولا من الأصوات العالية، كما لم أنجُ وأبنائي من الكتابة، كتب عمر ورغد وزينة لي خلال وجودي هناك رسائل محبة واشتياق ويوميات، وحين عدت، وجدتني أكتب لمصر محبة واشتياقاً ويوميات سفر.
* شاعرة وكاتبة من فلسطين.

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

تعليق واحد

  1. عبد الوهاب الشيخ

    من أجمل ما قرأت عن مصر وأهلها كتابة نافذة تقنص روح المكان وساكنيه والزمن وحقبه من خلال الصوت واللون والروائح واستبطان المعاني الكامنة وراء الملامح والإشارات .
    دام جمال فؤادك مبدعتنا القديرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *