*بسمة النسور
في يوم شتائي ساحر، تبدو الأمكنة والأرواح في عمّان أكثر تسامحاً ورحابة. تتجلى خصوصية هذه المدينة الغامضة حد الفتنة، العميقة المركبة، على الرغم من البساطة الظاهرة والخفر الذي لن ينطلي على متأمل، تغريك الأدراج والزوايا والأزقة للمضي في الاكتشاف. تأخذك الخطى الفضولية صوب مفردات الجمال المعتق الغائر في عمق الذاكرة، تستسلم إلى سطوة الفضاء الدافئ الحنون وسحره، انطلاقاً من شارع الرينبو الذي اكتسب اللقب القزحي الملون، نسبةً إلى سينما قديمة شهيرة، حملت الاسم نفسه.
يستقبلك الشارع الأكثر شعبية ببلاطه الصغير الأنيق المصفوف باعتناء، ما يجعل لعبوره سيراً على الأقدام متعة خاصة، ترغب في استبقائها طويلاً، خصوصاً إذا نثّت غيمة سخية على نحو مباغت بضع قطرات حنوناتٍ، علقت بعضها بأطراف ثيابك، تتجوّل باسترخاء صاحب مكان تغمره الألفة، حيث المقاهي ذات الطابع التراثي الأنيق تتوزع على جنباته، وتتيح لروادها إطلالة استثنائية على البلد، تجتذب الشباب والصبايا في استعادة ضرورية لملامح ماض جميل، تنتشر على أطرافه شوارع خلفية موازية البيوت العتيقة بشحوب حجارتها الأخّاذ، وبمعمارها المميز، وحدائقها المكتظة بأشجار الليمون الحبلى بالحبات الصفراء، متدليةً خارج الأسوار الواطئة، بإغواءٍ تصعب مقاومته، تغريك حبات الليمون المكتنزة لالتقاط إحداها بخفة سارقٍ رشيق غلبه الرحيق، مطمئناً إلى مشروعية ذلك السطو البريء غير المسلح، يتسنى لحواسك المتعطشة للدهشة أن تغبّ قطراتها برائحتها النفاذة، الكفيلة بنفض أعراض الكآبة والضجر عن روحك، المثقلة بالعادي والمتكرّر والمألوف، مروراً في شارع خرفان العريق، بشرفات بيوته المتلاصقة، وحبال الغسيل المنصوبة، محملة بالثياب المستعصية على الجفاف، جرّاء آخر (شتوة)، وأولاد الحي يودعون، بصخب جميل، آخر أيام الإجازة المدرسية، هبوطاً بدرج رقم واحد، أو كما أفاد أحد سكان المنطقة “درج الزعامطة”، وهو واحد من تلك الأدراج العمانية السحرية الكثيرة التي تقودك، كما لو كنت مسيراً مأخوذاً بالإطلالة البديعة، لتجد نفسك في (نص البلد)، كما يقول العمّانيون، بلهجتهم الدارجة، تحديداً في قلب شارع طلال من دون أن تستقل أي وسيلة نقل من أي نوع.
هكذا، وبلا تمهيد كبير تجد نفسك منخرطاً بشكل عفوي في إيقاع الحياة وضجيجها، تغذ الخطى مع العابرين، من دون أن يكون لك هدف محدد سوى التقاط أنفاسك، ونيل قسط من الراحة التي أصبحت بعيدة المنال، إثر جلوسك ساعات طوال أمام شاشة التلفزيون متابعاً بقلب واجف ما يحدث في الشارع العربي المنكوب على غير صعيد، تتوق كما الملايين من هذه الأمة عاثرة الحظ إلى إشراق لحظة عدالة وحق وحرية، تم تسديد ثمنها الباهظ سلفاً، وصعدت في سبيل نيلها أرواح شهداء ما تزال صفحاتهم على “فيسبوك” حافلة بالبريد الذي لم يقرأ بعد!
تضبط نفسك متلبساً بالأمل، على الرغم من كل شيء، تحس بالألفة مع الأماكن والوجوه، تتذكّر مدى عشقك أمك عمان، توشك على الاعتذار لها عن إغفالك إرهاف السمع أحياناً لدقات قلبها النابض حباً. يمنحك مشوارٌ إلى البلد حالة من البهجة المجانية، حين يقترح عليك أحد الباعة تذوّق كمشة زيتون بلقاوية بمرارتها الشهية، يصر على أن تشتري بعضاً منها؛ لأنك لن تجد أفضل منها في كل الأردن!، ولا يأبه لتبريرك بأنك نسيت أن تحمل نقوداً، يقول لك، بكل طيبة ومن دون سابق معرفة، (مش مهم بتدفع بعدين!). تستعيد ثقتك بالدنيا وتتأكد أنها (لسّه بخير).
تتأمل بفرحٍ غامر عمّانك الأغلى، تفيض بالتفاصيل، وتتدفق حيوية وشباباً، يخطر لك أن تتكئ على أحد جدرانها الشاهقة، حيث (العشب ينبت في مفاصل صخرة)، تتنشق هواء خالطه الوجد، تتخفف من تعبك كله دفعة واحدة، غير عابئ بنظرات المارّة المستهجنة، ناسياً أي تفاصيل إجرائية لا بد أن الخوض فيها سوف يعكر البال. تؤجل ذلك كله، وتهمس لعمّان، ذات الحضن المتسع الحنون الذي ضم غربتنا عند كل شتات، تقول لها وعنها، بحب درويشي خالص، ويقين تام: هذي الأرض لي.
___
*العربي الجديد