أصدقاء و”شيزلونغ” طبيب نفسيّ


*لانا المجالي


على غير عادتي في المشي، لم أنسجِمْ مع معزوفة قدميّ فوق الشّارع المتعرّج؛ فوقع خطوات صديقتي التي ترافقني أربك روتيني السّمعيّ. كان الإيقاعُ المنبعث من سؤالها المستنكر:” واال!، أين كنتُ أخبّئ كل هذه الهشاشة؟ “، جنائزيّا. تحسّستُ خدّيَ الأيمن تضامنًا مع وجعها أمام صفعة الاكتشاف، ثمّ ابتسمت لفكرة خزائننا السريّة أثناء بحثي عن أماكن محتملة لوجودها، قبل أن تستطرد في محاولة إقناع نفسها: “مع أنّ الحكاية كلّها لا تستحقّ؛ مجرد مشاعر إعجاب عابرة”، وما أن طال صمتها، حتى أدركتُ حجم ورطتي، خصوصا أن انتظارها لردّ فعلي بدا غير نهائيّ، هكذا وجدتُ نفسي أقول: ” عيادات الأطباء النفسيّين تفتقر إلى كرسي (شيزلونغ) الاعتراف، على الأقل .. تلك التي راجعتها”. لا أعرف كيف فسَّرَت ملاحظتي، لكنّني سمعتُ ضحكتها العذبة، وانتظمت الموسيقا من جديد. كنّا وقتها في طريق العودة. 
كنتُ أستطيع استعارة عبارة قالها الإيطالي لويجي برانديلوا في مسرحيته الشهيرة “ستّ شخصيّات تبحث عن مؤلف” على لسان الأب: “إنّ مأساتنا تتلخص في أنّ كلا منا يظن أنّه واحد فقط، وهو اعتقاد خاطئ؛ فنحنُ –كل شخص منّا- في الحقيقة، شخصيّات متعددة بعدد الإمكانيّات التي تكمن فينا”، لتفسير الهشاشة التي ألقت الرّعب في قلب “أمل” صديقتي.
“أمل”.. قطرة الماء الأخيرة التي صمدت فوق جدار علاقاتي المثقوب منذ أيّام المدرسة الثّانويّة، والفضل يعود إلى قدرتها العجيبة على التّسامح وتقبّل انشغال الآخرين بفقع البثور الدهنيّة التي تملأ وجوهِهم. لم تكتب نصّا أدبيّا واحدا في حياتها، لكنّها ، دون مواربة، كاتبة تحاول إقناع العالَم بأنّها امرأة عاديّة، فيما أستبسل – أنا المرأة العاديّة- كي أقنعهُ وساكنيه بأنّني كاتبة، ولا أبذلُ جهدا-في المقابل- لهَدْهَدَة بكاء أصدقائي الطَّويل بجملةٍ مقتبسة قصيرة.
لن أحوّل الأمر إلى تراجيديا، فأنا بشكل فطريّ ، لا أتقنُ تمثيل هذا الدور. لم أكُنْ صديقة جيدة لأصدقائي؛ الأمر يشبه أن تتقبّل كونك ضيفًا دائمًا بشهيّة مفتوحة لكل ما تبدعه قلوب أصدقائك من أصناف حلويّات في بيت الصّداقة، لكنك لا تتقن فن الطّهو، وغالبا ما يفتقر قلبك إلى مطبخ. هذا القصور الإنسانيّ، يعوّضه بعضنا بمهارات طبخ احترافيّة في بيت الحبّ، رغم سوء أخلاق الضّيوف الذين يغادرون فجأة، ببطونٍ متخمة، دون سابق شكر!. هذا قدرك، أو إمكانيّاتك –التي تحدث عنها لويجي- ، حيث تعيد اكتشافها خلال رحلة حياتك، لكنَّك لا تستطيع أن تخلقها من العدم، أو ربما، كنت ستفعل لو وجدتَ في عيادة طبيب نفسيّ تراجعه، ذاك الكرسيّ الحلم. 
خذلتُ معظم أصدقائي حتى الآن، لكن “فارس” الشّاعر حتى أخمص قدميه، يتربّع على رأس القائمة، فهو على عكس كثيرين، استضافني في بيت صداقته دون أن ينتظر مني أن أعزيه في مصائبه التي تبدأ بالوطن القنبلة، ولا تنتهي بالحبيبة الأفيون. هكذا؛ كان يعلِّقُ أحزانَهُ على مشجبٍ خشبيّ عند باب الكلام، ويدخلُ فارغًا إلا من صداقته تمسِّدُ رأس همومي التّافهة.
لا أعرفُ كيف انكشف جرحي الحقيقي الوحيد على مَرْأىً ومَسْمعٍ من “فارس”؛ غائرًا وطازجًا وبليغًا، لكنّه ارتكب خطأ فادحا عندما سمحَ لنفسه بمعاينته، فكانت القَطيعة. جروحنا تشوّه الصّورة التي استخدمنا “الفوتوشوب” لتجميلها قبل تسويقها على معارفنا، ونحنُ – للمفارقة- جروحُنا. أنا جروحي، وسنّيَ المنخور، لا ابتسامتي الهوليووديّة. 
لأنّني أفهم الأمر بهذه الطريقة، أغمضُ عينيّ –تأدّبا- عن جروح “مها” المكشوفة في بريدي، أمرُّ عليها عمياء وخرساء، فيما تواصلُ الكتابة لي عبر “الفيس بوك” منذ أعوام دون أن أردّ عليها بكلمةٍ واحدة؛ تفتتحُ رسائلها بنداءٍ عذب: “لانا. يا لانا”، ثمّ تفردُ أحلامها وتفاصيل حياتها اليوميّة، تطرحُ أسوأ مخاوفها. تحلّلُ ردود أفعالها على أحداثٍ تعتبرها استثنائيّة. تسألُ وتُجيب. تبكي وتمسح دموعها بكمّ قميصها الأبْيَض، تضحك ثمّ تدعو الله أن يهبها خير هذا الضّحك. تعتذر عن ثرثرتها ولا تنسى أن تسأل عن أخباري. تتمنى ليلة سعيدة. تغلقُ الباب خلفها بهدوء ثمّ تُغادر على رؤوس أصابعها. لا أنتظرُ منها أن تغطّي جروحها برقعٍ مزيّفة، ولا تنتظر منّي ضِمادَة؛ في علاقةٍ أستطيعُ أنْ أطويها في دُرْج الصّداقات غير المُكلِفة، بعد أن تواطأنا دون تخطيط على التّحرّر من فائض الانتظار. 
أستمتعُ بمحاولة التَّنبؤ بتعليق “مصطفى” حول حكايتي مع “مها” التي حرصتُ على إخفائها. أجزمُ أنّه سيقول دون تردّد: ” مُجرمة “، ثمّ يبدأ بممارسة هوايته في التّحليل النفسيّ لاستنباط الدّوافع التي قادتها إلى مثل هذا السّلوك، قبل أن يخضعني إلى أحكام “فرويد” وأتباعه ومعارضيه، لافتًا إلى تاريخي المُثخَن بأمراض “جنون الشكّ” و”الشّيزوفرينيا”، ومشيرا إلى آرائه الخاصة بنزعتي “التّفكيكيّة” دون أن يغفل التّنبيه إلى ميولي الفطريّة نحو الاستبداد وإيذاء الآخرين.
علاقتي مع “مصطفى” الفيلسوف و”نصف المحلّل النّفسيّ” وبحر المعرفة – الذي حاباني القدر بصداقته- لن تنتهي إلا بموتي منتحرة في روايةٍ سيكتبها؛ هذه ليست نكتة، ولا يستطيع كلّ الفلاسفة والعلماء وأطباء علم النّفس- الأحياء والأموات- الذين ينامون ويأكلون ويشربون في كُتبه، إقناعه بأنّ صديقته “المجرمة” ستموت على فراشها، بعد معاناةٍ طويلة مع أمراض السّكري وارتفاع الضّغط وضعف النّظر، بسبب ألواح الشيكولاتة الفاخرة، والقهوة اللبنانيّة، والكتب الفكريّة المترجمة التي يرسلها إليها عبر مكتب البريد السّريع الرسميّ، بين فترةٍ وأخرى. 
تنازلتُ أنا الأخرى عن حقّيَ المشروع باختيار ميتة هادئة، وغذيّت دائما هاجسه الّلدود: “أشعر بنوبة اكتئاب خانقة، انصحني بطبيب جيّد؟”. يعلن حالة التّأهبّ القصوى، ويرفع من درجة استعداداته؛ يستجوبني حول العلامات التي أشتكي منها ويراجع تاريخي المرضيّ. يفتح كتبه. ينصحني: “للأدوية آثار جانبيّة. أفضّل استخدام وسائل أخرى”. أزيد جرعة المشاكسة: ” لم أعثر على كرسي اعتراف في عيادة الطّبيب”، يجيب بآليّة: “هناك فرق بين الطّبيب النّفسي والمحلّل..”، ثمّ ينتبه للفخّ وتهزمهُ طبيعته النّقيّة، فيصرخ: “هيا اعترفي. هل راجعتِ واحدا بالفعل؟”. 
تجاربي مع أصدقائي المخلصين الذين أحاطوني بمحبّتهم الغامرة وطيبة قلوبهم، واحتملوا مزاجيّتي ونَفَسي القصير وبطء حركتي في ميدان الإيثار والتّفهم والاهتمام، أكثر وأكبر من قدرتي على محاولة سرد تفاصيلها كلّها، لكنّني لم أعد آبه بالطّريقة التي سأموت عليها، والآن .. وقبل أنْ يزورني الأجَل المحتوم بمرضٍ خَبيث أو طيِّب، أو قذيفةٍ صاروخيّة، أو نتائج لوثة اكتئاب حادّة، سأهتفُ صادقة وممتنّة: “أشهد إنّني عشتُ يا الله”. 
” الحقيقة. لا شيء غير الحقيقة”؛ يجيب مصطفى عن سؤالي الأزليّ:”كيف ستكتبني في روايتك المُشتهاة؟”، ويستطرد موضحا: ” عندما أخبرهم الحقيقة، بعد موتك. سأدفع بأعدائك إلى جهنّم حبّك”، وقبل أن تنتفخ أناي، يُضيف:” وأجبر بقيّة المغفلين الذين شعروا بمحبّةٍ تجاهك، على إشهار كراهيتهم ضدّ كلّ ما يخصّك، ولعنكِ إلى يوم الدّين”.
___
*المصدر: الجسرة الثقافيّةالإلكترونية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *