الشارع الواسع اليقظ


*أيمن عبد السميع حسين


سأبدأ من هنا، خلف قسم الشرطة المتداعي، كان الشارع، الواسع، اليقظ، يغص بالمارة، حيث الجو المُفعم بالروائح القديمة، وها هي الروائح تقفز إلى أنفي متعاقبة، روائح الطهي، روائح صابون الغسيل (المدلوق) على الطريق الإسفلتي، التقطت أنفي، من دونهم جميعا بتلذذ، رائحة شواء السمك القادمة من محل قديم، الشمس تنزف حرارتها على كل الخلائق بلا رحمة، اليوم أضحى عاريا، والدروب الثعبانية تتنهد تحت مشربية هنا، وإفريز خشبي هناك، وينتهي الشارع بباكية من الحجر الجيري الملون، تبدأ ذبذبة الحياة اليومية.

من أمام الحنفية العمومية، تتحرك عربة يجرها حصان، مغلقة، يقودها رجل بدين نوبي، غامق السمرة، يُدعى عم سَمور، كان وجهه مربدا محتقنا، لا جديد فيه، يرتدي جلبابا فضفاضا، أبيض، كالح الملامح، أعرفه جيدا، كان فسيح العينين، يرقد على رأسه المدبوغ، الأصلع، اللامع، فودان اشتعل الشيب فيهما، يجلس متزنا، ممسكا بطرفي المَقود. كان احتكاك العجلات بالبلاط الحجري للحارة يبدأ قريبا، ويبتعد، ويتوارى شيئا فشيئا.
أصوات المارة لا زالت تتعالى، كانت هذه الأصوات تختلف أشد الاختلاف: أصوات نساء يختصمن، وأصوات رجال يتنادون في عنف، ويتحدثون في رفق، وأصوات الأثقال تحط وتُعتل، وعربات (الكارو) تئز أزا، وربما شقَّ هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار، أو صهيل فرس، والباعة الجائلين، تتناغم أصواتهم أيضا، بين السيكا، والنهاوند.
«مجنونة يا طماطم».
«بطيخ محلي، حلي، وعلى النبي صلي».
«شفا ياليموووووووون».
«السمك الصاحي، قرب، قرب».
كانت أجراس الحناطير تختلط بنداءات الباعة، وفي هذا الزقاق الصغير المتفرع من الشارع، وقفت متأملا، صوت (قرقرة) النارجيلة، وصوصوة العصافير، كانت تلك الأصوات تعكَّر عليَّ صفو فسحتي.
التقت عيناي بهفهفات ألوان ايشاربات: أحمر، أصفر، أزرق، وأحذية، وشنط. غسلت روحي بكهرمان السبح المعلقة، احتوتني الزحمة بين حناياها، وتفصد العرق من جبهتي، لا زال المكان يحمل عبق الدفء، والطمي، والتاريخ.
سادني ارتباك وأنا أمسك بها، هي تحفة، إنها حقا، جميلة، الجلد طبيعي، وعلي مقاس قدم أمي، مقاس (40)، أتذكر ذلك، منذ العام الماضي، عندما أحضرت لها حذاء بنّيا في عيد الأم.
«بكم الحذاء يا ريس؟»
«بعشرين جنيها».
«بخمسة عشر جنيها. يوافق؟»
«الله يبارك لك، هات الفلوس».
أخرجت حافظة نقودي في غبطة، هذه (الفرمة) ستعجب أمي أكيد.
«تفضل يا أفندي».
رحت أعد الجنيهات بفوهة محفظتي المهترئة، وفجأة توقفت أصابعي عن العد، وارتعشت أناملي، وصمتُ، ثم أشحت بوجهي بعيدا عن زحمة الناس.
عبثت بي الهواجس كعادتها، فسلكت طريقا بعيدا صوب البوابة العمومية للحارة، كان البائع لا يزال ممسكا بالكيس البلاستيكي الأسود، الذي وضع فيه الحذاء، وبصوته الجهوري، راح ينادي عليَّ، يلاحقني : «يا أستاذ. يا أستاذ».
لم أعط للبائع اهتماما، وأخذت أخبئ وجهي الممتقع، المتحجر من كل البشر، وهمهمت بحرقة، وبكلمات غير مرتبة، تمتمت بحروف غير مفهومة، ورحت أصوِّب نظري لنهاية الشارع لأشغله بهرج ومرج الصبية الصغار خلف «كرة شراب»، تزاحموا عليها.
المشهد: ليل-خارجي
زهقت من التسكع الأهوج مع روحي. كان الليل يزحف في سكون وجَلال على شوارع القاهرة، والشوارع ترضخ تحت الأضواء الفسفورية النابتة من أعمدة مجلس المدينة، شممت نسمة الليل الطرية التي تغسل أجنحة السماء، وأنا أهيم دون هداية، حتي انتصف الليل.
الضجيج ظاهر وخفي، تمضي المركبات بصخبها، وينزل الهدوء وتتبدل الأصوات، بصري يقع علي لافتة ضوئية لمطعم مشهور وسط البلد، كان مزدحما، تزداد أمامه الهمهمة، واحتكاك الأطباق عند رفعها، أو اصطدام الملاعق بها، والنداءات التي تبدو كاستثارة، أو محاولة إشعال موقد غازي بدفع (الكبّاس) عدة مرات.
كنت منهكا تماما، وغير متوازن بالمرة، فتهاوى جسدي مستسلما للجلوس على (التلي طوار) الخرساني للشارع الرئيسي. الوجع لا يزال يزلزل روحي وقلبي، تدحرجت يدي المعروقة لجيب سترتي، سحبتها، أحسست فجأة أن روحي أيضا تكاد تنسحب مني.
تمهلت قليلا، فتحلب ريقي، وفي مرفأ الأحزان سكنت سفينتي، وتفصد العرق من جبهتي، ثم دخنت آخر سيجارة كانت بعلبة السجائر (السوبر)، عندما تذكرت، للمرة العاشرة، أن أمي ماتت الشهر الماضي.
_________
*الصباح الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *