مفتاح إعادة القراءة


*تيم باركس/ ترجمة: أماني لازار


لنعد قراءة نابوكوف حول إعادة القراءة. يدَّعي نابوكوف أننا لدى تناولنا للرواية لأول مرة تغرقنا كمية المعلومات الكبيرة ويرهقنا الجهد الذي نبذله في التدقيق في السطور. فقط لاحقاً في لقاءات متتابعة مع النص سنبدأ برؤيته وتقديره ككل كما نفعل مع لوحة. وهكذا-للمفارقة-عندئذ “ليس هناك قراءة، فقط إعادة قراءة.”

يرقى هذا الموقف-وقد ألمحت إليه مؤخراً في هذا الحيز-إلى جدول أعمال نخبوي، وهاجس مغموم بالسيطرة، ورغبة في الاستحواذ على النص (مع الإيحاء دوماً أن هناك قلة قليلة من النصوص التي تستحق الحيازة) بدلاً من قبول احتمالية كل قراءة لحظة بلحظة.
يعترض قارئ قائلاً: ” خطأ! ليس صحيحاً،” ويدعو لمقارنة مع الموسيقى ” عندما نسمع أغنية جديدة للمرة الأولى هل يمكننا أن نستمتع بها حقيقة؟ فقط بعد مرتين أو ثلاث مرات من سماعها ستبدأ بمنحنا المتعة فعلياً.” ثم يضيف هذه الصيغة المثيرة للاهتمام:
عندما نعي شيئاً جديداً للمرة الأولى لا يمكننا أن نعيه وعياً فعلياً لافتقارنا للبنيان المناسب الذي يسمح لنا بإدراكه. يشبه دماغنا صانع أقفال يصنع قفلاً عندما يكون المفتاح على قدر من الأهمية. لكن عندما يكون المفتاح قصيدة جديدة على سبيل المثال، أو أنواع جديدة من الحيوانات-إنه اللقاء الأول، ليس هناك قفل جاهز لمثل هذا المفتاح. أو على وجه الدقة، ليس المفتاح مفتاحاً بعد طالما أنه لا يفتح أي شيء. إنه مفتاح محتمل. بأية حال، يدفع اللقاء بين الدماغ وهذا المفتاح المحتمل باتجاه صناعة قفل. في اللقاء الثاني أو الإدراك الثاني للشيء/ المفتاح سوف يفتح القفل المحضر من أجله في الدماغ.
إنها نظرية معقدة وتبين في الواقع أن القارئ هو الفيلسوف وعالم النفس ريكاردو مانزوتي. ما يثير الاهتمام قبل كل شيء هو إبطال مقارنة المفتاح/ القفل المعتادة. بالمقارنة العقل ليس مبتكراً لمفتاح يحل شيفرة النص، إنه مهيئ نفسه بطريقة يسمح فيها للنص أن يصبح مفتاحاً يفض قفل إحساس و “معنى” في العقل. هل مانزوتي محق؟ وإذا كان محقاً ماذا يقول لنا هذا عن القراءة؟
بالتأكيد خبرنا جميعاً ما وصفه حول أول لقاء مع نصوص صعبة، لاسيما الشعر. لم يكن بالإمكان تسمية قراءتي الأولى للأرض اليباب في مقرر الأدب في المدرسة الثانوية في عمر السادسة عشر قراءة إلا لماماً. ستستغرق دروس عدة وقراءة إضافية قبل أن يبدأ تناول إليوت فجأة بإنتاج تقدير يقظ وإعجاب قبل “إبريل أقسى الشهور،” بمعنى آخر، ذكرتني بصدق مدى صعوبة الحياة والتغيير على عكس السبات. استحضر العقل قفلاً سمح للقصيدة أن تعمل كمفتاح تلاءم مع عقلي وشيء ما أدير وانفتح.
صورتان. بدا قفل الأرض اليباب هذا مناسباً تماماً أيضاً أو مكيفاً بسهولة لقدر من مفاتيح أخرى، يمكن لعقلي الآن أن ينفتح بواسطة قصائد حداثية أخرى بسرعة أكبر بكثير، لا سيما قصائد اليوت الأخرى، جميعها تنشط الحواس بسلاسة كافية، مع أن المرء قد لا يحصل على إشباع فضوله من قصيدة جديدة في قراءة واحدة، إلا أن القفل يقوم بعملية أسرع الآن، بالتأكيد إلى حد الإحساس أحياناً بالـ “ديجا فو”: أوه، إنه قفل من النوع الذي يرغب المفتاح بفتحه. أو حتى: ليس هذا مجدداً، يا للخيبة! ما قد يشرح سبب توقف الشعراء عن الكتابة بهذه الطريقة.
هذا يستدعي تأملاً آخر. تكمن المتعة في نوع محدد من القراءات في عملية صنع القفل، التشابك المتدرج بين العقل والنص، عندما نألف هذه التجربة يفتح النص في عقولنا، سنكون أقل إثارة. أو على الأقل ستكون المتعة من نوع مختلف، مقدمة طمأنة ما هو معلوم، أو ببساطة تجعلنا نتذكر بسعادة مرحلة صنع القفل الحماسية، مثل هذا الفارق قد يساعدنا على الإمساك بالفكرة القديمة عن الفرق بين القصة والعمل الأدبي. ليس هناك عملية تعلم متواصل مع نوع “القصة” نعلم كيف نقرأ ميجريت ولن نحلم أبداً بقراءة ثانية. إنها تحث دوماً على نفس ردود الأفعال. لكن مع رواية أدبية سنترقب متعة جهد التنظيم وصور ذهنية جديدة فتحت في العقل.
إذن لعل نابوكوف كان محقاً، أو على الأقل بالنسبة لروايات معقدة-التي ربما كانت بالنسبة له الروايات الوحيدة التي يهتم لها. علينا إعادة قراءتها.
بالتأكيد من المحتمل أن تكون القصيدة مستغلقة على الأقل في البداية، لأنها موجزة. يمكن قراءة الأرض اليباب في عشرين دقيقة ولكن ليس يقظة فينيجن. شعوري أن رواية هي رواية حقيقة في الغالب ستأخذنا أو إلى حد ما في عملية صنع القفل في الصفحات الافتتاحية حيث قد نجد أننا نعيد قراءة فقرة أو اثنتين رغبة في الحصول على توجهاتنا هذه، في الصفحة الافتتاحية من السيدة دالاوي على سبيل المثال. بفضول كاف في فقرة سابقة استعملت وولف مقارنة إذا لم يكن أقفال ثم من محاور كلاريسا دالاوي تنتظر قدوم بعض العمال لينزعوا الأبواب من مفاصلها في الأرض منزلها لتسهيل الحفلة التي تخطط لإقامتها في وقت لاحق من ذلك اليوم، ثم وهي تندفع إلى الشارع لدينا:
يا له من مرح! يا له من انغمار! ذلك أن الأمر بدا لها دائماً عندما كانت مفاصل النوافذ تصدر صريراً خافتاً يمكنها سماعه الآن، فتحت النوافذ الفرنسية على مصراعيها يغمرها هواء بورتون الطلق. كم هو منعش وكم هو نظيف، أكثر سكوناً من هذا بالتأكيد كان الهواء في الصباح الباكر لكأنه لطمة الموج، قبلة الموج، بارداً وحاداً ومع ذلك (بالنسبة لفتاة بعمر الثامنة عشرة كما كانت آنئذٍ) رصين، كانت تشعر، بوقوفها هناك عند النافذة المفتوحة، أن شيئاً ما رهيباً على وشك الحدوث، تنظر إلى الزهور، إلى الأشجار والدخان يتلوى من حولها وطيور الغدفان تعلو وتحط تقف وتنظر إلى أن قال بيتر والش، ” تتأملين بين الخضراوات؟” هل كان ذلك؟ – ” أنا أفضل الرجال على القرنبيط”-هل كان ذاك؟
ماهي التجربة، أو القابلية التي يبتغي هذا النص أن يطلقها فينا؟ حيث الماضي والحاضر مشتركين كأفكار، أنواع عديدة سمح لها بالانتشار في طيات نحوية ممتدة، إلى أن يأتي شخص ما ليقطعها بملاحظة ساخرة ومدية. ستتكرر الصيغة مئات المرات في الكتاب، يخلص العقل في حلم يقظة وثم فجأة يعود إلى الحاضر من خلال اقتحام ما. قد يحتاج القراء قليلي التجربة حقاً إلى إعادة القراءة مرات عديدة قبل أن يتيقظ النص ويفتح القفل المصنع حديثاً في عقولهم.
لكن القراء ليسوا متشابهين جميعاً. ليسوا جميعاً في نفس العمر. كما لاحظ جريجوري باتسون في خطوات نحو إيكولوجية العقل، لا يصنف البشر أنفسهم كثيراً من حيث قدراتهم على التعلم، بل من حيث قدرتهم على تعلم كيف يتعلمون، إدراك هذه الحالة الجديدة يتطلب عملية تعلم وتسهيل تلك العملية بكل وسيلة. إذن فالقارئ الخبير يأتي إلى وولف ثائباً إلى رشده في الحال إلى أن مصدر إزالة المفاصل وغمر الأبواب يقول لهم شيئاً عن كيفية قراءة الكتاب. مع الوقت نصل إلى هذه الفقرة، بعد عشرين صفحة، حيث يوزع رجل نشرات دينية، إغراء الكنيسة الأم، على الأقل هذا الجانب من المنهج سيكون الآن شديد الوضوح في كونه تكلفاً خطراً:
عندئذٍ، في حين يحمل الرجل عسير الوصف غير طبيعي المظهر حقيبة جلدية ويقف على درج كاتدرائية القديس بولس متردداً، فيا لها من رائحة عطرية تفوح فيها ، يا له من ترحيب عظيم ، عدد كبير من القبور ورايات تلوح فوقها، علامات ليس على انتصارات الجيوش ، بل الفكر، تلك الروح المزعجة للبحث عن الحقيقة التي تتركني في الحاضر بدون حالة، وأكثر من ذلك تقدم الكاتدرائية الرفقة، فكر، تدعوك للانتماء إلى المجتمع، ينتمي إليها رجال عظماء ، شهداء ماتوا من أجلها، لم لا أدخلها، فكر، ضع هذه الحقيبة الجلدية المحشوة بالكتيبات أمام المذبح، الصليب، رمز لشيء حام متجاوزاً البحث و مساءلة وقرع كلمات معاً وأصبح روح خالصة، منفصل عن الجسد، شبحي- لم لا أدخلها؟ فكر وفي تردده حلقت طائرة فوق سيرك لودجيت.
دون شك بنهاية السيدة دالاوي هذا اللعب بين ضلالات عقل الفرد وتعديات العالم، بين الانسان المعزول والمجتمع، كل شيء شديد الوضوح. أنت بالكاد تحتاج للعودة وإعادة قراءة إلا سعياً وراء متعة رؤية حرف T المتقاطع. التي يمكن أن تكون متعة هائلة. أو ربما قد ترغب بعد سنوات-وقد أصبح القفل صدئاً الآن-بالعودة والانغماس لتنظفه وتتذكر في إعادة سريعة التجربة التي تستدعيها كتابة وولف. ” آه نعم،” تقول بعد عدة صفحات، ” تلك هي التروس والعجلات التي تديرها السيدة دالاوي.”
هذه تجربتي الشخصية في إعادة القراءة. أنا لا أعيد قراءة كامل الرواية في الخطة النابوكوفية الشعورية وفيها ينبغي علي امتلاك كل شيء وأثبات كل فارق دقيق. أنغمس فيها مجدداً، أقرأ فصلاً أو اثنين، أو حتى صفحة واحدة هنا وهناك، بشكل عشوائي تماماً. لأتذكر اضطراب المشاعر التي أدارها ذلك القفل الخاص في عقلي.
إذن فتحت نسختي القديمة من كتاب بيكيت “واط” مؤخراً، ووجدت فقرة لم أتمكن من تذكر أني قرأتها على الإطلاق، لكنها استرجعت بشكل بهي جميع التقنيات التي جعلت هذا القفل الخاص في الرأس واحداً من أكثر الأقفال الباروكية تعقيداً لتقلب كل شيء. إذا فتح. بشكل مضحك تتحدث الفقرة تماماً عن مشكلة الإدراك وعن أشياء لم يكن بوسعها -في حالة واط -من أن تكون منطقية:
كان واط قد بدأ يشعر بالتعب من الجري، عيناه تذرعان هذا الطريق السريع عندما أسر شخص انسان على ما يبدو-انتباهه وأيقظه وهو يتقدم قادماً من رأس الشارع. كانت أول فكرة خطرت لواط أن هذا المخلوق طلع من الأرض، أو سقط من السماء. وفكرته الثانية بعد خمس عشرة أو عشرين دقيقة، هي أنه ربما تصور وضعه الحالي عن طريق سياج أولاً ومن ثم خندق. لم يكن بوسع واط تحديد فيما إذا كان هذا شكلاً لرجل أو امرأة أو كاهن أو راهبة. هو لم يكن لصبي أو لفتاة فقد كان واضحاً، في رأي واط، من خلال أبعاده. لكن أمر تحديد فيما إذا كان لرجل أو لامرأة أو لكاهن أو لراهبة كان يتجاوز قدرة واط، مجهداً عينيه. إذا كان لامرأة أو لراهبة فهي امرأة أو راهبة من حجم غير عادي، حتى لهذا الجانب من الريف، بالحجم الاستثنائي اللافت لنسائه وراهباته. لكن واط يعلم جيداً جداً، جيداً جداً جداً أي مقاييس لنساء بعينهن وراهبات بعينهن كن قادرات على الانتهاء من أولئك هذا الطواف، وأن هذا الطواف لم يكن امرأة ولا راهبة لكن رجل أو كاهن…
هذا ما زاد من اضطراب واط كثيراً، ذلك أنه خلال عشر دقائق أو نصف ساعة انصرمت، منذ أن أدرك أولاً أن هذا الشخص، الذي يخطو خطوات واسعة عند رأس الشارع، نحو المحطة، لم يزدد طولاً أو عرضاً أو تميزاً في الملامح مصراً على التقدم طوال هذا الوقت، دون أن يفتر اندفاعه المتعثر نحو المحطة، ولم يحرز المزيد من التقدم أكثر مما يمكنه أن يفعل لو كان حجر رحى.
كان واط محتاراً إزاء هذا، إلى أن بهتت الشخصية باطراد دونما هوادة في سيرها واختفت أخيراً.
يمكن وصف كامل رواية “واط” على أنها تذوق سادي لمفتاح وقفل لا يجتمعان أبداً، كما لو أن بيكيت كان يثبط من عزيمة قرائه كي لا يتخيلوا أبداً أن أي نص من نصوصه يمكن أن يحدث يوماً صوتاً -” تكة”-لطيفاً في أدمغتهم الأدبية.
__________
*مدونة الأماني

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *