عِنْدَمَا تُقْرَعُ أَجْرَاسُ مُنْتَصَفِ اللَّيْل!



محمّد محمّد خطّابي*


خاص ( ثقافات )

ينتظرون ساعةَ الصِّفر، الكلُّ يرقب، ويترقَّب، وعِنْدَمَا تُقْرَعُ نَوَاقِيس مُنْتَصَف اللَّيْل، وتملأ الأجواءَ حرارةُ المكان، وتنطفئ الأضواءُ في كلّ ركن، يكون العناقُ تلوَ العناق، الصّادق منه، والمائق، والزّائف، والدّافئ الزّائد يتحوّل إلى نارٍ كاوية، وتدور الأكْؤُسُ الدّهاق، وتتبعها الأكوابُ المُترعة حتى الثّمالة، وتُوزّع الصّحون الشهيّة، وتمتلئ البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ، بعد أن تُوزّعُ الشموع الملوّنة، وتُعلّق القناديل المضيئة، وتوقدُ الشمعدانات المذهّبة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة، التي يكاد زيتها يضيء حيناً، ويخبو حيناً آخر، تسطع أنوارُها في رومانسيّة حالمة، خافتة، باهتة، وتتراقص فتائلها في خَجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة، واهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، المكان يملؤه الأثاثُ المزخرفَ، والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية، والمآدبَ الفاخرة، والمصاطب العليا، ومشروبات الكوكتيل الشهيّة، وطحالب السّوشي اليابانية البحرية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة، والإيرانيّة، وشطائر سمك السَّلمون النرويجي المدخن! وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الاصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح، والحديث ذو شجون بين الجميع، يجرّ بعضُه بعضاً، يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون، يصيحون، يغنّون، ويهلّلون، وهم دافئون..
مُنتصف اللّيل..
ها قد جاءت ساعةُ الصّفر تُجَرْجِرُ أذيالها إلينا، ومنّا تدنو، وتقتربُ معها لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والفرح والمرح، وها قد أزفتْ هنيهةُ (توديع عامٍ– واستقبال آخر).. فإذا بالكلّ يصيح. بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ بُرهة…. ثمّ أوقدوا الشّموعَ، وانشروا الأنوارَ، وانثروا الضّياء.. سترى الوجوهَ باشّةً هاشّةً ضاحكة، وترى القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جَذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بانسياب حِقبةٍ من الزّمان وانقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضر الكبرى ستسبحُ في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج، وأضواءُ النيّون ستملأ الدّنيا، وستنتشرُ، وتسطعُ في أماكن بعينها، وسوف يستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها، قليلون منّا يعرفونها.. ستعاقرُ الكؤوسُ بعضَها بعضاً، ستنفرِجُ الأشداقُ من فرط القهقهات، وتزيغُ العيونُ من فرط النظرات، وتنتفخُ الأوداج، وتتيه العقول. 
ويظلّ آخرون.. المنسيّون يلفّهم البردُ الزّمهرير الذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيع المتكاثف الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون النحيلة، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة، هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة، وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متضخّم، ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ، وفاقةٌ، وفقرٌ، واحتياج، وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم، ولفحةٌ لاسعة من برد قارس.
ها قد حال الحَولُ، إذن ودار الزّمانُ، وعمّا قريب سيواريَ عام ٌ، وتتوارىَ معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلِنا، ومآسِينا، ونستقبلُ في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في طيّ المجهول، وخبايا الكِتمان، وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وانْزَوَى، وَمَضَي أو كاد إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أو الأتيِّ المنهمِر الضّائع في طيّات الزّمن، وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، وفي معارج طباق السّماوات، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّت، ومضت، وانقضت، وذهبت لحال سبيلها بدون رجعة!
بودلير.. وأزهارُه 
كان “بودلير” يكره الليل، لأنه كانت تقوى فيه عليه وتتفاقمُ آلامُه المُبرحة، كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة، حالكة، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به في آخر المطاف إلى النّوى، ثمّ في جُنحه حاق به الرّدى، فقد كان يشمّ فيه- كما كان يقول- رائحة القبور. أواني الورد لديه، ومزهريّاته لا تكلّل سوى بـ”أزهاره الشرّيرة” الملعونة، وهو معذورٌ على كلّ حال، فهو فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، وعليل لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته، إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه.
طاغور.. وليلُه 
وهذا “طاغور” العظيم في “انتقام الطبيعة” نراه يؤكد أنّ انشطار الليل والنهار لا يهمّه، ولا انقسام الشهور، والأعوام، فعنده تيّار الزّمن قد توقّف، يرقص الزّمنُ على أمواجه، والقشّ والأغصان، هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه، منهمكاً في ذاته، والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيم ُساكنٌ كبحيرة جبلٍ نائيةِ المَدىَ، بعيدةُ الغُور، عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه، الماء ينضحُ، ويرشقُ، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة، إنّه حبيسُ ذاتِه، ينشد ترتيلةَ اللاّشيء… إنّه حرّ.
الليل.. سارق الضّياء
قديماً كانت الأسطورة تقول: كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس، وغيابَ القمر، وكانوا ينتحبون سدولَ الليل، ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة، ويبتلع كلّ شيء.. والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار، ذلك أنّ الليلَ في عُرفهم ساكنٌ، راكنٌ هادئٌ، حالم سماوي، لا حرّ ولا قرّ فيه، من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ، وهناك العديد من المدفآت، والمبرّدات، ومكيّفات الهواء، والمراوح، والرّيش، والطنافس، والسجاجيد، والألحفة التي بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أو لسعة البرد حسبما شاؤوا، أو أرادوا، إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب، فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين، المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن، أمّا الليل فهو ملك لهم، أفرأيتَ إذن كيف انقلبت الآية؟ أفرأيتَ الآن كيف أنّ النّاس يتشاءمون، ويتثاءبون، ويستاؤون من غياب النّهار، وغروب الشمس؟!

تفاقمتِ الحروبُ وحَمِيَ وَطِيسُها
الكلّ يصيح، والكلّ يرقص طرباً، ويضحكُ جذلاً بفرحة مَقدم العام الجديد، منتشياً، ومغتسلاً بغمرة… بل بـ(اقرأ بدلَ الغين خاءً) الدّوالي والكروم، وبهاجس انسياب الزّمن، وزواله واندثاره، فتنضحُ عنه، ويستبشرُ بها خيراً في استقبال العهد القادم المهروِل، تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَ شَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنظلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ، والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة، والكآبة، والشّقاء.
تفاقمت الحروب، وزادت نارها، واشتعل أوارها، وحمي وطيسُها، نمتْ واستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، وتفجّرت الثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور، وفي أماكنَ بعينها من العالم ما زالت رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة وستظلّ إلى أجَلٍ غيرِ معلوم.. في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالهداية والنّصر، ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة.. إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر، وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً.. هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً، وإفلاساً، وتذمّراً، وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ، فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شيء، ولو إلى حين، ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان، والأدران برزخاً واسعاً، وهوّةً سحيقة عميقة.
الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ
الشّاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذي عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم في الأزهر وانصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه، وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة.. حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه :” كلّ سنة وأنت طيّب يا سّي كامل.. صحّ النّوم “فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً، مهموماً، كئيباً، حزيناً:
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الشقيّ الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي 
الشّاعر المُعنّى كامل الشنّاوي، في رحلة عمره، كان في كلّ خطوة من خطواته يشبّ في قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه، ومع إخوانه، ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم، إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم، لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين، فهو لم يُخْفِ وجهَه، ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه، وانساق وراء القطيع، بل إنّه رفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً، سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذي لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون استشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت، والتنكيل، والشقاء، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ، فذلك لأنَّ له ارتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لانقضاء عام، وقدوم آخر، هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء، ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الاحتفال، والاحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح، والسعادة، والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء…وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الانتقام، واغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة ” الخيّام ” القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك، فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول، أو من باب: الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ/ ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا.
إنّه كلام يتناثر، ويتطاير في الفضاء، تماماً كما تناثر وتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة، وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم، والعنت، والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا النّوع، فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام، والأحلام، والخيالات، والترّهات التي لا طائلَ تحتها. بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، والضنك، النكد، والحرمان، بعد أن كسدت أسواق الفكر الخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في كلّ شيء، في دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وجَدّاً، وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغدة.
شجيرات الصّنوبر
ألا ترى الناسَ هذه الأيام، وفي هذه التواريخ بالذّات يهيمون مُسرعين، ومُهرولينً، يذرعُون الشّوارعَ، ويجوبون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون في أعماق البحار، وفي أغوار المُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويقطعون الصّحارى والقفار؟، والمَفاوز، والمهامه، والآكام، والآجام، لعلّك سمعتَ هذه الأيّام عن حركات، وتحرّكات الطيران غير الاعتياديّة، وعن إقلاع السّفن، والبواخر، وانطلاق السّيارات، والقطارات وسواها من وسائل النقل، والسّفر، والتِّنقال، والترحال في جميع أنحاء المعمور؟! فإنّك لو اطّلعت على الأعداد الهائلة من المُسافرين، والمتنقلين، والمغامرين، والرُحّل في هذه المناسبات لذُهِلتَ من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل. إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون، يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا، والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة، ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوار العصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر، والمتصحّر أو في طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات الحفاظ على البيئة، واحترام الطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، والدفاع عن المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها، ونستمتع برونقها، وننعم ببهائها، وببساقتها، وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب. كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشّجيرات البريئة لتجعلها زينةَ، وقتيةَ، عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات، والياقات، والورقات، والأضواء، والألوان، لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك، وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور، وما يجري في هذا العالم من رزايا، وخطايا، وقضايا، وأهوال، وويلات؛ البشريةُ غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء. لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.، وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ، أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء و” العُقلاء”! الذي يقتلع الأشجارَ ويصنع من لحائها ورقاً ويكتب عليه: (حافظوا على الطبيعة..!) وهو الوحيد الذي يقتلُ فقط للاستمتاع وإشباع رغبة الانتقام في نفسه الآمرة، أو الأمّارةُ بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظّمة، وغير المنظّمة في عالم الصّيد، والقنص، والطّرد.
أعوام.. وأعوام
هناك من السّنين ما تنطبع أحداثُها في أذهاننا، وتسكنُ وجدانَنا ولا نجد لها أو منها مناصاً، ولا فكاكاً، في حين أننا نمرّ بأعوامٍ، أو بالأحرى تمرُّ بنا أعوامٌ لا نقيم لها وزناً، أو حساباً، ولا نعيرها أهميّة واهتماماً، وكأنّنا لم نعشها قط ّ من أعمارنا، قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمنُ فيما نقدّمه خلالها من أعمال، وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت. 
ما انفكّت الحضارةُ المعاصرة تحملُ إلينا عشرات المفاجآت كلّ يوم، فما كنّا نخاله بالأمس خرافةَ أضحى اليومَ حقيقةَ ماثلةً حيالَ أعيننا، وما كنّا نظنّه أسطورةً أضحى اليوم واقعاً ملموساً نصبَ أنظارنا، وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام، تماماً كما كان أجدادنا يفعلون، فذاك عندهم كان عامَ الطوفان، وعامَ الفيل، وعام ولادة السيّد المسيح، وعام الهجرة النبوية الشّريفة، وعام الفتنة.. وما أدراكَ ما الفتنة، وعام الحملة النابليونية على مصر، وعام المجاعة، وعام الفتح، وعام النهضة إلخ، وها قد أصبحنا نقول نحن اليوم كذلك كما كان أجدادنا يقولون.. هذا عام اندلاع الحرب الكونية، وذاك العام الذي وضعت فيه الحربُ أوزارَها، وتينك كانت سنة وعد بلفور المشؤوم، وأعقبه عام النّكسة اللعين، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود إلى القمر، وعام الهبوط منه..! وعام مهازل ويكيليكس، وعام التسونامي، وعام الإيبولا، وعام الظلام.. وعام الرّبيع العربي… وخريفه، وشتاؤه وقيظه كذلك…! 
على مَشَارِفِ المَجْهُول
ها نحن نقف على مشارف، ومجاهيل، وغياهب عتبات عام جديد، لابدّ أنّه يحمل في طيّاته، وثناياه كثيراً من التخوّفات، والتوجّسات، والتساؤلات، والاستفسارات، والإرهاصات، والآمال، والآلام معاَ، إنها لعبة الجّدّ كما وصفها أبو الطيّب ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في محيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أو حتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي، لقد ودّعنا فيك، وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا، ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم، وكانت تربطنا بهم علائقّ حبٍّ، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا معهم وشائجَ صفاء، ونقاء، ووفاء. فواعاماه… وواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد… وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وفداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شيء، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً، وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل، ونتأمّل، ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفي أعماق أفئدتنا، وفي قرارة وجداننا، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي ها هو ذا يدنو منّا رويداً رويداً، ووئيداً وئيدا، .. ويكادُ يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب السّرمديّ، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً، حتى نمعن النظر، ونعمل العقل في هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات، وعام آت، فلنصلّي، ونتلو ترانيم مباركة ونردِّدَ مع “آغا ممنون” المنكود الطالع، والخائب الظنّ، والبَّخْس الرّجاء، وتقول: ليْتَ هذا اليَأسُ يَتْلُوهُ الرّجَاء/ ليْتَ هذا العَامُ يأتيِ بالضّيَاء..!
——————————————————————— 
* – غرناطة – (إسبانيا)
كاتب وباحث وقاصّ ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- (كولومبيا)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *