ليت الشِّعر حجرٌ


*باسم سليمان



خاص ( ثقافات )
الخفّة أقرب النيّة بين نقطتين وأبعدها، بالخفّة يحاكي الفيزيق الميتافيزيق ليس من باب اللاهوت أو الناسوت بل من كوّة التخفّف من زخرف الحياة وكثافتها. هي أقرب للصّوم هكذا هي جمل زكريا محمد في ديوانه ” كشتبان- دار الناشر – 2014 – الأردن” فدوالها ريشة مع أنّ دلالاتها قلوب متقلّبة لكن في كفتي الشعرية تقف الريشة في كفّة والقلب في الكفّة الأخرى ولا تستوي الكفتان أو ترجح كفّة على أخرى، فحركة الشّعر في جملة زكريا محمد تنوس بين ريشة وقلب بين دال خفيف الروح ودلالة كثيفة النفس.
هذه الخفّة في الجمل الشّعرية لا يقنط المتلقي من الطيران معها وكلّما عاودها وجد عندها رزقاً حيث خفّة الجملة الشّعرية تتأتى من شبه هي لا تقاربه لكن ينفع للإيضاح والتفسير وهو الوزن والإيقاع ، فالوزن للناظم يصبح بداهة لا يقف عندها وهذا ما تيسّر للشاعر زكريا محمد حيث تطفو جمله الشعرية كأنها الشفاهية الصائتة مع أنها كتبت وسيلة وغاية بشكل صامت وكتابي وكأننا أمام الطبع متطبعاً بطبعه. أقتبس: ” النهار كبير عليّ./ وكل ما عملته كان بفعل اليأس. الأمل لم يكن دافعي أبدا. إن كان بين يدي من شيء، فأنا مدين به لليأس. ولا يظنن أحد أن اليأس لطخة عار. لا، اليأس ظبي يقف على حرف الجبل، ويفكر في الانتحار، لكنه لا يفعل.” 
الكثافة أبعد الشكّ بين نقطتين وأقربه، فتأتي دلالات الجمل في ” كشتبان” جذمورية مترابطة لكن لا على منوال وبنفس الوقت متشظية تقطع ولا تصل، فهو يكنس المعاني، لا لينظف أرضية الوعي بل ليسمح لمعان آخرى بالتراكم وحجب الوجه الصقيل للفكر أنّه يشوشه كوجه ماء يهزه مجداف، فمهوم الثنائيات قار كما مفهوم التضداد وهو لا ينقضه بل يسمح لثنائيات أخرى وأضداد أن تخرج من الظّل إلى النور، فخلخلت القوى تسمح كما في الغابة لنصبة جديدة أن تعلو بعد أن تكسر العاصفة أحد فروع شجرة كبيرة . اقتبس ” لا شيء عند الشاعر ليقوله، لا شيء. ما من فكرة عنده، ولا كلمات حتى. هو يرمي حصاة في داخله فقط ثم يسمع صوت سقوطها في بركة معدته ثم صوت عبورها في ممر القولون الطويل.” 
قول الخريف والحجر:
الخريف شهر الخفّة أو ربيع يدير ظهره للصيف ويزدري الشتاء، أنّه يريد أن يكون سنة كاملة، فله زهوره الخاصة وثماره وطيوره وشبابه ومن هذا المنحى يتقاطع مع العمر الجسدي والنفسي الذي وصل إليه الشاعر, فتأتي التشابيه كزورق صغير لصيد السمك لا تعنيه الموانئ، فأيّ شطّ يصلح ميناءً ولا تعنيه الحيتان وأعالي البحار، فمجرد ثلاثة سمكات تكفي لمعجزة الطعام. إنّه اليوم السابع للخلق فصل التأمل ليس لقول الحكمة بل السخرية منها. أقتبس :” شجرة التين شبكت أوراقها تاجا فوق رأسي وأنا غنيت معها أغنيتها فأنا فمها فم الخريف السكران الملهوف.” 
قول الحجر الأصم الرافض لجثته/ التراب التي صُنع منها الإنسان هكذا هو أثر الإنسان والشّعر كأثر النمل على صمّ الصفا. أقتبس :” كلّ شيء ينفع كبداية. تستطيع أن تبدأ بذيل طائر التدرج الطويل أو بالجناح الملغى للحجر وسوف تصل النقطة ذاتها. الدائرة مغلقة والنوم خارجها مستحيل. الطيور تطير بأذيالها الطويلة على محيط الدائرة والحجارة تدور بلا أذيال على المحيط ذاته. أما أنا فأتمدد مثل نصف دائرة وأدور, من داخل الدائرة بنصف جناح فقط كي أقيس المسافة القصيرة, التي لا تحتسب, بين الزهرة والحجر.”
بيان واحد، بيان اثنان:
يصدّر زكريا محمد ديوانه برصد سيرته الشّعرية وتأثير الفيس بوك واختفاء المسافة بين لحظة الكتابة ولحظة التلقي لكنّه لا يجزم، فكلمة البدء كانت ” ربما ” وينهي عن أهمية الشعر وأثره مستشهداً بقول الشاعر الجاهلي :” كأثر النمل على صمّ الصفا”.
كشتبان:
ديوان لأجل الشّعر بعيداً عن ماورائيات الشّتاء وفوران الربيع وبطر الصّيف، إذ الشّعر هو خريف الإنسان حيث تميم بن مقبل أوجز السّعادة بقوله: “ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر/ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم”.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *