*د. حسن مدن
حين نقرأ الأدب الروائي الأجنبي، خاصة في بلدان مثل فرنسا وروسيا وبريطانيا بوسعنا لا التعرف على الشخوص فقط، وإنما أيضا على الأمكنة: المطاعم والمقاهي والحانات والمسارح والساحات والميادين العامة.
من قرأوا روايات بلزاك وديستوفسكي وتشارلز ديكنز وسواهم بوسعهم أن يمروا أمام الأماكن التي جرت فيها أحداث هذه الروايات، ويجولوا في الكنائس والمتاحف والمسارح التي جاء ذكرها في الأدب الذي قرأوه، حيث كانت مسرحا لما حكاه الروائيون عن أحداث جرت فيها أو على صلة بها.
من بين أسباب ذلك أن الأماكن العريقة، ذات القيمة التاريخية، في العواصم والمدن الأوروبية ظلت قائمة حتى اليوم، محافظة، قدر الإمكان، على روحها القديمة، وعلى تصميمها المعماري الذي أنشئت عليه أول مرة.
خطرت في ذهني هذه الأفكار من وحي ما قاله عبدالله العروي مرةً من اثر غياب الشوارع الكبرى والساحات العامة في بلداننا العربية في بناء روايات عربية تكون ملتقى مشاريع شخصيات هذه الرواية.
كان العروي ، بصفته مغربياً، يتحدث عن الدار البيضاء على سبيل المثال، ولكن هذه الملاحظة يمكن تعميمها على مدن عربية أخرى، وبخاصة على مدننا الخليجية الحديثة والتي ما زال تاريخها اقصر من أن يشكل ذاكرة ممتدة.
يتساءل العروي: اين هو الميدان أو الساحة الكبيرة على نحو ما يوجد في بطرسبورج حيث استلهم دوستويفسكي كثيرا من الأحداث والوقائع مما يحصل في الشوارع الطويلة بجانب النهر.
لكن ليس هذا المعطى الطوبوغرافي هو العامل الوحيد، فهناك المعطى الاجتماعي الذي يكمن في التركيبة الاجتماعية المنقسمة بين طبقة أجيرة فقيرة وبين طبقة ثرية تملك، وأفراد هاتين الطبقتين يلتقون في قلب الحراك الاجتماعي الذي تحتويه المدينة، والمدينة هي الحاضن الأساس لنشوء الرواية.
سيُعيننا هذا على فهم لماذا كانت مصر بالذات، حين نتحدث على الصعيد العربي، هي التي قدمت تراكماً روائياً أكثر من سواها من الأمصار العربية، ولماذا ظهر نجيب محفوظ، على سبيل المثال، في مصر بالذات.
للأمر علاقة بكون مستوى التطور الاجتماعي – السياسي في هذا البلد أكثر نضجا بالقياس للبلدان العربية الأخرى، حيث كانت مدن مثل القاهرة والإسكندرية قد ترسخت كبيئة مدينية عصرية، تحمل سمات وخصائص المدن بما هي عليه من أنماط عيش وسلوك وتفكير، وما هي عليه أيضا من تناقضات وتجاذبات اجتماعية.
ذات مرة أخذ الفنان جورج البهجوري ركناً من مكانٍ في صباح ذات جمعة في مقهى الأوبرا، ومن ذلك الركن راح يتأمل الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي يتخذ، وحوله حرافيشه، ركناً آخر. شعر البهجوري كأن داخل عينيه عدسة زووم ترى كل شخصيات روايات محفوظ من خلال وجهه: من صانع العاهات إلى الحرافيش والجبلاوي والكلاب بدون لص. بل إنه عثر على خيط رسم وجهه من خلال الوجوه العديدة التي رسمها في ميرامار.
في المرة ذاتها، أو في مرة أخرى، تقدم البهجوري إلى مقاعد شاغرة حول نجيب محفوظ في المقهى، وأصبح وجهاً لوجه أمامه، فسأله محفوظ عن أخباره، فقال البهجوري، وكان ذلك في ستينات القرن العشرين: «أنا مسافر باريس أرسم هناك من أجل العالمية»، فرد محفوظ باسماً: «خليك محلي هنا وكلما زادت المحلية عندك أصبحت عالمياً..!».
لم يأخذ البهجوري بالنصيحة وسافر إلى باريس التي مكث فيها طويلاً. لم يقل جورج في حديثه إلى أي درجة بلغ من العالمية، ولكننا جميعاً نعرف أن نجيب محفوظ لم يسافر. كان يكره السفر ويحب المكوث مكانه، لكن محليته أخذته إلى جائزة نوبل. لقد أصبح عالمياً لأنه ذهب في عمق المحلية، حتى النساء الأوروبيات اللواتي قابلهن البهجوري في الغرب طامعاً في لفت أنظارهن إلى فنه، كن يعرفن محفوظ وتحتضن الواحدة منهن إحدى رواياته المترجمة حتى الصباح لأنهن يجدن فيها روح الشرق، روح مصر.
«خليك محلي أكثر، فكلما زادت المحلية عندك أصبحت عالمياً». وهي النصيحة التي كرَّس محفوظ أدبه وحياته في سبيلها. لم يكن يفكر في العالمية ولم يسع إلى نوبل. لقد انصرف بكل طاقته الإبداعية والذهنية إلى تجسيد الروح المصرية والمزاج النفسي للمواطن العادي وإلى تناول تلك القضايا التي تتصل بماضي وحاضر ومستقبل بلاده، ومن حيث يدري أو لا يدري كان، وهو يفعل ذلك، يمسك بالهم الإنساني العام وبتمزقات البشر وطموحاتهم وعواطفهم، هذه «المحلية» الصادقة، غير المتكلفة أخذته إلى الأفق الإنساني العام، إلى العالم، فأصبح كاتباً عالمياً دون أن يخطط لذلك، أو يخطط له ذلك أحد سواه بالنيابة. لم يسع لـ «نوبل»، ولكنها أتته.
كان لنجيب محفوظ نظام دقيق في حياته. مواعيده ثابتة، وتمسكه بطقوسه صارم. ذات مرة أتى وفد من التلفزة الألمانية لتسجيل فيلم وثائقي عن حياته وأدبه وعلاقته بمدينته الأثيرة: القاهرة. اتصلوا به قبل وصولهم مصر، فضرب لهم موعداً في الاسكندرية حيث اعتاد قضاء نحو اسبوعين من كل سبتمبر فيها، ولم يشأ أن يغير عادته فيمكث في القاهرة للقاء الوفد.
بعد اللقاء في الاسكندرية أرادت البعثة التلفزيونية أن تصور له شريطاً وهو يقطع المسافة من منزله مشياً على الأقدام حتى مقهاه المفضل: «علي بابا» قريبا من ميدان التحرير، دون أن يخبروه بذلك.
قيل للوفد أن موعد خروجه ثابت: السابعة صباحا بالضبط يغادر المنزل نحو المقهى.
في الموعد المحدد كان الوفد جاهزا مع الكاميرات، ولم يكن على أفراده الانتظار، ففي السابعة بالضبط برز محفوظ عند عتبة الباب، وسار بهدوء الى المقهى فيما كانت الكاميرا تلاحقه من بعد، دون أن يلاحظها هو المنصرف إلى ذاته.
سأل الدكتور طه حسين، وكان يومها عميداً لكلية الآداب في جامعة القاهرة، طالباً جديداً يريد الالتحاق بالكلية واختار منها قسم الفلسفة بالذات: «لماذا اخترت قسم الفلسفة؟» فأجاب الطالب: لأني أريد معرفة الكون وأسرار الوجود.. أصغى طه حسين جيداً ثم قال ساخراً: أنت جدير بالفلسفة فعلاً، لأنك تقول كلاماً غير مفهوم».
لم يكن طه حسين يعرف أن الطالب الذي أمامه يسأله في اختبارات المتقدمين التي درجت عليها الكلية اسمه نجيب محفوظ، وأنه سيصبح بعد حين الأديب والروائي الشهير الذي سيكون طه حسين بالذات هو من سيكتب عنه أجمل ما كتب.
وحين عالج طه حسين رواية «بين القصرين» لمحفوظ بعد ذلك بسنوات طوال تذكر تلك الحكاية، وتحدث عن نجيب محفوظ الجامعي الذي وفى للجامعة التي تخرج فيها بالعمل الصادق المنتج فأثبت أنها لم توجد عبثاً، وأنها لم تخرج العلماء فحسب، وإنما أخرجت معهم الأدباء البارعين، وأخرجت معهم أبرع القصاصين المصريين».
وأضاف عميد الأدب العربي متحدثاً عن «بين القصرين»: «وكل شخصية في هذه دليل واضح قاطع على أن الأستاذ نجيب محفوظ قد انتفع بما سمع في كلية الآداب من دروس الفلسفة.. لم يصبح فيلسوفاً ولا مؤرخاً للمذاهب الفلسفية، وإنما أصبح فقيهاً بالنفس الإنسانية بارعاً في تعمقها وتحليلها قادراُ على أن يضع يد قارئه على أسرارها ودقائقها، وحسبك بهذا كله نجحاً للجامعة ونجحاً لخريجها نجيب محفوظ.
وفي أمر يشبه النبوءة عن «عالمية» نجيب محفوظ قال طه حسين: «ما أشك في أن قصته هذه «بين القصرين» تثبت للموازنة ما شئت من كتاب القصص العالميين في أي لغة من اللغات التي يقرأها الناس».
في دفاعه عن اللغة كان طه حسين لا يرضى عن غلو المحافظين والمجددين على حد سواء داعياً إلى طريق وسط يحفظ للغة حياتها وصفاءها، ولعله وجد في لغة نجيب محفوظ بالذات مثلاً يحتذى، حيث قال عنه «لست أشك في أن كل قارئ أو سامع لقصصه يفهم عنه في غير مشقة مهما تكن بيئته، ومهما يكن حظه من الثقافة والتعليم، وهو على ذلك يكتب بلغة فصيحة لا غبار عليها، وترتقي بقصصه أحياناً إلى منازل الشعر الرفيع دون أن يشق على قارئ أو سامع في شيء مما يكتب أو يقول».
كان نجيب محفوظ شاهداً كبيراً على مرحلة كاملة ممتدة في تاريخ مصر وتاريخ العالم العربي، عرفت انعطافات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى، كان هذا الشاهد في القلب منها، ولكن على جبهة الإبداع.في قصصه ورواياته سنجد علامات كل هذه التحولات مرسومة في شخصياته، التي بوسع كل واحد منا، في مصر أو خارجها، أن يجد من يشبهه بينها، في لحظات المجد وفي لحظات الانكسار، في حالات القوة وفي حالات الضعف.
وفعل نجيب محفوظ كل ذلك دون أن يجاهر بموقف سياسي صارخ. كان الأدب مجاله الحيوي. ولكن تاريخ مسيرته الأدبية التي امتدت طويلا، يمكن أن يكون دليلنا إلى معرفة مصر بكل تناقضاتها، بصورة لا تقوى عليها أكثر الدراسات عمقا وتفصيلاً. فمحفوظ فعل ما يفعله أي مبدع كبير بأن التقط شخوصه من قلب مصر، من قلب حاراتها الشعبية التي خبرها جيدا، والتي ظلَّ حتى آخر حياته مقيماً في إحداها، وعبر هذه الشخوص، وبتلقائية فذة، قدم لنا عبرها حراك مصر الاجتماعي والثقافي على مدار قرن بكامله.
لم يعمل محفوظ في دهاليز السياسة و«اللوبيات» التي تصنع حملة نوبل، التي صارع الكثيرون في سبيل أن ينالوها، وإنما أغرق في محليته المصرية والعربية، ليخلق أدبا إنسانيا رفيعا، مؤكدا بالبرهان أن العالمية لا تمر إلا عبر الانغراس في البيئة الوطنية.
_________
*جريدة عُمان