خضير ميري.. غادر المصحة الكبيرة


بغداد- رحل في بغداد اليوم الكاتب العراقي خضير ميري عن 51 عاماً. ولد ميري عام 1964، وكتب في الشعر والنقد مع اهتمامات فلسفية وسمت كتاباته.

بعد خروجه من العراق في بداية الألفية الثالثة، عاش لفترة في العاصمة الأردنية قبل أن ينتقل إلى القاهرة ومن ثم يعود إلى بغداد. وُسمت حياة ميري بتجربة ادّعاء الجنون في زمن صدام حسين، حيث خاض تجربة المصحة لتجنب المحاكمة، وهي التجربة التي كتب عنها في ما بعد ولاصقت تجربته وشخصيته وكتاباته وأسطورته الشخصية إن جاز التعبير. من “أوراق المصح” التي نشرها الراحل، نلمس قسوة التجربة التي تعرض لها بين السجن والمصحة وجلسات الصعق الكهربائي:
“المصحة، وهي تسحب تصريحها، الاستراحات المتقطعة
والإيغال في تفقد الأرصفة السيئة الإضاءة 
بغدادُ فرنٌ كبيرٌ، أراها من عيون الممرات الضيقة مثلاً
أو من بين أصابع لص يهرول هرباً من وجهه
أنا الفأر الفار في جوفها، ساعات من الإيواء في معاطف الأشجار
لون العشب الحامل الشرعي للبول المراق
مصطبات خشبية تحتج على نهبها اليومي من قبل عجيزات كبار السن لا يتحكمون بثقوبهم المكرمشة الذليلة
من دواعي السعادة أن قنينة البعشيقة المصنوعة من البلاستك الكريه
بدرهمين
بدرهم واحد هو كرع طاسة من العرق الرئاسيّ في حانة “المفلس”
بينما بسرعة يكون اللكم والضرب على المؤخرات المنكسة
الظهيرة الخمرية تطلي وجنتيها بالذباب
بينما التصريح الورقيّ يذوي ويتساقط كلامه”.
في بداية عام 1986، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، أوقف ميري في مديرية أمن عامة في العراق. يقول الكاتب، في لقاءٍ معه، إنّه تعرّض إلى التعذيب هناك؛ “فلم يكن أمامي خيارٌ سوى افتعال الجنون” إلى أن انتهى به الأمر في المصحّة.
تنقّل صاحب “حكايات من الشماعية” بين المصحّة والسجن، في محاولةٍ لكشف صحّة ادّعائه، إلّا أنه ظلّ مواظباً عليه، في سعيٍ منه إلى أن ينجو. هكذا، حتى حرب 1991؛ إذ تعرّض المستشفى الذي أقام فيه إلى الحصار، فقرّر، أسوةً ببقية النُزلاء، الفرار.. قفز عن سور تلك المصحة الصغيرة- كما روى لاحقا. وها هو اليوم يقفز عن سور المصحة الكُبرى.
صدر لميري أعمالٌ ذات صبغة فلسفية، سيطرت على أغلبها ثيمة الجنون، مثل “الجنون في نيتشه” (1999) و”الفكر المشتت: تعقيب على فوكو” (1997). ومن أعماله الأدبية “صحراء بوذا” (2001) و”سارق الحدائق” (2007). وفي عام 2000، صدرت له رواية بعنوان “أيام الجنون والعسل”، حاول من خلالها استعادة تجربة المصحّة العقلية، كما في عمله اللاحق “تصريحٌ بالجنون: رحلتي من التعذيب إلى المصحة العقلية” (2004).
آخر ما كتبه ميري على صفحته في فيسبوك، كان يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي؛ حيث بلغت السيدة فيروز عامها الثمانين:
غناء المبكى
إلى فيروز
مامن فراشات كافية في حديقتك هذا الصباح
وانحسرت الغيوم عنك ونزعت قبعاتها المبللة لكي تمري إلى الصدى الأبدي،
بناي بسيط وصوت مازا لت الملائكة تطالب بملكيته
صار الصوت رغيفا والبكاء غناء
والجمال جنون،
بينما ترعى في حنجرتك شعوب ما زالت مظلومة
أحاسيس بريئة 
وأحلام مثقفين برجوازيين صغار،
حجزت صباحات العالم باسمكِ
ولطالما تريثت الشمس عن السطوع لسماعك،
كفت العصافير عن الزقزقة
والأشجار حبست أنفاسها،
وأصبح العالم صوتك وصداه،
بعيدا في أقاصي العالم هنا في خرابة رجل بسيط
بين عمال مسطر ساحة الطيران، في الآن وهنا
مازال هذا الصوت ..لنا،
ولم يزل.
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *