*د. حسن مدن
قامتان عملاقتان في تراث الحركة الشعرية العالمية في القرن الماضي، وسيعيش شعرهما طويلاً في ذاكرة الإنسانية، التركي ناظم حكمت والتشيلي بابلو نيرودا، جمعت بينهما أشياء أخرى كثيرة غير الشعر: الانحياز لنضال شعبيهما وكل شعوب الأرض في سبيل العدالة والحرية، الأفق الإنساني التقدمي في الفكر والنظرة، معاناة السجن والنفي عن الوطن.
حين توفي ناظم حكمت في صقيع روسيا التي أقام فيها منفياً غريباً عن وطنه، رثاه نيرودا في قصيدة استهلها بالسؤال: «لماذا مت يا ناظم؟ وماذا سنفعل الآن وقد حـرمنا من أناشيدك؟ أين سنجد النبع الذي ننهل منه؟ ماذا سنفعل دون وجودك ودون حنانك الذي لا يلين؟»، وختمها بالقول: «شكرا لكل ما كنته يا ناظم/ وللنيران التي تركتها أغانيك/ متوهجة علي الدوام».
حين وقف ناظم حكمت أمام المحكمة قال مدافعاً عن نفسه: «الدولة تخاف من الشعر». عبارة صحيحة في المعنيين المباشر والمجازي. الشاعر أراد القول: لست إلا شاعراً، فلمَ تحاكموني؟، لكن هذه العبارة ستؤسس لتوجيه تهمة إضافية له ب«تحقير الدولة».
قبل سنوات قليلة فقط، خلا، لأول مرة، قرار دوري تجدده المحاكم تلقائيا بمنع عدد من المنشورات وآلاف الكتب من التداول في تركيا من أشعار ناظم حكمت التي ظلت ممنوعة رغم تعاقب الحكومات، العسكرية منها والمدنية.
هذا يعيد إلى الأذهان أن ناظم حكمت الذي حين يرد إسم ترد تركيا يرد اسمه، وإننا غالباً ما نسبق إسمه بالوصف التالي: الشاعر التركي، لم يصبح تركياً إلا قبل أمد وجيز، فالشاعر الذي مات في صقيع المنفى بعد سبعة عشر عاماً قضاها في سجون تركيا لم يكن يحمل جنسية بلاده، حيث كانت السلطات قد أسقطتها عنه.
من يتجرأ على سجن الشاعر أو نفيه عن وطنه؟ ولكنهم يفعلون!.. في شغب الشاعر وجماله أمر مقلق، ورغم أن الشاعر يسكن عادة في المخيلة، لكن مخيلة الشاعر مقلقة لأنها تنشأ على ضفاف الحلم. والحلم، كما الشعر، ممنوع حين يعم الظلام.
في شهادة لزوجته، قالت إن ناظم كان يصحو كل صباح ليذهب راجلاً إلى مبنى البريد تسقطاً للرسائل الآتية من الوطن البعيد تحمل أخباره. وكانت تلك الأخبار زاداً وملهماً وباعثاً على الدفء في برد الروح الذي يجتاح المنفى. وفي صباح أحد أيام صيف عام 1963 خرج إلى مشواره اليومي نحو البريد، لكنه لم يعد. لقد سقط ميتاً في الشارع وهو في طريقه متلهفاً إلى رسائل الوطن.
بين الشعراء وصندوق البريد علاقة قدرية. ولأننا أيضاً بصدد الحديث عن رفيقه بابلو نيرودا، فاننا نتذكر المشهد المعبر في فيلم «ساعي البريد» الذي يروي جانباً من حياة نيرودا في المنفى بإيطاليا، فعندما أدرك ساعي البريد أن من يحمل إليه الرسائل يومياً هو شاعر كبير، قال له: «أحب فتاة جميلة، وأريد أن أكتب لها شعراً»، وكان رد نيرودا بسيطاً ومكثفاً: الحب هو قصيدة شعر.
ونيرودا لم يمت في المنفى كناظم حكمت لقد عاد إلى وطنه وعاش ربيع الديمقراطية وخريفها أيضاً. ذات صباح أطبق العسكر على السلطة وقتلوا الرئيس المنتخب صديق الشاعر سلفادور الليندي. قدر القلوب الكبيرة أن يموت أصحابها كمداً في أوطانها أو في المنفى. ليست السيرة الجليلة لكبار الشعراء العرب بمختلفة عن هذا السياق من المتنبي وأبي فراس الحمداني وصولاً إلى الجواهري الكبير.
أوطان عاقة، جاحدة، تتنكر لجميل وأعذب أبنائها، تقذف بهم في منافي الصقيع البعيدة هناك على آخر وأبعد الثرى يموتون ويدفنون. وتمر سنوات طوال، عقود متوالية حتى تتذكر هذه الأوطان إن فلذات من كبدها مدفونة في البعيد، وفيما تتنازع أمم وشعوب على أن تنسب هذا الشاعر أو ذاك إليها، كل أمة تقول إنه ابننا وشاعرنا، فإن الأوطان المبتلاة بالاستبداد تتفنن في إعلان البراءة من الشعر ومن الجمال، بأن تسقط حقوق المواطنة عن شعرائها ومثقفيها وتطوح بهم في المنافي.
في مذكراته كتب بابلو نيرودا عن كنز الكتب الذي راكمه طوال حياته. حين بلغ نيرودا الستين من عمره أدركه القلق على مصير هذا الكنز: ماذا سيحل به بعد أن يموت. واختار أن يفعل ما يفعله المبدعون الكبار عادة، فقرر إهداء كنز الكتب إلى المكتبة العامة في بلاده تشيلي. لكن المفاجأة كانت في الطريقة التي تعاطت بها السلطات مع خطوة الشاعر الكبير.
لقد روى هو بنفسه ذلك حين قال: «استغرقت ثلاثين سنة وأنا أجمع كتباً كثيرة. كانت رفوفي تحوي كتباً طبعت منذ زمن بعيد ومجلدات كانت تهزني لعظمتها في طبعاتها الأصلية لـ «رامبو»، «لوتريامون»، «سرفانتس»، كأنما صفحاتها ما زالت تحتفظ بلمس أولئك الشعراء العظام. لقد جبت العوالم كلها إلى درجة إن مكتبتي نمت بإفراط وجاوزت شروط المكتبة الخاصة. ذات يوم أهديت المجلدات التي بلغ عددها الخمسة آلاف، والتي اخترتها بحب وشغف من أنحاء العالم كله،إلى جامعة تشيلي، فاستقبل مدير الجامعة هذه الهبة بالجمل الطنانة والكلمات الجميلة.
أي إنسان ناضج وشفاف سيفكر في البهجة التي عمت تشيلي إثر هديتي هذه. لكن ثمة أناساً يسكنهم الكدر ويجافيهم الصفاء هاجوا وماجوا. كتب ناقد رسمي مقالات غاضبة، يحتج فيها بحدة على سلوكي. سيد آخر ألقى في البرلمان خطاباً ملتهباً ضد الجامعة لأنها قبلت هداياي، وهدد بقطع الإعانات التي تتلقاها الجامعة، فيما شن آخرون موجة من صقيع الشتائم، وكان مدير الجامعة يروح ويغدو عبر كواليس البرلمان شاحب الوجه مرتعداً، إلى أن فصل من عمله وعزل عن أي وظيفة».
لم تكن تشيلي هي التي تنكرت لمكتبة شاعرها الأهم، وشاعر الإنسانية كلها، الذين هاجوا وماجوا غضباً لأن تلك الكتب النيرة التي ساهمت في تكوين عقل ووجدان نيرودا هم أفراد تلك الحلقة الصغيرة المتنفذة التي تخشى الكتب، وتخشى ما فيها من أفكار.
في إحدى قصائده، لعلها «إلى شعبي في يناير» يقول بابلو نيرودا: «كثيرون قد نسوا/ وكثيرون قد ماتوا/ وآخرون لم يكونوا قد ولدوا بعد/ أما انا فلم انس ولم أمت». النسيان الذي يعنيه الشاعر هنا نوع من آخر من النسيان، من النوع الفتاك حين يصبح المطلوب هو تغييب الذاكرة الجمعية للناس وعزلهم عن تاريخهم أو عزل هذا التاريخ عنهم.
ونيرودا الذي رحل عن الدنيا أوشك أن يحقق نبوءته الشعرية بأنه لم يمت. لأنه باق في ذاكرة ووجدان شعبه، الذي لم ينساه، ولم ينس الملابسات المريبة التي أحاطت بموته. كانت حراب فاشية بيونشيت تطوق تشيلي التي سالت الدماء في شوارعها وتحولت إلى سجن كبير دامٍ في صيف 1974حين رحل عن الدنيا شاعرها الأكبر، حامل نوبل للآداب والمناضل في صفوف الحركة الديمقراطية.
لم تكن قد مضت سوى أيام على الانقلاب الدموي الذي روع البلاد، بعد إطاحة الحكومة الشرعية المنتخبة من الشعب بقيادة سلفادور الليندي، الذي سقط شهيداً لحظة إجتياح العسكر للقصر الجمهوري بعدما وجه خطابه الشهير للشعب . حلقة صغيرة من أفراد عائلة نيرودا ورفاقه المقربين ساروا في جنازته الصغيرة يومها، لأن أغلبية من كانوا سيسيرون فيها قد قتلوا أو اعتقلوا أو اختفوا، لكن الجنازة، على ذلك، حملت رسالة احتجاج على الفاشية المطبقة على البلاد، ويومها ساورت الناس الشكوك في أن يكون موت نيرودا مدبراً من قبل هذه الفاشية ذاتها، انتقاماً منه ومن موقفه ومن شعره . الفاشية لا تطيق الشعر ولا الشعراء .
بعد أربعين عاماً على رحيله، أعيد رفع رفات الشاعر المدفون في حديقة منزله على شاطئ المحيط الهادئ إلى جانب زوجته ماتيلدا أوروتيا، بأمر من أحد قضاة التحقيق بفتح القبر وفحص الرفات من أجل إثبات ما يقوله أحد أقرب مساعدي الشاعر من أنه زرق بحقنة سامة في المستشفى ومات مسموماً، قبل أن تحرر السلطات شهادة وفاة تزعم فيها أنه مات جراء إصابته بسرطان البروستاتا، ولم يعثر على أثر لملفه الطبي بعد ذاك، ورغم الزمن الطويل الذي مر على وفاة الشاعر، ألا أن الأطباء يأملون في العثور على الأدلة الكافية . كان نيرودا يتأهب، يومها، للسفر للمكسيك، من أجل قيادة المعارضة الدولية للانقلابيين .
«لم يريدوا أن يغادر البلاد فقتلوه . لقد مات نيرودا مقتولاً»، هكذا يجزم مساعده المدعو «أرايا»، مضيفاً أنه لن يغير روايته حتى مماته، وحسب الرواية فإنه وزوجة الشاعر عادا إلى المنزل لجلب بعض من حاجياته، وهناك استلما مكالمة هاتفية من نيرودا قال فيها: «عودا إلى هنا بسرعة، فعندما كنت نائماً جاء طبيب وزرقني بحقنة في البطن»، وفي مساء ذلك اليوم مات الشاعر .
كم من الشعراء الشهداء، هنا وهناك، يتعين فحص رفاتهم لرؤية ما خلفه الجلادون من جراح على أجسادهم قبل أن يجهزوا على حياتهم غيلة. فاشية فرانكو في إسبانيا أخفت جثة الشاعر القتيل لوركا، وفاشية بيونشيت أخفت ملف نيرودا الطبي لمحو آثار الجريمة، لكن العار يلاحق القتلة حتى في مماتهم، أما الشهداء، خاصة إذا كانوا شعراء، فيعودون كالفكرة الفاتنة.
____
* جريدة عُمان