*د. حورية الظل
خاص ( ثقافات )
ليست النجومية حكرا على أهل السينما والغناء، وإنما للفن التشكيلي أيضا نجومه، وجيف كونز الفنان التشكيلي الأمريكي ( 1955) من هؤلاء، وقد بدأ حياته المهنية في ميدان الأعمال والبورصة، وابتداء من سن الرابعة والعشرين امتهن الرسم والنحت، وأشّر منذ البداية على أسباب نجاحه، لشغفه بتحويل العادي والمبتذل إلى المدهش والغريب، فحاز اهتمام دور العرض العالمية المعروفة، وبيعت أعماله بمبالغ طائلة، وهو اليوم من أشهر الأسماء في الأسواق الفنية ومن أغنى الفنانين المعاصرين، فإلى أي حد استطاع جيف كونز أن يرسم معالم الفن التشكيلي المعاصر، وكيف استطاع أن يكون أحد أبرز نجومه، وما الذي رفع قيمة أعماله في سوق الفن؟
المختلف والمدهش طريق سالك للنجومية:
ينزاح جيف كونز عن العادي والمتعارف عليه في أعماله الفنية فتتخذ شكل منحوتات مفاهيمية ضخمة، واللطيف في الأمر أن أغلبها عبارة عن قلوب عيد الحب وبيض عيد الفصح وألعاب قابلة للنفخ أو بعبارة أخرى حيوانات البالونات كالكلاب والأرانب وأيضا زهور البالون، وهو يصنعها من الفولاذ الغير قابل للصدأ (الستانلس ستيل) ويغطيها بورق يُبديها مصقولة وعاكسة كالمرآة، وألوانها أحادية وتتراوح بين الأزرق والقرمزي والبرتقالي والأحمر والأخضر وغيرها وما يميز هذه الألوان أنها تبدو زاهية ونابضة بالحياة.
ولم تقتصر تجربة كونز على ألعاب البالونات وإنما تعدتها إلى تجارب أخرى، فأنجز ثلاث منحوتات لمايكل جاكسون مع قرده بابلز بالسيراميك والبورسلان وبيعت إحداها في دار سوذبيز بقيمة 5,6 مليون دولار، كما تم تكليفه من طرف متحف قلعة أوسلون في ألمانيا بإنجاز تحفة فنية، فأنجز منحوتة نباتية بعلو 13 مترا وهي عبارة عن جرْوٍ مغطى بعشرين ألف زهرة من كل الأشكال والألوان، وهو يستحضر الزهور الحقيقية في أعماله بكثرة، ربما لكونها توحي بالصفات المرتبطة بالجمال السريع العطب وحاجتها الدائمة للاهتمام والرعاية، كما أنجز منحوتة في حديقة قصر فرساي، ومنحوتة عبارة عن ماسة زرقاء ضخمة، واهتم أيضا بالشخصيات الكرتونية فأنجز سلسلة بوباي وهي مستوحاة من الشخصية الكرتونية المعروفة، كما أنجز منحوتات للكثير من الحيوانات التي يحبها الأطفال كالجراء والقطط والأرانب وغيرها، ولا ننسى سلسلة التماثيل المتشكلة من بطل أخضر سماه “هيلك بريسلي” ربط من خلاله بين الشرق والغرب وجميع مناطق العالم حسب تعبيره، وجعله في كل تجلياته شرسا وفي وضعية قتالية ويستعرض القوة الغاشمة والجبروت التي تلطفها أحماله المتضاربة والمتناقضة، فمرة يجعله في وضعية دفع عربة من الزهور الطرية أو تصطف على كتفيه مجموعة من الحيوانات الهشة، وأخرى يحمل دلوين مليئين بالزهور أو صخرا وهكذا.
ولم يتوقف شغف كونز عند هذا الحد بل انجرف إلى إنجاز تماثيل تشبه تلك التي نحتها فنانو العصور الكلاسيكية القديمة لآلهتهم كفينوس وأبولو معربا من خلالها عن حبه وإعجابه بأعمال تلك الفترة.
وأيضا صمم الموديل السابع عشر لمجموعة “بي إم دابل يو” الخاصة بسيارات السباق. وكل هذه الإنجازات الفنية التي ذكرنا والتي لم نذكر لضيق المجال تخبر عن فنان فذ قادر على استنبات السحر والجمال من كل المواضيع وكل المواد ويؤكد ذلك بقوله: “إن كل شيء حولنا يمكن تحويله إلى منتج فني، لأن كل شيء يحتوي داخله على عناصر امتيازه”.
وجرد بسيط للأثمنة التي بيعت بها أعمال كونز تؤكد بما لا يقبل مجالا للشك ارتفاع أسهمه في سوق الفن التشكيلي العالمية ونجوميته، فزهرة البالون مثلا بيعت خلال أمسية الفن المعاصر وفن ما بعد الحرب ب25,765 مليون دولار في دار كريستيز بلندن سنة 2008، والقلب المعلق بيع ب23.6 مليون دولار، أما قطعة الماسة الزرقاء فقد بيعت ب25.7 مليون دولار، وكلب البالون بيع ب58.4 مليون دولار، والمثير للاهتمام أنه في سنة 2007 حطم الأرقام القياسية في المزادات فصُنفت أعماله الأعلى سعرا مقارنة بالفنانين الذين هم على قيد الحياة.
وكونز لا يقوم بكل العمل لوحده ولا يترك أمور فنه للصدفة وإنما يعتمد على دعم العديد من المساعدين الذين يساعدونه على إنجاز منحوتاته في مشغله، ويعترف بأنه لن يتمكن من إنجاز كل تلك الأعمال منفردا، ولو فعل ذلك فسيستهلك الكثير من الوقت والجهد لإنجاز عمل واحد.
لقد أصبح كونز من أكثر الفنانين شهرة فأحد المعارض التي نظمت له في فرساي زاره 960 ألف زائر، كما عُرضت أعماله على نطاق واسع وفي أشهر عواصم الفن العالمية كباريس وشيكاغو وفرانكفورت ولندن ونيويورك ويمكن اعتباره من الفنانين الذين ساهموا في تحديد معالم الفن المعاصر من الثمانينات إلى اليوم.
سرُّ تميز جيف كونز:
ما يميز كونز ويجعل منه النجم الأشهر في المشهد التشكيلي العالمي هو اختياره الانحراف عن جادة المتعارف عليه في الفن من خلال استخدام تركيباته من العادي والمبتذل والمهمش كالفولاذ الغير قابل للصدأ والبلاستيك والسيراميك والزهور والأثاث المنزلي وإعادة تحويل كل ذلك إلى المدهش والغريب، مع بصمة من الجرأة والتميز النادر، إنه يبتكر تحفا ثمينة تمارس سحرها الضارب على المتلقي. والدليل القاطع على نجوميته، تَنافس المقتنين في المزادات العالمية على اقتناء أعماله، وهذا سر ارتفاع أثمنتها الذي يصبح خياليا في غالب الأحيان كما سبق ورأينا، ورغم تنوع ابتكاراته الفنية، فإن حبه يظل لألعاب البالونات وهي التي شكلت بصمته في مجال الفن التشكيلي وعنوان تجربته وما يميز هذا النوع من المنحوتات ذات الطبقة الخارجية اللامعة واللون الزاهي والسطح العاكس كالمرآة، أنها تعكس صورة المتلقي فيصبح جزءا من العمل الفني كما يستعيد من خلالها قطعا من طفولته الضائعة وينسحب لعوالمها المدهشة منزاحا عن الواقع، ويفسر الناقد جواشيم بيسارو هذا الطرح بقوله: “إن شغف كونز وبراعته في المستوحى من ألعاب الأطفال، كونه يسعى إلى تمكين المتلقين من استعادة لحظات من طفولتهم بطريقة جماعية لما تنعكس صورهم على سطح منحوتاته الفولاذية الأملس والمصقول كمرآة”.
لذلك فمن البديهي أن تشكل أعماله، السهل الممتنع فتبدو بسيطة في وضوح لكنها معقدة في نفس الوقت، ولكونز معرفة واسعة بالفن، وهو يستمد مواضيعه من الثقافة الاستهلاكية للأمريكيين ومن الأزمنة الطفولية ومن الفن القديم ويرى بعض النقاد في أعماله تأثير الفنان الأمريكي آندي راهول والفنان الفرنسي مارسيل دوشامب وأيضا مايكل أنجلو.
وبما أن نجوم الفن دائما تحت الأضواء ولهم معجبون ومعارضون، فإن كونز أيضا لم يفلت من ذلك، فانقسم النقاد والمهتمون بأعماله إلى فريقين وقالوا وأعادوا القول حول تجربته، وهمُّ الإثنيْن تقييمها، فهناك من يراها مبتذلة وآخرون يرونها رائدة ومختلفة وحققت خصوصيتها ومنحت المهمش والعادي قيمته. ومن الذين كان نقدهم إيجابيا، الناقدة إيمي ديميسي التي وصفت كلب البالون بأنه “كيان رائع” واعتبره جيري سالتز بأنه “مبهر للأبصار”، أما مدير متحف الفنون الجميلة بلوزان بيرنارد فيبيشار فقال عن كونز : “بأنه يخلق حالات من التناسق ولا يترك أي شيء للصدفة”، وجواشيم بيسارو يرى أيضا “بأن أعمال كونز ليست جامدة، وإنما تشبه الجسم المرتعش الذي يطن باستمرار ويظل مثيرا للدهشة بلا توقف”. أما بعضهم فيرى في أعماله تعبيرا باذخا عن متطلبات الإنسان المعاصر. وآخرون يحسبون له مساهمته في دمقرطة الفن التشكيلي لوجود الكثير من منحوتاته في الساحات العامة وهي في المجال البصري للجميع وغير محجوبة على أحد ويعتبرها كونز من وسائل توحيد الجمهور وتهذيب ذوقه.
لكن نقادا آخرين لهم رأي مخالف، فاعتبروا بأن ارتفاع أثمنة أعماله ناتجة عن نجومية زائفة ومصطنعة، وهي نتيجة طبيعية لدخول الرأسمال إلى الفن، حيث استقطب كونز اهتمام المؤسسات الفنية وصالات العرض العالمية فروجت له وصنعت منه نجما من أجل جني المال الوفير من وراء بيع أعماله التي هي حسب النقد المعارض مجرد أشياء تافهة ومصطنعة وبلا قيمة، ومن هؤلاء الناقد مايكل كميلمان الذي قال بأن: “أعماله مصطنعة ورخيصة وساخرة بلا خجل”، أما مارك ستيفنز فاعتبره: “فنان منحط ، لم يساعده نقص مخيلته إلا في تسخيف مواضيعه والبيئة التي يعمل فيها..إنه أحد أولئك الذين يخدمون الغنى المبتذل” وروبرت هيوز اعتبره صورة مضخمة ومغرورة للنفاق المتعلق بالربح الكثير، ولقبته الكثير من المتاحف أيضا ب “ملك الفن الهابط”.
أما كونز فلم يبق مكتوف اليدين أمام سياط النقد فانبرى للدفاع عن تجربته من خلال استمراره في الإبداع والابتكار وقال بأنه يمارس فنه وعينه على المستقبل ليرى إلى أي نقطة يمكنه أن يصل، مؤكدا بأن الأموال ليست همه الأول، ، ولما سئل حول شهرة أعماله أجاب: “هناك فرق كبير بين كون العمل مشهورا وكونه ذو مغزى، وأنا أهتم أولا بالمغزى، لأن ذلك يغني حياتنا ويجعلها أرحب، غير أني لا أهتم بالشهرة من أجل الشهرة”، والجمال لدى كونز مرادف “للقبول” حيث يعتقد بأن: “كل عاطفة وكل رأي في الجمال يستحق الاحتفال به، سواء تعلق الأمر بدهشة وسعادة في عيني طفل يرى أول لعبة تنفخ له، أو تخيُّل التفاني العميق في عيون أجدادنا منذ آلاف السنين أمام فينوس” والفن حسب رأيه : “يجعلنا أكثر وعيا بأنفسنا كبشر وهو جزء من إنسانيتنا التي نتقاسمها “
لكن ما يمكن قوله عن أعمال كونز أنها تتمتع بالجودة والانتقائية لأنه يخرجها في صورة فاتنة ومبهرة ويبدو النفَس السوريالي واضحا في تجربته. وهو حسب مناصريه من أعظم الفنانين الذين يعيشون بيننا وقد حاز كونز العديد من الجوائز والأوسمة على إنجازاته في مجال الفن التشكيلي كدليل على علو كعبه في الفن المعاصر وأيضا على نجوميته.