النص الأردني والنقد.. بين الغياب والحضور



علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )

نقاد: لهذه الأسباب غاب النقد عن النص الأردني
عتب كبير يبديه المبدع الأردني على العملية النقدية لأنها لم تساهم بترجمة نصه ليصل إلى القارئ ولينْعم صاحب المنجز الإبداعي بتكريم السلطة النقدية عندما تحتفي به سواء مدحت العمل أم بيّنت عيوبه ضمن ثنائية النقد الخالدة “حسنٌ ورديء”، فيتصور المبدع أن التقصير كبير ولا يغتفر للنقاد/ات والقائمين على العملية النقدية.

ويلاحظ المتتبع للصحف والمجلات والمواقع الثقافية الإلكترونية في الأردن، أن العملية النقدية شبه غائبة وثمة بون شاسع بين عدد الإصدارات الحديثة بالمقارنة مع القراءات مع الإضاءات والحفريات النقدية التي تتناول هذه الإصدارات، ويعدُ هذا في عرف الأدب خللاً لا يغتفر باعتبار أركان الأدب ثلاثة “الإنتاج للمبدع والنقد للناقد والتلذذ للقارئ”، والتقت ثقافات ببعض النقاد لمعرفة أسباب الفراق القائم بين المبدع والناقد.

نقد المجاملات والفجوة بين المبدع والناقد

تُشَرِح الناقدة والأكاديمية مريم جبر أزمة النقد الأدبي في الأردن بأسئلة كلاَّنية تربط فيها عامل الزمن بالناقد والمبدع والمتلقي، لتبدأ بسؤال النقد الذي تعتبره أهم أسئلة المشهد الثقافي الأردني، غير أن محاولة الإجابة عنه ستتضمن النظر في دوائر عديدة متداخلة، تجعل الحديث عن أسباب ضعف النقد –الذي لا تعتبره غائبًا- متضمنًا في توصيف واقع النقد في الأردن وعلاقته الجدلية بالإبداع.
وقالت الدكتورة مريم جبر: “في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن أزمة في النقد في الأردن، شهدت هذه المنطقة من العالم العربي حركة أدبية متقدمة في الكم والنوع، فعلى صعيد الكم صدر عدد كبير من الأعمال الإبداعية وخاصة في مجالي القصة القصيرة والرواية، جاوزوا فيها الأساليب التقليدية في السرد، ونأوا عن التأريخية في الصياغة واستعادة الأحداث، و تقنيات السرد الحديثة، كالمشهدية، والبوليفونية، والتفتت إلى معاناة الإنسان العادي البسيط في ظل تحكُّم الآلة واستشراء الفقر، وثقل وطء العادات والتقاليد، فتناولوا موضوعات كان يشار إليها على خجل وربما خوف، كموضوعة الرقابة والجنس وجرائم الشرف والعلاقة مع السلطة، ويمكن الإشارة هنا إلى روايات من مثل “عندما تشيخ الذئاب” لجمال ناجي، و”شرفة العار” لإبراهيم نصر الله، و”القط الذي علمني الطيران” لهاشم غرايبة”.

وحول ألوان النص، تعلق الدكتورة مريم جبر انحياز عدد من الكتاب إلى ألوان من الإبداع، وإن لم تكن جديدة لكنها كانت قليلة وضعيفة الاهتمام في الوسط الثقافي، ولم تكن تصدر في كتب مستقلة، بل مختلطة بلون آخر (القصة القصيرة جدًا)، ويمكن الإشارة هنا إلى أقاصيص مهند العزب.

وفي فوضى النص والنقد تعتبر الدكتورة مريم جبر هذه الفجوات غير منسجمة مع حركة نقدية قادرة على وضع المنجز الإبداعي في المكان الذي يليق به، سواء كان ذلك على صعيد التجويد والتجديد، أم على صعيد التقليد الذي لم يرتق إلى التجويد، فهو لم يحاكِ النماذج التي قلّدها، فقد ظلّ ذلك المنجز رهين احتفالات وليدة زمانها ومكانها ولم تسفر عن إضافة حقيقية للنقد أو الإبداع.

وتصنف الدكتورة مريم جبر العلاقة بين المنتَج الإبداعي وتلقيه في الوسط الثقافي الأردني من خلال إلى نقاط محددة:

1. ما ينشر من مقالات صحفية سريعة تعرض للعمل بكثير من الترحيب والحفاوة التي تليق بتقديم صديق لصديقه، أو أداء وظيفة يعمل فيها المحرر إلى ملء الصفحات المخصصة له، دون أن يحمّل الصحيفة تكلفة مادية، في وقت ابتسرت فيه الصحف المساحة المخصصة للثقافة والأدب والفنون، تحت ضغط الوضع الاقتصادي للصحيفة.

2. مقالات يكتبها كتّاب نَشِطون غير متخصصين، لكنهم متابعون جيدون، يتربصون بكل جديد، فيعرّفون به ويجولون بين صفحاته عرضًا وتفصيلاً لا يجاوز حدود عرض الموضوع وموقع الكاتب والترحيب بهذا الجديد. وقد حاز هؤلاء مكانة متميزة في الوسط الثقافي الأردني باعتبارهم وسيلة رئيسة في التعريف بالمنشورات الجديدة شعرًا كانت أم نثرًا، غير أن هؤلاء سرعان ما يجمعون تلك المقالات وينشرونها في كتب تلقى ترحيبًا من الجهات الرسمية ودور النشر الداعمة للحركة الثقافية، غير مدركين لأثر تلك الكتب في توجيه الدارسين الذين تجد في نفوسهم هوى، فيعتدون بها مراجع سهلة حافلة بالمعلومة السريعة والأحكام الجاهزة.

3. دراسات أكاديمية هي بدورها تعمل في الأكثر على حشر النص في بوتقة المنهج العلمي، فتعمل على تكييف النص على مقاس مقولات وخلاصات لنظريات هي في الأغلب الأعم وليدة رؤى وفلسفات مجتمعية مختلفة أو نقيضة، يقوم بها باحثون ودارسون لا تجاوز دراساتهم صفحات المجلات العلمية أو تظل حبيسة رفوفها العالية المتعالية على عقل القارئ وذائقته. 

4. ودراسات أكاديمية على قلّتها ما زالت تسعى جادة للانطلاق من النص وإليه، دون أن تتجاهل ما جادت به نظريات النقد وأفكار ورؤى المنظّرين الغربيين، أو ما لهذا النص من خصوصية تتصل بثقافة وتراث تراكمي لا يمكن تجاهله.

انعكاسات الأوضاع الراهنة تخدش الجمال

تذهب الناقدة والأكاديمية ليندا عبيد إلى أن أزمة النقد وضعفه في المشهد الثقافي هي أزمة تتناسب مع سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية التي أفرزت طبائع رديئة متهالكة ألقت بظلالها على كل فئات المجتمع بما فيها طبقة المثقفين والكتاب والنقاد أو ما يعرف بالمشهد الأدبي والنقدي والثقافي؛ إذ طغت المصالح الفردية والمادية على كل شيء فصار النقد يدور في فلك المجاملات والمصالح الشخصية من جهة، وأشبه ما يكون بالقوالب الجاهزة التي تصرف لفلان وفلان بغض النظر عن إنتاجهم، فالأمر لا يتطلب إلا أن ننزع اسم هذا لنضع اسم ذاك، إضافة إلى كثرة ما يعرف بحفلات التوقيع التي يستضيف بها الكتاب نقاداً أصدقاء ليتحدثوا حول إنتاجهم منتظرين منهم المحاباة وتقديم جميل الكلام المتناسب مع لطف الضيافة.

وتضيف الدكتورة ليندا، أن المجتمع بأغلب فئاته كأنما لم يعد يرغب بسماع الحقائق الموجعة وقبح الأشياء فصار الأمر طبعاً قائماً على تجميل حتى القبح ليحظى الناقد بالتصفيق ويرفع عنه مغبة الانتقاد وانزعاج جوقة الأديب. وثمة سبب مهم برأيي مرده أن شيوخ النقد وأساتذته الكبار وبعد رحلتهم المنهكة الطويلة كأنما فقدوا رغبتهم بالاطلاع على الأعمال الجديدة في الأغلب، زد على ذلك أن قلة القلة منهم من تلجأ إلى تلمذة ودعم طلابهم من النقاد الصغار عمراً ليسيروا على خطوات نفس الطريق فنحظى بجيل جديد من النقاد المدربين يجمعون بين خبرة السلف ومقدرتهم وأدواتهم وبين حس العصر وأدواته وروحه الجديدة. فما الأدب والإبداع إلا تمردنا الجميل المتخذ من اللغة وسيلته الحضارية للتغيير والتصدي للقبح والاستلاب لرفع سوية الجمال والمجتمع والارتقاء بالإنسان.

تردي النقد حالة عامة

تَعْتَبِر الناقدة والأكاديمية مها العتوم ضعف النقد الأردني وتراجع دوره وتأثيره، بأنه جزء لا يتجزأ من المشهد النقدي العربي الذي يعاني من التراجع والضعف أيضاً فلا يواكب الإبداع، ولا يقوم بدوره المنتظر منه، ولذلك عدة أسباب لعل أبرزها الانكفاء على نظريات ومدارس النقد الغربي والقيام بتطبيق هذه النظريات أو إسقاطها على النصوص العربية، وهو فهم خاطئ للنقد الذي ينبغي أن ينطلق من النص لا من النظرية التي أنجزها النقد الغربي بناء على النصوص لا العكس، بالإضافة إلى خصوصية النص العربي وحاجته لنظرياته الخاصة به لا النظريات القائمة على فلسفة وفكر وحضارة مختلفة كل الاختلاف عن واقع النص العربي. وهناك أيضاً سبب آخر هو المسافة بين النقد الأكاديمي الذي يكاد ينحصر في الجامعات ولا يتلاقى مع النقد غير الأكاديمي، كما لا يتلاقى مع النصوص الجديدة والتجارب الحديثة، أما خارج الجامعات فلدينا نقد انطباعي متعجل لا يستبطن النص، وبالتالي فهو لا يؤسس لفكر نقدي تراكمي، يمكن الانطلاق منه والبناء عليه.

نصوص لا تستحق النقد

وتُعْزِي الناقدة والأكاديمية نهلة الشقران غياب النقد عن الأردن لأسباب كثيرة أهمّها قلّة الإنتاج الذي يستحقّ النقد، فكثرت الكتب مؤخّراً خاصة في فنيّ الرواية والقصة القصيرة جداً، لكن للأسف كثير غثّها نادر سمينها، من العارّ أن تتبناها الوزارة مثلاً في مشاريعها السنوية أو تصدرها دور نشر ربحيّة، وقلّ الإبداع اللافت لنظر الناقد. أمّا الأسباب الأخرى فتتعلّق بالناقد نفسه، فليس كل متخصص بالنقد ناقداً، ولا كل من حفظ مصطلحات نقدية وساعده حضوره في الوسط الثقافي بناقد، علاوة على أنّه لا مصداقية في النقد إن وجد، وأغلبه مصالح مشتركة بين الجماعة الواحدة.

الخبزُ والخباز.. الأزمة أخلاقية مهنية

يُفَصِل الناقد والأكاديمي خالد الجبر المشهد النقدي الأردني بأبعاد محددة ساهم غيابها بضعف النقد الأدبي، كان أهمها مهنية الناقد وحرفية المبدع وبيئة التلقي ليقول: النّقدُ صورةٌ عن حياتِنا في تجلّياتِها المتعدّدة، وهو بذلك تجسيدٌ لحالتنا الفكريّة والثقافيّة. وبما أنّه ممارسةٌ قائمةٌ على ساقينٍ: الأدبِ، والغايةِ، فإنّ حاله لا تستقيمُ إلاّ بحالةٍ أدبيّةٍ متّقدة من جانب، وبموضوعيّة الغاياتِ وتجرُّدِها من “الشّخصنة” و”الإغراض” من الجانب الآخر. ومع الأسف الشّديد فإنّنا في الأردنّ نعيشُ حالةً من فاعليّة الحياةِ الأدبيّة ثقافيًّا، وضُمورِها على مستوى العلاقةِ بالحياةِ والقضايا الكبرى للأمّة والإنسان، فضلاً عن كثيرٍ من البهرجةِ والزُّخرُفِ والبذَخِ المنبتّ من بيئتِه. وإذا أضفنا إلى ما تقدَّم أنّ الجهودَ النّقديّة في الأردنّ نشأتْ في حضنِ الأكاديميا التي وجَّهتْها في آخر ثلاثة عقودٍ وجهةً غير محمودة، حتّى ضاقت دائرتُها لتكونَ في إطارٍ إقليميّ ضيّق من جهة، ورزحَت تحتَ ضُغوطِ الأهواء والنّزعات الغرائزيّة من قبيل المجاملة أو القدح أو النّيلِ أو الفائدةِ، وتأطّرت كلُّها في حمأةِ المصالحِ والنّفوذِ والأغراضِ، فقد خرجت الحركة النقديّة عن مسارِها المحمود، ووقعت في ربقةِ المحلّيّ الذي يقتضي الوصفَ والتّحليلَ حسبُ، وهما لا يقتضيانِ أكثرَ من فهمٍ فجٍّ لنظريّاتٍ أو رُؤى يسبقُ تنزيلَها على النّصوص، أو سَوْقَ النّصوصِ إليها. فكيفَ لهذا أن يطوّر حركة نقديّة أو يرتقي بها؟

ولقد درجنا في آخر عقدٍ على كثيرٍ من التّمادي في هذا، والانسياقِ لرغباتِ بعض مراكزِ النّفوذ في المؤسّسات؛ تلك التي أرادت للأدب والنّقدِ أن يتساوَقا معًا في مساحةٍ ضيّقةٍ من المدحِ أو الرّدح، فثمَّة أقلامٌ “نابحة” على الإطلاقِ لا تجدُ شيئًا أمامَها إلاّ ما يستحقُّ الهجوم، منصِّبةً من نفسِها وصيّةً على الأدب وقيِّمةً عليه، وثمّة أقلامٌ تُدْفَعُ لتقولَ ما يُرادُ لها أن تقولَ لكي تُفْتَحَ لها المنابرُ والأبوابُ وتُشرَّع لها النّوافذُ والصَّفحاتُ والأضواءُ أيضًا. هكذا كرَّسَ بعضُهم نهجًا أحاديًّا ذا بُعدينِ اثنين للنّقدِ في الأردنّ: صحفيٍّ قدّاحٍ ردّاحٍ أو مدّاحٍ صدّاح، وهذا لا قيمةَ له على الإطلاقِ لأنّه لا يبني شيئًا بل يضلِّلُ ويُعفِّي على آثارِ نفرٍ من النقّادِ ويخرّب ما أسهمُوا به، وهو نقدٌ مناسباتيّ تجدُه في حفلاتِ توقيعِ الإصداراتِ وتقريظِها، أو على صفحاتِ المواقعِ الإلكترونيّة وبعض الصُّحفِ المفرّغة من مضمونِها والمجلاّتِ الموجَّهة ذات الغاياتِ الضّيّقة. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر تجدُ النّقد الأكاديميّ الذي وجّهتْهُ أيدٍ وإراداتٌ ليتضاءل وينحسرَ حتّى كأنّه أصبحَ مقصورًا على الإقليميّة الضّيّقة التي نعيشُها على مستوى الحركة الاجتماعيّة، وعلى بعض الرّؤى النّاضجةِ المعزولةِ أو المعتزلةِ التي لم يُتَحْ لها البابُ لتكونَ جزءًا من التّيّار الصّارمِ الغالب. هكذا، لم ننجحْ في تكوين مدرسيّة في الأدب، كما لم نفلِحْ في انتهاجِ مدرسيّة في النّقد، وذهب الكبارُ دون أن يخلّفوا وراءهم أنصارًا أو مريدينَ يحملونَ مشاعلَهم.

وإذا قرنتَ إلى هذا أنّ كثيرًا من النقّادِ، أو ممارسي النّقد، قد ارتضوا لأنفسهم/ أنفسهنّ مكانةَ التّابعِ الذي يجري وراء الأديب ليقاسمَه شيئًا من الشُّهرة الحقيقيّة أو الزّائفة، حتّى لقد نشأت لدينا وظيفة “النّاقد غبّ الطّلب”، و”النّاقدة الطّفيليَّة”، وظاهرة “الدّويتّو الأدبيّ النّقديّ”، وهي تذكّرنا بالظّاهرة في “الغناء” حينما يستصفي أحد المغنّين “الكبار” مغنّيةً سنفورة” لنفسه، وتصبح هي معروفةً به، ويصبح هو ملزومًا بها… وهي ظواهر شوّهت النّقد والأدب معًا، وجعلت منهما مناطًا للسُّخريةِ والتندُّرِ لدى شريحة الشّباب من الكتّاب، وأفقدتهم الثّقة بالنّقد والنقّاد.
*شاعر ومترجم أردني.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *