*محمد رفعت الدومي
( ثقافات )
كانت أكثر من مجرد صدي للألم ضحكاتُ “عصام” في ليلنا عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة، حكي لنا الكثير، بروح ما زالت تحتفظ بلياقتها السطحية عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي، لقد كان الكثيرون منهم، بحماية ادعاءاته هو، يواجهون المرض باللامبالاة، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة لـ “معهد الأورام” إلي درجة الشجار معاً، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء، وقد يصل الشجار أحياناً إلي حدِّ التماسك بالأيدي والأسنان، وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة!
وكان لابدَّ، لأنه “عصام” الذي لا أرتاب في أنه يفعلها، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة!
حكي لنا عن شريك ٍ له في الورم من “الشرقية”، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين، إنما ادعاؤه بأنه يعيش بغير كليتين، فكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك:
– كيف يا “عصام” يعيش إنسانٌ بغير كليتين؟
أجاب “عصام” جاداً:
– بالبركة!
إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر..
طالت الحكايا الممرضات أيضاً، حكي لنا عنهن الكثير، هنّ، بحماية ادعائاته أيضاً، يعاملن مريض السرطان معاملة أيِّ ممرضة لأيِّ مريض بالأنفلونزا، ولا أعتقد أن هذا الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة، فمن غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف، وإلا تحولت إلي أطلال، إنها تؤدي عملاً، ثم إنها بالإسراف في اختبارات الموت اليوميِّ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره، وأصبح بالنسبة إليها، علي الأقل، مجرد طقس مسرف في التكرار!
أجد هذا تعبيراً حقيقياً عن حكاية قرأتها، عن رجل ٍاستوطن بيتاً بالقرب من مدبغةٍ للجلود، وظلت الرائحة الكريهة، كعالمنا، لسلةٍ من الأيام الأولي، تثير غثيانه، وخاصم صاحب المدبغة إلي السلطات، فتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً، ومضي الأسبوع، وماتت الشكوي!
لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة!
قال لنا أنه اشتبك ذات صباح مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها:
– يبتليك بـ” محسن”!
وهذا الـ “محسن” بحماية ادعاءه هو “حلاق” المعهد، وذهاب مريض السرطان إلي الحلاق يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة، والفريدة، حتي أنها الوحيدة هي الموت، هي تعني ببساطة:
– يا رب تموت!
نضحك حتي تدمع أعيننا، يظلُّ الألم باقياً، لكنه يصبح خافتاً، أو هو في الحقيقة لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة!
الطبيب أيضاً، ليس من المعقول أن يكون صديقاً، أو رقيقاً إلي هذا الحد!
عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة، صدمه الطبيب صدمة فاحشة، طالت بتصرفات منخفضة صهره “أبوالوفا” أيضاً، لقد انخفض سريعاً حماسُ المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية، لقد أعلنه الطبيبُ بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممرٍّ وحيد نحو شفائه، أدركت من الشوك في كلامه لحظتها أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل المُيسَّر، وربما استوعب “عصام” أيضاً أطراف الكلمات الحادة، فلقد أخبرني صهرُه وهو يزيف ابتسامته، أنه قال للطبيب، وعيناه توقِّعان دمعهما:
استحْمده اللِّي جات فـ الطوَّاطة! –
عبارة ليس من السهل تفسيرها، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها، هي لابدَّ بعض التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً، طفت، فجأة، بعشوائية، والتحمت بعشوائية، فجأة أيضاً، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية.
نجيب محفوظ بإسراف، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه، التكرار، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته، كان المشهد يجمع بين الأستاذين “صلاح قابيل” و”محمود ياسين” وآخرين، أتذكر الحوار علي نحو واضح، لقد تساءل الفنان “محمود ياسين” من ردهة شلله الواضح، بصوت يلائم العاجزين:
– من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب؟
خفض “عصام” رأسه، وقوَّس كتفيه أماماً، وأطلق صوتاً هائماً وفريداً، كأنه يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما، ثم انخرط في بكاء حاد، مذعور، حتي أنه نبَّه علي بعد غابة من الخطوات “أُمِّي”، تنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه، بل لأحرضه علي استئناف البكاء، شاركتُه بنصيب وافر من الدموع الحقيقية، لقد دَرَجْتُ عليه يضحكنا فيريحنا، فلماذا، ليرتاح، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة، عينيه!
إنَّ ساخراً أصبح، فجأة، مركز دائرة السخرية، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة، وبساطتها أيضاً، هل فوق حياة
استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً، ثم اشتعل عزمُهُ فجأة علي الفرار، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي!
لماذا؟، إنني أخوك في العجز، وخوابي الألم المشتركة!
طالبتني “أمِّي”، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية، يا “أمِّي” الطيبة، إنَّ هكذا سؤالاً، سؤالٌ يجري في يقين السخافة، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته بينما تتماسك عيناه هو السؤال المتطلب، وتمسكتُ بالصمت الجارح، لقد ردَّني الخجلُ أن أُحدِّثَ “أمي” عن “نوح الغراب”!
كانت هذه هي آخر مرة أري فيها “عصام”، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً، حتي أنني وضعت مأساته عن عمدٍ في جيب مهملٍ من جيوب اهتماماتي، كنتُ فقط لا أتسع لها، وكان قلبي ليس به موطأٌ لخسارة إضافية، وباهظة..
علمتُ فيما بعد، أنه، وهو في طريقه الأخير إلي “القاهرة”، هاجمه، علي مشارف “الدومة” وقلبي، نزيفٌ حاد، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل، وعاد، عاد مستنداً علي ظلال الآخرين، بملامح وجهه القادم!
استيقظتُ مذعوراً، ذات صباح لا مراء في غربانه، علي ضجةٍ أكيدة، نظرت من النافذة القريبة، فرأيت الخالة “جليلة” تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل، والخالي إلا من الغربان، يتبعها عصبة من النساء المتشحات بسواد الحداد تتزاحمن علي تهدئة قلبها، غرسَت عينيها في لحم السماء، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ، ومروع:
يا ظُلْمكْ ، يا ظُلْمكْ!
كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة، لقد دخل “عصامُ”، وحيدُها، موتَهُ الذي اكتمل عند غروب ذلك اليوم تحديداً، وتحوَّل “عصامُ” إلي حزمةٍ من مكعبات الثلج، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة!
الغروب..
جزيرةٌ حقيقيةٌ من الجمال الخاطف،
لكن ذاك الوجه المتغضن….
علي الرماد!