أمين صالح
الكاتب في.. نصّه
عن الكتابة وتنزّلاتها لا تسأل أمين صالح… اسأله عن فعلها في روحه وقلبه.. عن الحرائق التي تشعلها في أصابعه فيسلم لها (بالعشرة)، معلناً حضورها في دمه، ومخيلته، ولغته..
يذهب أمين صالح إلى الكتابة تائهاً، بلا بوصلة تمارس التوجيه ولا خرائط تعين الاتجاه… هكذا بكل الفوضى التي تحتملها هذه العابثة التي تستطيع بالكلمات فقط، أن تأخذك إلى حيث تشاء.. أن تجلسك في حضرتها لتقرأ: هو الذي يشكّل نفسه، المنابع، فعل الكتابة، السرد، وحدة النص، سحرية المفردات، والغموض الذي يفتح الكاتب بواباته على اتساعها ويدخل… فيه.
عند البدء بالكتابة، لا أظن أن ثمة بوصلة تحدّد مساري، صوب جهة أو أخرى. ولا خرائط أيضاً. إنه أشبه بسفر إلى مجهول لا تعرف تضاريسه، ولا إلى أين تفضي بك المسالك.
ثمة رغبة ملحة في الكتابة، رغبة يصعب مقاومتها، وما أثار أو أيقظ هذه الرغبة بداخلي شيء قد يكون غامضاً (صورة من حلم أو شذرة من ذاكرة) أو شيء يمكن معرفته لكنه نتاج المصادفة (عنوان يخطر بالبال، محادثة، لقطة من فيلم، لوحة.. إلخ). إذن الرغبة تأخذني إلى أرض لم أزرها من قبل، أرض عذراء، وتبدأ الأشياء في التشكل كلما خطوت وتعثرت. أجد عند كل منعطف شيئاً ينتظرني ليلهب مخيلتي: ريحاً، مرفأ، بشراً، حقولاً.. عوالم تنبثق تريد أن تحتل مكاناً في النص. وأنا أمضي غير عارف إلى أين سأصل ومتى.. لا شيء واضح، لا شيء محدد. تأخذني اللغة، تأخذني المخيلة، وترمي بي في أفران النص.
عندما أكتب نصاً وفق مخطط موضوع سلفاً، أو وفق عناصر محددة تدلني إلى المسالك والمنافذ والمخارج حتى النهاية، فإنني أشعر بالضجر وأكف عن الكتابة، لأنني عندئذ أفتقد الخاصية الأهم للكتابة: المتعة. لذلك أحب أن أبدأ في الكتابة وليس بحوزتي غير خيط أو صورة.. حتى لو كانت غامضة.
هو الذي يشكّل نفسه
أنا أبدأ بصورة معينة أو جملة. أحيانا تتكون عندي جملة وبعد سنة تتحول هذه الجملة إلى كتاب، وذلك بعد أن تكتسب دلالة خاصة أو معنى معيناً، أو تحمل خاصية جمالية ما، وتفرض نفسها بإلحاح شديد. على سبيل المثال، إخترت لإحدى كتبي هذا العنوان «المنازل التي أبحرت أيضاً»، ولا أعرف من أين أتت الجملة وكيف استقرت في الذهن، ثم حين بدأت الكتابة من دون خريطة اكتشفت أن ثيمة الموت والسفر هي الغالبة على الجو العام للكتاب.
أعتقد أن هناك أموراً معقدة وغامضة جداً تحكم الكتابة.
أثناء الكتابة كل العناصر تشتغل: الوعي واللاوعي، الذاكرة، المعرفة، المخيلة، سنوات الخبرة.. كلها تتداخل ولا يوجد عنصر يغلب الآخر. هناك تلاقح وتفاعل. لا توجد كتابة نابعة من اللاوعي وحده، وعلى نحو صرف. حتى الكتابة الآلية، التي جربها السورياليون، لم تكن نتاج اللاوعي وحده، وإن كان عنصراً طاغياً. الوعي يتدخل رغماً عن الكاتب. ينتقي المفردات ويصلّح وينقّح ويشذّب.
المخيلة؟ أترك نفسك خمس دقائق، ستعطيك المخيلة صوراً لا تعد، وافرة وغنية. كل ما عليك فعله هو أن تلتقط الصور وتخلق منها نصك.
المنابعيصعب تحديد كيفية بناء الأفكار. إنها عملية معقدة جداً. ليست هناك خطة معينة أو منهاج معين، وفقاً له وعلى ضوئه تقوم ببناء الفكرة. الفكرة تخطر لك، هكذا، من دون تصميم مسبق، وهي قد تنبع من مصادر متنوعة: من حلم، من صورة، وأنت تمشي، تتأمل، تصغي إلى مقطوعة موسيقية.. منابع ومصادر عديدة ومتنوعة.. لكنها ليست محكومة بآلية محددة ومفهومة. قد يحدث كل شيء بيسر شديد، وبلا إعاقات، وقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، وربما تصرف النظر عن الفكرة.
فعل الكتابة
في كل نص جديد، هناك أصداء، إشارات، ومضات معينة من النص السابق أو من نصوص كتبتها في أوقات سابقة وبعيدة، تستحضرها التجربة من جهة، والذاكرة أو المخيلة من جهة أخرى. بالتالي، هي أشبه بعملية بناء متواصلة، بوساطة الأدوات ذاتها، والعناصر ذاتها، مع تجديدات هنا وهناك.
إذن فعل الكتابة، بالنسبة لي، يعتمد على الاتصال (بين النصوص، أي التجارب) أكثر من الانفصال، على التراكم أكثر من الانقطاع. النص ينمو بفعل عناصر موجودة أو كامنة في تجربة الكتابة الكليّة، وليست مستقلة يتم استعارتها من مكان ما.
عندما أكتب لا أفكر في الحدود، أي لا آتي إلى الكتابة وقد قررت أن أكتب قصة أو قصيدة أو رواية. ثمة صورة تتولّد وقد تكون نتاج وعي وتفكير وتأمل. لكن هذه الصورة تستدعي سلسلة من الصور التي لا دخل للوعي في تكوينها وتشكيلها وربطها ببعضها بعضاً، بل أنها تتخلق بذاتها وبعيدا عن سلطة الكاتب وإرادته. قد أكتب ما أظن إنها قصة لكنها تأخذ مسارات متشعبة بحيث تتحول من دون قصد إلى رواية.
الكتابة عملية مربكة ومعقدة، وليس من السهل تأطيرها وتوجيهها.. وإلا فإنها تتحول إلى عملية ميكانيكية.
السرد
السرد الكلاسيكي لا يغريني. أستمتع بقراءته لكنه ليس النموذج المثالي الذي أحب أن أحتذي به. يحلو لي أن أتلاعب بالسرد، أن ألهو به، أن أبعثره. الكاتب أو أي فنان هو – في الأخير – طفل يلعب.. مع فارق أنه يلهو بقضايا كبيرة وخطيرة وغامضة.
وحدة النص
لكن مثل هذه الثيمات لا تكون موجودة قسراً، أو بشكل مدروس ومتعمد.. أي لا أكون واعياً لها وأنا أكتب. أحياناً أكتشف الثيمات بعد انتهائي من الكتابة.
عين راصدة
سحرية المفردات
لكن هذا ليس نتاج الوعي وحده وعلى الدوام، فعبر التداعي الحر وإطلاق المخيلة وتفعيل الذاكرة والإحساس بإيقاعية اللغة ودلالاتها الصوتية، تتولد جمالية يشكّل فيها توظيف الحرف عنصراً أساسياً.
الغموض
لا أحد من الكتّاب، سواء أكان شاعراً أم قاصاً، يتعمّد الغموض أو يرغب في أن يكون مبهما وعصياً على الفهم. فالكتابة، والأشكال الفنية عموماً، تسعى قبل كل شيء إلى الاتصال بالآخر، والتحاور معه على مستوى إبداعي.. أؤكد المستوى الإبداعي كي أميّزه عن ذلك الاتصال الذي يعتمد على الوعظ والتلقين والتعليم، والذي ينظر إلى القارئ بوصفه فرداً قاصراً، سلبياً، يحتاج إلى من يقوده ويرشده.
الكاتب أحياناً لا يفهم ما يكتبه هو، من مقاطع أو جمل أو عبارات، لسبب بسيط، فأثناء الكتابة لا يكون للوعي السيطرة الكاملة على العملية برمّتها، بل هناك تدخلات مباشرة، ويتعذر اجتنابها، من قبل اللاوعي والمخيلة والذاكرة والهذيان، وهذه العناصر تفرض نفسها وتوجّه الكاتب إلى مسارات لم يخطط لها، وإلى معانٍ ودلالات غامضة لا يستطيع الكاتب أن يفسرها أو يؤولها في حينها، لكنه يجدها منسجمة عضوياً مع الحالات المنبثقة – كلغة ومجاز – من قلب النص.
اللغة
لأنك لا تخلق، لا تبدع نصك، إلا باللغة، فمن الضروري أن تعمل على شحذ وصقل هذه اللغة باستمرار.
أنا لا أستخدم اللغة بوصفها وسيلة للاتصال أو لنقل معلومة أو لغايات وعظية وتقريرية، بل بوصفها أداة استقصاء وبحث واكتشاف.
ينبغي أن تكون اللغة موظفة شعرياً وإلا سقطت في العادية والتقريرية والرتابة.. وهذا ما نجده عند كتّاب لا يعتقدون أن للغة طاقة تفجيرية هائلة.
باللغة العادية، التقريرية، التقليدية، لا أستطيع أن أبني نصاً يقنعني شخصياً.
المهم هنا ألا يبدو التعبير متكلفاً، زائفاً، مجانياً. إنك تسعى للتعبير عن الحالة بصدق وعمق وجمال، وفي هذا تسعفك اللغة، لأنها تمتلك الطاقة التي تحتاجها.
اهتمامك باللغة، واعتناؤك بأدواتك، لا يعني أن ثمة تخطيطاً مسبقاً لكل شيء، فالتخطيط يقيّد حريتك ويضيّق أفق التجربة.. إلى جانب الوقوع في الافتعال والآلية.