تغريد شاور
خاص ( ثقافات )
“كونشرتو الهولوكوست والنكبة” لربعي المدهون
رواية الأسئلة المصيرية الصعبة والكتابة على “حافة الخطر”
يجيء الوضع الفلسطيني المتجذر من عام 1948 إلى اللحظة الحالية، في مصائر “كونشورتو النكبة والهولوكوست” للكاتب والروائي ربعي المدهون، على شكل حركات مفجعة واستفزازية، من العنوان الى السطر الأخير. يشكل العنوان صدمة قوية للقارئ على اختلاف انتماءاته وأيديولوجيته. واختيار الكاتب له وضع عمله على محك خطير: فإما ان يكون ذلك محفزاً للقراء الذين يبحثون عن أصل الحكاية والحقيقة، أو منفراً لقارئ أصيل تقليدي، لن يستوعب أن تجتمع النكبتان على عتبة موسيقية واحدة، فالنكبة والهولوكوست لا يجتمعان بالنسبة للعامة. فهما مشهدان على طرفي نقيض كأصل الأشياء، حقيقة وكذب، وأبيض وأسود. وهذا سيشكل ضغطاً مزدوجاً لن يستوعبه القارئ، على اعتبار صعوبة إقامة المقارنة بينهما تاريخياً ونفسياً، أو على أنهما تواطؤ أو تخاذل، أو جدل بين الخيال السياسي والحقيقة المفجعة. أما القارئ الذي سعى إلى أن يخوض تجربة المراقب والمتلصص على المدهون المقيم في بريطانيا، والذي قد يكون قد حصل شرخ في قضيته، أو التبس عليه الوطن، أو ضاع بين نكبتين، فسيفاجأ بأن العمل وطني حتى النخاع، وسيضيّع عليه المدهون تشككيته العالية، بتأكيده أنه عمل أصيل حقاً و”باقي هناك” وهنا، كـ”فلسطيني تيس”، بمعنى العنيد الباقي في وطنه.
يتنقل الكاتب بين ثلاث حركات، لم يثنها ثقل واقعيتها عن الصعود مرة، والهبوط نفسياً إلى أعماق الوجع الفلسطيني مرة أخرى. ولم تنحها رشاقة المقاومة بكل أساليبها، من اعتلاء سور عكا، ولا عن الوجود في القدس، ولا الحضور المرير في المعابر.
تعمد الكاتب أن يتنقل بين ثلاث حركات موسيقية ضجرة؛ ليستقر في الرابعة واضعاً نقاطاً ثابتة على حروف مهتزة، عندما يصير الحب فخاً، والحلم مصيدة، ويصبح حراماً، كأن تحب فلسطينية رجلاً نبيلاً تكتشف، في نهاية الحب، أنه مستعرب، وهذا صنف جديد من الخيبات المدسوسة في البيت الفلسطيني، كشفت عنه النكبة وتنامى مع سنوات الاحتلال، أو كأن تحب امرأة شاباً بلا هوية، أو يحب رجلاً شابة مزق الاحتلال عذريتها. أو تغرم هي بشهيد، أو فتاة تحمل جنسية عدو بدم وطني مئة بالمئة. هكذا كان ويكون حب الفلسطينيين، وما يزال، كما أخبر المدهون عنه في حركته الثانية، بخمس علاقات حب فرضت على “جنين”، الفلسطينية الكاتبة، إسرائيلية الجنسية. جيل كامل من الشباب الفلسطيني والشابات الفلسطينيات، من المنابت كافة، طواه الاحتلال، وداس على أعمق المعاني الإنسانية لديه وأكثرها بياضاً: الوطن والحب.
على درجة الحركة الثانية، تؤجج مشاعر الحب قلب شاب فلسطيني، يحمل الجنسية الأميركية، فيقرر الارتباط بفلسطينية تحمل جنسية إسرائيلية، ويفكران بتتويج حبهما بأن يحييا الوطن به. فيعودا، لتبدأ رحلة معاناة نفسية شديدة، لزوج لا عمل له، ومحروم من كل حقوقه من جماعات تدَّعي التعايش. وزوجة تضيع الوقت وتوهم نفسها أنها قادرة على تغيير المرض اليهودي. الشاب رجح كفة الوطن على الغربة. فكان الوطن المحتل مقصلة وضعها المحتل على رقبته، ليذبحه ويعود لكي يرغمه على الموت غريباً بعيداً عن وطنه وعن حبيبته التي لن يقوى على الابتعاد عنها، مثلما لا يقوى على الاستمرار في معاناته أيضاً. جنين دهمان، تشربت فكرة البقاء عن والدها، الذي “جنن” الاحتلال بصمود، والذي خاف أقرباؤه أن “يطويه الاحتلال تحت باطه”، والذي سيتهم بالخيانة أو الجنون، أو الوطنية بطريقة حداثية أو تعميم مصالح. محمود دهمان، “التيس الفلسطيني”، قال في شبابه إن “من خرج لن يعود”. كما تقمص دوره “باقي هناك ” في رواية ابنته جنين. فقال ما قال “باقي هناك”، الصورة الدرامية لمحمود الدهمان. استهلك عمره في الميدان يضع لافتات لتفعيل حقوق الفلسطينيين في إسرائيل، ويذكر اليهود بأن هذه البلاد لأصحابها، وما هم إلا جماعات يمكن أن نتقبل التعايش معهم. وهذا ما يحير في العمل. هل يمكن للفلسطيني أن يتقبل التعايش مع عدوه؟ هل من الممكن أن يصل التعايش بالفلسطيني إلى أن يتجاوز حرق جارته أفيفا العجوز، لجدران بيته، وهي شاهد حي على الهولوكوست، وتحمل “نيشاناً” من الدولة كونها من الناجين من المحرقة؟ هل من المعقول أن يكون الاحتلال قد لفّ “باقي هناك” تحت باطه، مثلما خشي المختار؟ هل من الممكن أن يتحول عقل الفلسطيني في الرؤى المستقبلية، الى أن يعوض شعبا نجا من محرقة مفتعلة، بوطنه، ويتقبله ضيفاً مرحباً به، ويصبح ما بينها مجرد خلافات تحل باللافتات؟ هل من الممكن أن يصبح “باقي هناك” مثل “شاؤول”، زوج أفيفا العجوز، يحاول أن يبحث عن مأساة يبيعها للحكومة، كما بيعت مأساة زوجته؟ أخيراً، هل من المحتمل أن تصير بيوت الفلسطينين متاحف لجثث محروقة؟ ليس تشكيكاً بنوايا “باقي هناك”، لكنها أسئلة يثيرها العمل في ذهن القارئ المستفز أصلاً. أسئلة لابد للكاتب أن يتحرى الإجابة عنها بكل شفافية وحذر ودقة.
كان الحرق ثيمة أساسية في العمل، ودعامة للأحداث كلها، ومنها وإليها يعود الفعل ورد الفعل. فالحرق بدأ بالهولوكوست، وتوسط النص حين حرقت أفيفا جدار بيت “باقي هناك”، وهي تصيح بزوجها: “ألمان ألمان شاؤولي”. وانتهى-أي الحرق، بجثمان الفتاة العكاوية التي أغرمت بالضابط البريطاني وهربت معه، وعادت إلى عكا في قارورة من الخزف، بين يدي ابنتها الإنجليزية المتزوجة من فلسطيني من غزة، ويقيمان معاً في بريطانيا.
يبدأ النص بالحركة الأولى، بصعود جولي، زوجة وليد دهمان، سلم بيت الجد في عكا القديمة، تحمل رماد والدتها، يعبث بقلبها هوى البلاد التي طافا فيها عشرة أيام، انتهت بجولي تتأبط ذراع زوجها وتطرح عليه اقتراحها: الاستقرار في بلاد والدتها. القرار الذي أجل الزوج الفلسطيني اتخاذ قرار فيه، وتركه للنقاش ريثما يصلا إلى بريطانيا.
أخيراً، يصل المدهون، بجمالية اللغة ودهشة الحدث والفكرة، إلى الحركة الربعة، ماراً بالقدس، وحيفا، وعكا، ويافا، والمجدل عسقلان، والمعابر المختنقة بالتمييز حتى بين الفلسطينيين ذاتهم. فالفلسطيني المؤمرك، يختلف عن الفلسطيني الريحاوي، أو الخليلي، مروراً بالأسماء والشوارع، وصعوداً على أكتاف الأسوار، صادماً قلب القارئ، بأنه لم يبقَ في بيوت البلاد أسوار. حيطان تتعربش عليها أغصان “المجنونة” (البوغونفيليا). بكل خشوع يتوقف وليد دهمان في دير ياسين المنكوبة المكلومة، وقد انطوت تحت متحف للهولوكوست، وكأن المحتلين باختيارهم لهذا المكان تحديداً، يريدون منا ألا ننسى دير ياسين، ويريدون لحجتهم أن تظل قائمة على دماء شعب بأكمله.
في الحركة الرابعة، يتوقف المدهون عن استفزازه قليلاً، ليجيب عن اسئلة القارئ اجابة نموذجية، تحليلية، حول ارتباط النكبتين. ويفك العروة الكلامية التي ربطت بينهما، على آخر درجة من سلم الكونشرتو.