معنى أن تكون كاتبا عربيا


سعيد السوقايلي

كثيرة هي معاناة الكتاب المبدعين والمفكرين في سبيل نشر رسائلهم الإنسانية للبشرية، بل أيضا في محاولة العيش بكرامة في حياة قاسية، إذ لطالما تعرضوا لألوان التعسف والاضطهاد والتصفية الجسدية، إما بدافع أفكارهم الجريئة المناهضة لمواقف أنظمتهم السلطوية، أو انتقادا لواقعهم المهترئ ثقافيا، أو لأنهم اختاروا طوعا حرفة وحرقة الكتابة التي لا تمنحهم امتيازات مادية وجيهة كتلك التي يحظى بها صناع السياسة والاقتصاد؛ وبين هذه وتلك نجدهم يلوكون حياتهم في غالب الأحيان بمرارة تحت خط أحمر فاصل بين رغد الغنى وضنك الفقر، فمنهم من قضى نحبه وفي نفسه أشياء من حتى، من جوع وفقر وتعذيب وإقصاء وتهميش وموت بطيء، فالكتابة تهمة لصيقة بهم مدى الحياة، عادة ما ينبري لها كل عدو للتنوير مكاء وتصدية. 

هي حالات ابتلي بها كل من يحمل شعار الكلمة واللون والفن، عربا وأجانب، دفعوا ثمنها لكونهم دافعوا عن الشرط الإنساني في أبهى قيمه النبيلة، ناكرين بذلك ذواتهم وقد نخرها المرض والعوز، إنهم فوق كل هذا أناس أخلصوا الوفاء لأفكار ومبادئ تهتدي بها البشرية متى كلت من وعثاء الحياة وظلاميتها؛ فمن منا لا يتذكر ابن رشد الفيلسوف الذي أضاء بعقله نهضة أوروبا، لقد أحرقت كتبه، وكوفئ بالنفي، فقط لأنه انتصر للعقل. ومن لا يعرف أيضا كيف عومل ابن المقفع حين جلده سوط السلطة، لأنه كان ناصحا أمينا للسلطان، ومعه أيضا المتنبي أشهر من نار على علم، حين جاهر بسخريته لكافور الذي دنس عرش مصر، فقتله بيت من شعره فاخر فيه بفروسيته وحقه كمثقف أبي في سوس بلاد ورعية، ولنتخيل كيف سيكون حاكم ما شاعرا؟ والقائمة مديدة لعينات من الكتاب عانوا من شطط مجتمعاتهم ومؤسساتهم، ألم يعش أيضا شارل بودلير رجيما طريدا لعينا، وهو الذي أضاء بشعره لفتوحات شعرية حديثة اهتدت بها أجيال كثيرة لاحقة، في وقت تنكرت له أنذاك أكاديمية اللغة الفرنسية التي تربعت على عرشها أسماء نكرات أقبرها التاريخ؛ ومثله الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي الذي عاش السجن، وهدد مرارا بالإعدام، وكابد تحت طائلة الديون الفادحة، لكنه كان يؤمن بأهمية المعاناة كوقود للكتابة، ألم يقل: لكي يكون المرء قادرا على أن يكتب جيدا عليه أن يعاني. لقد بتنا نؤمن أيضا أن المعاناة رديفة وقرينة بالأدب، عدا كتابا حالفهم الحظ فاغتنوا من وراء الأدب، إما لكونهم انبطحوا للسلطة، أو أنهم شقوا مسارا عصيا وهم يجترحون، بكل عصامية، تجاربهم في كتابة لها جدة.
إننا لا ندرك جيدا معنى أن تكون كاتبا في بلد عربي يحكمه سماسرة السياسة والثقافة، إذ عليك بكل بساطة أن تكابد، أكثر من أن تنافح القضايا المطروحة، كإنسان أولا من أجل كسرة خبز كريم أو وطن رحيم، أو من أجل شفاء من مرض عضال، فما بالك ثانيا ككاتب تستنفر حياتك لصنع أفكار وحيوات وقيم إنسانية لترميم ما تصدع من ثقافة بلدك، رغم الشطط والتهميش الذي تكيله لك أنظمة لا تتورع في تكديس الملايير في بنوك الغير، وتفقير الملايين من رموز الأمة الاجتماعية والثقافية؛ فكل أمة لا تعترف بأقلام مثقفيها مصيرها الذبول والموت في عصر لا يؤمن إلا بالتنافسية الحضارية والعولمة الثقافية والاستثناء اللغوي والإنتاجية الرمزية؛ وكل وطن لا يعتد بأدب أمته هو شعب أجوف؛ إننا حيال أيديولوجية سياسية بأجندات ممانعة وعمياء تحارب المفكرين والأدباء والفنانين وفق المعادلة المبتذلة: تبعية المثقف للسلطوي، حتى يتسنى لهذه الأنظمة التأمين لنفسها مصالح ومكاسب مادية وسخة، لذلك فهي تجند في ذلك، وعبر وسائلها الإعلامية، لثقافة التهريج والتبليد والتضليل وتنميط المواطن اجتماعيا وثقافيا، محتفية بالقبح والميوعة، ومكافأة صناعها من الأدعياء وخونة ضمير الوطن حتى تزرع في النفوس كراهية الجمال والخير والقيم الأصيلة، إنها سياسة القطيع الأعمى الذي يحرسه المستأذبون، وكل شاردة ماردة تبتغي تغييرا وتجديدا تبتلعها طاحونة السلطة؛ إننا نأسف كثيرا على مآل كتابنا بناة الحضارة والثقافة وهم يتوسدون عتبات أوطان يستأسد فيها الجلادون والمتسلطون على البلاد والعباد، يتشدقون ملء بالوعاتهم رياء ومنا على أنهم خدام الأمة، يسرقون أحلام الوطن ويبيعونها للشعب بوقاحة. فعلا لقد أصبح رأسمال الكاتب فارغا ومفلسا إلا من اضطهاد وفقر ومرض ونكران… في زمن عربي صلف تُقضَم كعكعته قضما، ولا يُرمَى للمواطنين بَلْهَ الكاتب إلا الفتات. 
إن هؤلاء الكتاب، ضمائر الأمة، على قلتهم، نجدهم يعطلون وظيفتهم التنويرية حين يحْبون ويتمسحون بعتبات السياسي، من دون أن يفتحوا عليه جبهات حقيقية من الممانعة والمصاداة حتى يرتد معها إلى موقعه الحقيقي كخادم صالح لأمته، فبصنيعهم هذا إنما يكرسون خيانة عظمى للوطن، فمهما كان الثمن فادحا، فالتاريخ لن يهمل تضحياتهم ومجهوداتهم. إن معاناة الكاتب، وإن كلفته جيبه وجسده وحياته، لهي أجمل وأنبل مظهر من مظاهر الوطنية الصادقة الخدوم ، وواهم من يشير إلى أن حرفة الكتابة عموما هي ضرب من العبث والإفلاس والبطالة والترف، فهي بخلاف ذلك أعمق بكثير، فهي خزان اللغة الوطنية، ومحتد قيمها وثقافتها، وجبهة منافستها لكل غزو حضاري آخر، ومصنع جمالها وتربيتها، إنها تلك الثروة الرمزية الحقيقية التي تكتنز بها عقول ووجدانات الأجيال القادمة ؛ فحتى أولئك المنغمسون في الحياة المادية بمشاغلها وبلهوها وملذاتها، شاؤوا أم أبوا، ففي لحظات طفولتهم وتعلمهم، كما في أوقات فراغهم، يحتاجون للأدب والفن حين ينشدون الجمال، فحتى السياسة والعلم والتقنية والتربية… كل يحتاج إلى الأدب والفكر والفن، إذ بذلك يتأدب الإنسان ويُهذب ذوقه، فتستقيم لديه ملكة الإدراك ورجاحة العقل ورقة الذوق وفصل الكلام والخطاب، فيغدو كل قول أو عمل لديه مفعم بتلك اللمسة الفاتنة والنظرة الجميلة البعيدة التي تضفي على شخصيته كمالا واحترافية، أوَ لمْ يؤدب القدامى أبناءهم بعيون الأدب، ويصقلوا مواهبهم بكل فن راق، أو لم يعلموهم معنى التفكير العقلي والمنطقي السليم بمهماز الفكر والفلسفة…؟ فإلى ذلك فلتتنافس الأمم التي تحترم مكونات ثقافتها ورموزها، بما فيها الكتاب، أولئك الذي يبخلون ويزهدون في حياتهم من أجل إمتاع وإفادة البشرية؛ فلا حول ولا قوة لكم أيها الكتاب العرب في وطن يدون ثقافته وحضارته بعرق ودم الأبرياء.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

2 تعليقات

  1. جميل جدا الكتابة هي الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *