خيري منصور
هل يتعدد الشاعر تبعا للترجمات التي تنقل نصوصه من اللغة الأم إلى لغات أخرى؟ خطر ببالي هذا السؤال عندما صدرت ست ترجمات على الأقل لقصيدة «الأرض اليباب» لأليوت، وكانت مُتفاوتة إلى الحدّ الذي اصبح لدينا أكثر من أليوت، وأي مقارنة بين ترجمتين على الأقل هما ليوسف سامي اليوسف وعبد الواحد لؤلؤة، تحدد الفارق بين من عاش في لندن وتعرف إلى شعابها، وبين من احتكم إلى اللغة ومعاجمها، وهذا ليس نَيْلا من ترجمة يوسف اليوسف بقدر ما هو انصاف لترجمة لؤلؤة، التي أدركت مدى دقّتها ووفائها للقصيدة بعد استماعي إلى «الأرض اليباب» بصوت السير غينيس، خصوصا في الحوار الذي دار في البار بين نساء كنّ يقضمن أواخر الكلمات .
لوركا هو المثال الآخر الذي يجعل الشاعر متعددا عبر الترجمات، وقد مرّ زمن كان هذا الشاعر الذي اقترن اسمه بالمصير التراجيدي والمقاومة ضيفا شبه دائم على الشعر العربي الحديث، وبمعزل عن قيمة ودقة الترجمات التي نقلت لوركا شعرا ومسرحا إلى العربية فإن المختارات التي ترجمها مؤخرا محمود صبح، تبدو بأكثر من معيار شعري وجمالي ولغوي هي الأقرب إلى روح ذلك الشاعر، لأن محمود صبح الذي ترجم من قبل مذكرات نيرودا بعنوان «أشهد أنني قد عشت» يكتب بالإسبانية ونال العديد من الجوائز بصفته شاعرا من هؤلاء الأدرى بأسرار لغتهم وموروثها الجمالي.
في الكتاب الصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر لمحمود صبح، تشكّل المختارات فصلا من الكتاب، أما ما تبقى فهو مكرس لتقصي المواضيع والألفاظ العربية في أعمال لوركا، إضافة إلى صورة العرب والمسلمين في الشعر الإسباني، وقد قيل مرارا إن الرّوح الغجرية للوركا وجموح خياله كانا مصدر الصور الوحشية في قصائده، بحيث نكاد نسمع حفيف الثياب الحريري ونشم رائحة الأزهار البرية، إضافة إلى شغفه بالألوان وإن كان الأخضر هو الأكثر سطوعا.
أحصى محمود صبح العديد من الألفاظ العربية التي وردت في قصائد لوركا منها الجب بمعنى البئر، وأزهار الحبق والخزامى والدفلى، والخرج، وقد تأثر الشاعر مانويل ماتشادو بلوركا فكتب قصيدة عنوانها الدفلى، وهي نبات ينمو في النهار ويذبل في الليل وقد ترجمها محمود صبح إلى العربية أيضا في كتابه «مختارات من الشعر الإسباني».
وروح لوركا مشبعة بمناخات أندلسية فقد كتب عن نساء يحملن اسماء منحوتة من صميم الأبجدية مثل فاطمة وعائشة ومريم . يذكّرنا محمود صبح بما كتبه ذات يوم الراحل نزار قباني عن شَعر الإسبانيات الأسود والأنف الأخنس وحمحمة الأفراس، بحيث لم يشعر قباني بالغربة عندما عمل دبلوماسيا في إسبانيا بخلاف جده الأموي صقر قريش، الذي بكى عندما رأى نخلة غريبة مثله.
وحين نجد أن الاستشراق الإسباني خصوصا في هذه المرحلة متحررا مما شحن الاستشراقين الإنكليزي والفرنسي بالعنصرية والتعالي العرقي يتأكد لدينا ما يقوله محمود صبح عن الامتزاج النفسي والوجداني والثقافي، إلى حدّ ما بين عرب الأندلس والإسبان، ففي القرن التاسع عشر تغنّى شعراء من الإسبان بالفارس العربي كما تخيّلوا صورته ومنهم من اجتذبه ذلك السقوط التراجيدي لغرناطة حين ودّعها العربي الأخير بزفرة من أبي عبد الله الصغير الذي عيّرته أمه بالبكاء كالنساء وهو يغادر غرناطة .
لكن الأندلس التي تعامل معها بعض الشعراء العرب كفردوس مفقود أو أطلال تستدر البكاء، ليست البعد الوحيد لهذه الظاهرة، فالشعراء الإسبان رأوا أن التاريخ في النهاية هو تاريخهم وأن ما أنجزه العرب والمسلمون في بلادهم هو مُلك لهم ولأجيالهم، وقد تكون قصيدة الشاعر كارلوس الباريث التي ترجمها محمود صبح نموذجا، وقد قرأها الشاعر في بيروت عام 1981 في أمسية مكرّسة لقلعة الشقيف، يقول إنه فلسطيني، لأن فلسطينيا لاجئا سأله عن وطنه فأجابه أنه ليس شجرة وليس نهرا أو قبرا أو ذكرى .
وهناك شاعر إسباني آخر هو مانويل إدرادا كتب قصيدة عن حلم رآه في المنام وهو عن قرية فلسطينية يقول أن سماءها الأشد زرقة من كل سموات العالم.
إن المكون العربي في الثقافة الإسبانية لا يقبل الحذف باعتراف الشعراء الإسبان أنفسهم، كما أنه ليس مجرد قلادة أو عنصر ناتئ أو جملة معترضة في تاريخ إسبانيا، إنه ذائب في سياقاتها ورافد من روافدها التي تصب في البحر الثقافي ذاته.
لكن ما ينبغي التنبيه إليه هو الإفراط في الإسقاط القومي، أو حتى الديني، ونحن نبحث عن البعد العربي في الوجدان الإسباني، كي لا نسقط فيما حذّر منه محمود درويش عام 1982 بعد اجتياح بيروت وهو: ندعو لأندلس إن حوصرت حلب، والمؤثرات العربية في شعر لوركا سواء كانت ألفاظا صريحة أو مناخات وإحالات لا تنزعه من جذوره التاريخية، لهذا فهو حين يصبح شاعرا عربيا فذلك على سبيل المجاز، أي اتقان ترجمة شعره إلى لغتنا
يصدر هذا الكتاب عن لوركا في وقت رمادي، انحسرت فيه رموز التحول لصالح الاستنقاع الذرائعي، ومن كان ضيفا متكررا على ثقافتنا قبل بضعة عقود طواه التناسي وليس النسيان، شأن كل ما هو بهيّ ونبيل ومضاد لعولمة أنجبت سفاحا من نظام عالمي قطعنة لم تسلم منها الثقافة.
وأذكر أن البروفيسور باورا في كتابه «التجربة الخلاقة» جعل من لوركا واسطة العقد بين بضعة شعراء اجترحوا آفاقا تؤهلهم للخلود، ومنهم كفافي الذي كتب شعرا حديثا وبحساسية عصرية رغم اللغة اليونانية القديمة هي التي شكلت معجمه الشعري، أما لوركا فقد أنجز حداثته رغم غجريته وليس بفضلها.
_______
*القدس العربي