الهايكو عربيا


*عواد ناصر

قصيدة الهايكو اليابانية ذات منشأ روحي وثقافي مغاير لثقافتنا، ولثقافات عديدة في العالم، لكن ثمة محاولات حثيثة حاول أصحابها مقاربة هذا النوع، أو التنويع عليه، أو التماس معه، وهذا أمر طبيعي، فتنافذ ثقافات العالم وتماساتها ولد الكثير من التأثرات الفنية. ظهرت قصيدة الهايكو بأشكال متعددة بتعدد لغات العالم، خصوصاً في الغرب، وفي اللغة الانكليزية، مثلما ظهرت كتابات نقدية تبحث فيها وتجلوها وتعيد تركيبها على وفق الذائقة المعاصرة في العالم، وبين مقلديها بالإنكليزية من فشل بشكل ذريع، بينما كان الفشل أشنع في ثقافة قصيدتنا نظراً لفقر مكتبتنا العربية وضعف الاطلاع على الشعر الشرقي، المجاور لنا، بل الملتصق بنا تاريخاً وجغرافيا، بترجمات أمينة، مخلصة، إلا ما ندر، وبين هذه الندرة جاء كتاب يانيث يسودا، الأمريكي من أصل ياباني، بترجمة رائعة أنجزها الشاعر الفلسطيني محمد الأسعد في كتاب غني بعنوان واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق صدر عام 1999، ولا بد من التنويه، هنا، ليس إلى غنى الترجمة، حسب، بل إلى مقدمة المترجم التي تمثل إضافة نقدية إلى الكتاب مع ما تضمنته من إشارات إلى علاقتنا الثقافية الباردة بثقافة الشرق الدافئ قياساً بلهاثنا المرتجل وراء ثقافة الغرب البارد.

اللافت أن الكثير من شعرائنا، شيباً وشباناً، استهوتهم التجربة ليس بسبب حاجة التجريب والحوار والتلاقح، بل بسبب الاستسهال لأنهم ظنوها طيعة لفرط قصرها، وما على الواحد منهم سوى أن يسطر ثلاثة أسطر، أو أربعة، لتظهر قصيدة الهايكو مثل مصباح كهربائي صغير لا يحتاج إلا إلى لمسة زر، فتغدو كتاباتهم شكلاً من الموضة، هذه الأيام، ونحن نتعثر بـ قصائد ضعيفة لا تمت إلى التجربة اليابانية بأي صلة وضعها كتابها في باب الهايكو .
الحقيقة هي أن قصيدة الهايكو ثمرة مسيرة طويلة من المكابدة الروحية الفردية، ومرت بمراحل فنية متعاقبة حتى بلغت شكلها الأخير، وذا مبحث صعب لا قبل لنا به في عمود صحفي.
يمكن تشبيه قصيدة الهايكو، شكلياً، بالخبر الصحفي الذي يستلزم ثلاثة عناصر،
كما أجملها الكتاب بالآتي
أين؟ ــ ماذا؟ ــ متى؟.
مثال
أين؟ على غصن ذابل
ماذا؟ يجثم غراب وحيد
متى؟ مساء الخريف الآن
قصيدة الهايكو حركة في المكان والزمان لكنها لحظة غامضة بين التجلي والغياب، فهي لا تريد بلوغ الكمال ولا تكتفي بالتحقق، فهي تشبه النبتة التي تثيرنا وهي في مرحلة نمو، لما تضمره من توتر ووعد، أكثر مما تحققه ثمرة تامة النضج لا تحمل لنا ما ينتظر، ما بعد، ما يدهش، ما يتساءل.
هي قصيدة خاطفة.. لكن عمرها طويل، تحولت على مدى أكثر من ثلاثة قرون، بخلاف البرق الخادع الذي لا يفي بالمطر، وهي مدللة الشعر الياباني لأنها نادرة الحدوث وعصية على التشابه.
من تعريفات المؤلف للهايكو
تتحدى قصيدة الهايكو كبار الشعراء وترهق قواهم وتكشف بحيوية عن تفردهم واختلاف الأمزجة الخاصة، وكما كرر باشو ــ أحد روادها ــ أمام تلاميذه أن قصيدة الهايكو المدركة جداً، نادرة بالفعل، كقوله إن من يبدع ما بين ثلاث إلى خمس قصائد هايكو طوال حياته يعد شاعر هايكو، أما الذي ينجز عشر قصائد، فيعد أستاذاً، وتساءل تلميذ أيخطئ، أحياناً، حتى الأستاذ؟ وكان الجواب نعم، في كل قصيدة .
أصغر وردة تستطيع أن تمنح أفكاراً تصل في عمقها حد البكاء .
قصيدة الهايكو، ختاماً، خلاصة القصيدة، وطوبى لمن يقول أكثر الكلام بأقل الكلام.
______
* شاعر من العراق(الزمان)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *