قربان الفكاهة


صالح العامري

• أنا معلم نفسي، وأيضاً ذلك التلميذ النزق الفاشل الذي يخطئ في تهجّي الباب والأغصان المائلة، والذي يئن معدنه قائلا: ويلي من الذاتيات التي أعيش في كنفها الرجيم، والتي أتمدد على سريرها الشائك، متجرعاً ملاعق دوائها المر التي تبعث على الذكرى العبثية والفطن المغفلة المحفوظة في ثلاجة الأيام الخوالي. ويلي من هذه الذاتيات التي لا تُشفي، كما لو أنها عار الكتابة أو بابها الموصد أو بريدها الغريق. لعلني بهذه الطريقة، أمتص ما تبقى مني، لكي تبقى إسفنجتي المجعلكة المقهورة، نازفة إلى الأبد، بصداعها وحنينها، بكلبها النابح وعوائها المستشري. لكي تبقى إسفنجتي الأليفة، التي أكلتْ نصف قلبي، قرباناً للفكاهة السائرة بين الأفلاك!.

• يصير الفلاسفة رديئين جداً عندما يكونون مناطقة وعندما يكونون أخلاقيين.
• المسألة ليست أن تضع النقاط على الحروف، ولا أن تزيل اللبس أو ترفع سوء الفهم، بل أن يكون صدغك موجّهاً إلى خاصرتك، ورأسك الأدنى مرفوعاً إلى قدمك الأعلى. إنّ الخطوة هي الأهم، بينما اللحن يسيل في المآقي.
• كنّا ننقل أفواهنا المفغورة وأعيننا المبحلقة بين وجهي المعلم والتلميذ، بين ما يقوله مدرس التربية الرياضية (علي شلبي) وما يبوح به زميلنا في الصف (إبراهيم سليمان). ذلك أنه ما إن يذكر المدرّس أشكالاً عجائبية تخيفنا، في النطاق الجغرافي المحيط بالمدرسة قريباً من مزارع النخيل، حتى يفاجئنا إبراهيم بأشكال فنتازية أخرى، في نطاق قريته التي تبعد بضعة كيلومترات عن المدرسة. وهو الأمر الذي جعلنا نبحلق هنا وهناك، ونقلب أوجهنا جهتيهما، بطريقة كاريكاتورية سخيفة، باعثها هو الريبة والرعب والوساوس الجاثمة على الصدور من الصور التي يحوكها وينسجها كل من المتكلمين البارعين. كان المدرّس يصوّر أشياء مريبة بين الأشجار، فنذهب معه بأخيلتنا وراء تلك الأشجار، مستكشفين ما يهز دواخلنا ويجرح براءاتنا، وكان زميلنا بلسانه السريع وتوصيفاته الحاذقة قد جعل قلوبنا تخفق هلعاً ونحن نُطِل من أعالي تلك الحفر السينمائية التي يتحدث عنها، الحفر التي أكد لنا بما لا يدع مجالاً لأيّ شك لأن نصدق وجودها الفيزيقيّ والأسطوريّ معا. ربما في تلك اللحظة برزت غيلان من السماء، محاولة أن تجثم على أبداننا الصغيرة المقشعرة وتحركت وراء ظهورنا أفواج من العقارب تسعى إلى بث سمومها وزرع إبرها المفزعة. في تلك اللحظات الميلودرامية، كان يدب فينا شعور بأن الأرض ملئت آثاماً وخطايا، وأن الفساد يشتعل من كل جانب. لقد كان المعلم والتلميذ ندين متساويين، يسوقان الحكاية ذاتها إلى منتهاها الطاعن في الغرابة والسرّ الخبيث.
• كان أحد التلاميذ، بجبهة تتصبب من العرق، وبما يشبه الهمس – في الصف الرابع الإبتدائي- يسأل معلم التربية الإسلامية عن ما يفترض أن يقوله أو يردده أثناء الذهاب إلى الخلاء؟!. لا يتذكر ذلك التلميذ الإجابة التي زرعها المعلم المتململ في رأسه آنذاك. ربما قد أقنعه بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، أو ربّما لم يجب أصلاً على سؤاله. لكنّ المؤكد بأن المعلم لم يقل لتلميذه بأن عليه أن يردد أناشيد البرية أو أغاني رُعاة النور الفضيّ. لم يقل له مثلاً بأن عليه أن ينخلع من الخبائث كما يفعل عصفور ينزلق في الهواء، وأن لا يتسمّر لسانه في بلاغةٍ بل في شمس أو قصيدة، وأن لا تُصلب الأسئلة على نفايةٍ أو قذر، بل أن تشمخ في موسيقى وطيور وسفر.
• في الصف الثاني الإعداديّ، وعلى مسمع من زملاء الصف، أخبره المعلم بأنه الأذكى في المدرسة وإن كان الثالث أو الرابع في التحصيل الدراسي. في اليوم التالي هرب من نافذة الصف أثناء الفسحة. في اليوم الثالث وبّخه المعلم ذاته على ارتكاب ذلك الخطأ الفادح والجريرة الكبرى. برّر الطالب تسلله من النافذة بعدم وجود دروس ذات أهمية بعد الفسحة!. لكن الذي لم يقله في حقيقة الأمر لأستاذه: «أغتبطُ حين أكون في الخارج، هناك، وراء الأسوار، وراء الأسيجة، وراء النوافذ».
• مازال في نفسي شيء من الغيظ من مدرس اللغة العربية، في الصف الخامس الإبتدائي، الذي كان يتبرم دونما سبب معلوم أو واضح، من وضع النقطتين تحت الياء في آخر الكلمة. لم يكن يصغي إلى رغبتي في التفريق مثلاً بين اسم (علي) وأداة الجر (على)، كان يغيظني حقا بتذمره حتى من سؤالي، أو من رغبتي في أن يوضح أكثر السبب الذي يدعوه لذلك، سواء كان مزاجاً شخصياً أو منطقاً لغوياً أو مبرراً إملائيا. ولأنه لم يوضح أيّ شيء يتعلق بالنقطتين، فقد تركتُ لنفسي العنان لأن أتخيّل السبب وراء ذلك الضيق بهما. لقد خمّنتُ بأن لديه حساسية من تلك النقطتين، تظهر على شكل بثور أو حكة جلدية، أو لعلّه دخل في سالف الزمان في شجار أعمى مع أحد معلميه أو والديه بسبب تينك النقطتين «الكارثيتين»، فآلى على نفسه أن يحذفهما من حياته ومن حياة طلابه في قادم الأيام.
• يتركنا بعض المربّين/‏‏ المعلمين/‏‏ الآباء: معلقين حيارى في الأفق، في هوائهم المشوِّق الذي لا نكتشف بعدئذ أيّ شوق من خلاله. إننا نظل حبيسي توق نكتشف بعدئذ عندما نكبر حمقه أو سخافته. إنهم يقولون لك: «عندما تكبر ستعرف»، ثم عندما تنتظر عقداً أو عقوداً من السنوات لا يتبيّن لك أنك قد انكشف لك أو اكتشفت الذهب أو القارة الصحيحة. أظن أن إجاباتهم تلك تتعلق بضمور في خيالهم وطرق فهمهم للأشياء وتعاليهم الفقير تجاه ما كنا نحمله أو نلتقطه في الطفولة. ربّما لم نحظ في حياتنا بشخص مثل جدّ ماركيز، الذي علّم حفيده بأنه لا شيء وراء البحر!.
• يبدو أنه ثمة استحالة في التصالح المطلق بين الضخم والضئيل، بين الكبير والصغير، بين العارف والبادئ. وإلا فما الذي يعنيه أن تكون محبوباً جداً عند مدرس التربية الفنية، في صفك الثالث أو الرابع، حتّى أنك تذهب برفقته إلى دورة مياه المدرسة مع زميل آخر لك بهدف تنظيف الفراشي، ثم ما إن تأخذ في إرسال الفرشاة على الحائط لتخط سطراً واحداً ملوناً، ليس بدافع الرسم بقدر ما هو بدافع تخليص الفرشاة من دبق الصبغ، حتى تلكزك يد المدرس الهوجاء فتسقط أرضاً على السطح الرثّ الزلق، وتفهم عميقاً معنى ألفتك وصحبتك مع من يكبرونك من الأوغاد، صائحاً كما لو كان صوتك طالعاً من بئر عميق: يا معلمي الفنون الجميلة، قودونا، نحن العميان، إلى اللون دون أيّة يدٍ غليظة. اذهبوا بنا إلى اللحن، دون أن تفاجئوا الأطفال الصغار بالحكمة الفاسدة.
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *