*د. شهلا العجيلي
“موريتوري تي سالوتانت”، وتعني: الميتون يحيونك! عبارة لاتينيّة كان يقولها المصارعون الرومان للإمبراطور، قبل أن يتوجّهوا إلى ساحة المصارعة التي قد لا يعودودن منها أحياء. اتخذت العبارة ذاتها رمزاً للتعبير عن حال البحّارة في عصر المستعمرات، يقولونها لذواتهم قبل الانطلاق نحو حياة الطاعون والكوليرا وبراثن المتوحّشين السود أو الملوّنين. ولعلّ هذه العبارة التي استبدلنا بها لفظيّاً “السلام عليكم” هي الأكثر صدقاً للتعبير عن حياتنا اليوم.
منذ أسابيع أرسل لي صديق مقطعاً موسيقيّاً على الـ”ساوند كلاود”، ظلّ يمشي معي الأيّام الماضية مثل تعويذة فاشلة، إنّه نصّ عبد الله البردّوني بصوت طلال المدّاح، وأترك لكم المفارقة بين جنسيّتي الشاعر والملحّن:
فظيع جهل ما يجري/ وأفظع منه أن تدري/ وهل تدرين يا صنعا/ من المستعمر السرّي/ غزاةٌ لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري/ يمانيّون في المنفى/ ومنفيّون في اليمنِ/ جنوبيّون في صنعا/ شماليّون في عدنِ/ لماذا نحن يا منفى ويا مربى بلا سكنِ/ بلا حلمٍ بلا ذكرى بلا سلوى بلا حزنِ…
أعرف القصيدة جيّداً، لكنّني لم أسمعها مغنّاة، ففتح اللحن طبعاً آفاق الشجن، وأنا لا أريد الكلام على ما يحدث في اليمن، ضفّة الجرح الأخرى، بل لا أملك طاقة للتفجّع، لكن أتساءل عن التناقض التاريخيّ بين مستوى وعينا وفداحة ما حدث لنا! كنّا نعرف كلّ شيء، نعرف المستعمرين السريّين والعلنيّين، بل ربما نعرفهم بالاسم ولون العينين، ونعرف ما سيؤول إليه الحال من تمزّق البلاد، ورحلات التهجير، والشتات، ونعرف الخرائط الجديدة كما عرفنا القديمة، ومع ذلك ندّعي بأنّنا فوجئنا بالانهيارات الدراماتيكاتيكيّة، أو باغتتنا سرعة التنفيذ. امتلكنا مدوّنة من الشعر ترسم الوقائع مثل إصبع عرّافة تخطّ على الرمل، وسيراً شعبيّة لا تختلف كثيراً عن القنوات الإخباريّة العربيّة، ومقدّمة كاملة عنوانها “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وعرفنا تجارب الآخرين، وعرفنا أنّ السعيد من وعظ بغيره، لكن يبدو أنّنا حقّاً أشقياء. نحن أشقياء ليس لأنّنا قتلنا زرقاء اليمامة، وحاربنا وعي الشعراء، وسعينا إلى تدجينهم، وإفسادهم بالمال والنساء والغياب، بل لأنّ الأُدمة هي السُمرة، والآدم من الناس هو الأسمر، وهو ذاته الذي حكم على البشريّة بالكدح والموت نتيجة العصيان.
الآخر أيضاً، الغازي أو المستعمر، يوقن أنّه يتورّط كلّ مرّة في أرخبيل لا يعرف كيف يعود منه، وبعد أن يتقاعد أولئك المقاتلون، الطيّارون والجنرالات، الذين حاربوا في العراق واليمن وسورية وليبيا، سيجلس كلّ منهم أمام مدفأته في البيت الواسع الذي حصل عليه إثر قتاله الطويل، يتحدّث إلى صديق، ربّما يكون عربيّاً فقد ذويه في حرب ما، أو مهاجراً بسبب حرب ما أيضاً، ليقول له كما قال (تشارلي مارلو) بطل رواية كونراد “قلب الظلام”: “إنّ غزو الأرض ليس بذلك الجمال، عندما تمعن النظر فيه.”.
ماذا لو تحوّل السرد في حكاية “إرم ذات العماد” عن خطّه المتعارف عليه، لو تراجع (شدّاد بن عاد) مثلاً عن تحديه المرعب للإله، وماذا لو سمع (آخيل) صوت الحكمة، ولم ينتقم من ضلال المرأة! لماذا لم يترك (هيلين) تذهب مع (باريس) بلا ضوضاء، أليست النساء بعيدات عن ملامسة الحقيقة، أليس عالمهنّ فائق الجمال الذي يقمنه كلّ يوم، يتحطّم قبل أن تغرب عليه الشمس! لكنّا حصلنا على مدوّنة بدماء أقلّ، ولكانت الريح التي عبّأت أشرعتنا أكثر هوادة.
كلّ يوم يمرّ علينا في هذه الحقبة، يجعلنا نعود إلى أسئلة بدائيّة حول مساهمتنا في صناعة الفرق الشاسع بين الوعي العميق الرؤيويّ الحاضر في المدوّنة الأدبيّة العالميّة، وبين ما يجري على الأرض.
_______
*عمّان.نت