لماذا تكتب قصيدة وكيف؟



علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )

“أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي عليَّ الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر”. الفرزدق

يمتد عمر القصيدة العربية على امتداد الجاهلية الأولى قبل الإسلام 150 عاماً وفق رؤية الجاحظ، ومروراً بجاهلية ما قبل صدر الإسلام، فبدأت منذ نهشل وأوس بن حجر والمرقش الأكبر والبراق وليلى العفيفة ومهلهل ربيعة وحتى زهير وامرؤ القيس والنابغتين (جعدة وذبيان)، والفرسان كعنترة والصعاليك كالشنفرى وتأبط شراً والمخضرمين كالخنساء وحسان والأعشى وكعب، وبعدهم جاءت القصيدة في التأريخ أموية وعباسية وأندلسية وفاطمية حتى الدويلات والقلاقل التي همشت القصيدة بصراعاتها وخدشت المشهد الفكري العربي، وعادت القصيدة بالإحياء والحداثة وما بعدها، وبين هذا وذاك ظل الشعر كما يراه قدامة بن جعفر والنقاد الفقهاء كلاماً موزوناً مقفى له مضامينه وقوالبه ودوافع قوله، وهو عند العرب – تحديداً – جزء من الحضارة والتاريخ والتراث.

بدأ نقْد القصيد وحال الشعر والشعراء بين حسن ورديء وضمن طبقات ومفضليات وأصمعيات وجمهرة، فتجلى النقد القديم وبعده الجديد والتيارات والمشارب والميول والخصوصيات ونقاد متفلسفين أمثال ابن قتيبة وابن طباطبا والتوحيدي والجرجاني والباقلاني والآمدي وغيرهم، كل هذا في القصيدة وحال قائلها، وبعد هذا تجاوز الشعر اللغة وأمسى هويّة وكلانيّة للإرث والموروث العربي على امتداد القصيدة العربية وبنائها وهيئتها ومراد صاحبها بقوته وضعفه، وبعد مجيء قصيدة النثر التي قال فيها أدونيس “قارة لم نكتشفها بعد” ظهرت فرق وجماعات وأسماء شعرية تحمل مشاريع شعرية شغلت المتلقي والناقد العربي بعد اختلاطها بالمشارب الفكرية من شتى بقاع الكون، وأصبح الحكم على القصيدة وتبويبها أصعب لأن الشعراء في ازدياد والقصيدة تنأى بنفسها وتنحسر في عالم صاحبها، بسبب دخول الفلسفة إلى القصيدة متجاوزةً الاعتراف والاستبطان وشعر المناسبات، ففي القصيدة الحداثية التي قال فيها محمود درويش “نتحدث عن الحداثة وما بعدها رغم أننا نعيش ما قبل الحداثة”، لنرى مزجاً فلسفياً كبيراً واستلهاماً يحتاج إلى البحث والدرس، بكل ما فيه من تناص وترميز وعلوم لغوية لم يألف جملتها القارئ العربي بعد.

ومن أصعب الأسئلة التي يمكن أن يسألها الناقد أو القارئ للشاعر في باب القصيدة، “لماذا وكيف تكتب القصيدة؟” فيلاحظ القارئ العربي غياب شعر المناسبات من هجاء لعدو أو مديح وتقريظ لحاكم، وعزوف الشاعر عن توريط نفسه في أبواب شعرية لم تعد تليق بالقصيدة الحداثية الشائكة، فكيف ولماذا يكتب شاعر اليوم قصيدته؟
آراء

زهير يخاطب النابغة: {اخرج بنا إلى البرية، فإن الشعر بري}.

سألت ثقافات العديد من الشعراء من بلدان وأجيال مختلفة عن فقه قصيدتهم، لمعرفة الأسباب والكيفية التي تخلق القصيدة في مخاض نفس صاحبها، في محاولة للتعرف على عوالم الشعراء الغارقين باللغة والرؤى، ولينعم الشاعر الواعد بإجابات جاهزة تشفي غلة سؤاله وتساهم في تدعيم بنيته الشعرية، وكذلك القارئ المتلذذ بقصيدة اليوم، وكنا أمام هذه النماذج:

الشاعر جواد غلوم من العراق، القصيدة مثل جنين ينمو في فكر وروح الشاعر تدريجياً وحالما يصل إلى مرحلة الاكتمال عليه ينبعث ليتنفس ويعيش وكثيراً ما تخرج القصيدة بولادة طبيعية أو متعسرة، وقد تكون إسقاطاً ميتاً، وذلك يعتمد على العناية والمهارة في تجاوز مرحلة المخاض وكثيراً ما خرجت القصائد ذابلة ومتعبة وسقيمة إلا نادراً فتجرج أقلها مكتملة النمو ووليدة محببة تتداولها الأيدي لرؤيتها وتنتقل من مهد إلى آخر لتؤنس الأبصار والأسماع وتبهج القارئ، وأنا هنا أتحدث عن القصيدة الراقية الناهضة الساحرة، أما إسقاطات الشعر غير المكتمل النمو فهو كثير وسرعان ما تجمع كنفايات في سلة المهملات لترمي أخيراً في مكان ناءٍ وربما تطمر لكن القصائد النضرة تبقى مثل ماسة لامعة يظل المتلقي يحب أضواءها دوماً وتخزن في الذاكرة ونظهرها بين آن وآخر.

الشاعر عمار مرياش من الجزائر: يكتب الشاعر قصيدته لكي يتحرر أو لكي يسترجع حريته أو لكي ينتزعها أو لكي يعيشها، لكي يحقق كينونته الحقيقية لا المفروضة ولا المفترضة، فوق كل السياقات والظروف والأعراف والحجج. القصيدة تفاحة الحرية ينبغي أن تقطف بلطف وبقوة في آن، القصيدة مشروع الحالم بعالم أكثر إنسانية أكثر عدلاً أكثر أخوة أكثر حباً، أكثر حرية.

الشاعر السوادني عصام عيسى رجب: أنا أكتبُ قصيدتي، إذن أنا موجود. وهَلْ مِنْ سبيلٍ آخَرَ ليكونَ الشَّاعِرُ مَنْ هو، سِوى أنْ يكتُبَ قصيدتَه؟ بِالْقَصيدةِ، لا غيرِها، يُحِقِّقُ الشَّاعِرُ كَينونتَه ويؤسِّسُ وُجودَه، وُجودَهُ في ذاتِهِ وخارجَها، وكثيراً مِنِ الوقتِ يكفي كتابةُ الْقصيدةِ أنْ تمنحَ شاعِرِها هذا الدِّفءَ الذي يُنعِشُ الرُّوح، هذا التوازنَ والأشياءُ تتداعى مِنْ حولِه، هذا الأمانَ في زمنِ الرُّعْبِ والْخَوف. بالْقَصيدةِ يطمَئنُّ الْكونُ إلى أنَّ الطَّريقَ إلى دمارِه طويلٌ طويل. هذا هو يقينُ الشِّاعِرِ وهو يكتُبُ قصيدَتَه.

الشاعرة راما وهبي من سوريا: الشعر هو هذا الإغواء اللذيذ بالخروج عن المقدس والمحرم معاً في جميع الأديان والمعتقدات والسائد من الموروث الفكري صوب استفاقات جديدة للغة تنخرط في مكابدة حميمة مع مظاهر العالم وأشيائه بالتخريب الحيوي الذي يعيد للإنسان حدوس البدء وإباحة الخلق المستمر لعالم آخر لا يمكن تحديده تحديداً مطلقاً.

بالنسبة لتجربتي البسيطة في الكتابة فلا زلت أحاول إيجاد الشعر بلغة تناقض اللغة حتى يتاح للكلمة أن تتنفس المبهم وتستوطن الشفافية وترقص عريها الكامل مغسولة بالوحي والشهوة والزوال المرح، ما زلت أحاول الكتابة ببراءة الانفعالات الأولى كمن يمخض حليب المجرات في جرة الموسيقى، أو كمن يسأل عن زهرة زانية في حديقة الله.

الشاعرة مروة نبيل من مصر، في كُلِّ مرةٍ أكْتُب فيها لا أَودُّ لِقصيدَتي أن تكون جَميلةً؛ بل أَود أن تكون عَظيمة. ولا أتمَرَّن على الكتابة بِقدر ما أُتَمرَّن على الحَذف.. دومَا أنا في انتظار القارئ الفارس الذي سَينظُر فيما حَذفت. لا أُحِب أنْ أكتب تَفكيري؛ بل أكتُب من كَينُونَتي عندما تُفكِّر بِيِ. وأقبل أن تكون كلماتي مُقرِفة ومُوجِعة بشرطِ أنْ تَكونَ جَليلة.. وكُل يومٍ أُطْعِمُ عصافير قلبي وأُلقي لها بديوانٍ لِتَقْرَأه.

الشاعر جوزيف دعبول من لبنان: أولاً أن الشاعر كائن غريب عجيب منعزل وحيد في هذا العالم ربما بسبب العقل الجمعي الذي يرسم الحدود والسدود. بسبب ذلك يتمرد الشاعر على قباحة العالم وعلى ذاته أيضاً كالحصان غير المروّض أو لا يقبل الترويض. هو طفل سكنته اللغة الجميلة في لحظة مفارقة وأراد أن يغني بها؟ إن كان شوبنهور يعتبر الموسيقى أعلى درجات الفن، فالشاعر بلغته له موسيقاه الخاصة ولوحاته وأفكاره التي يرسم بها العالم على صورته ومثاله. الشاعر يرفض القبح مهووس وموسوس وقلق دائماً من هذا الخارج، لذا لا بد من يعيد فبركته من جديد. يرفض أي مزق يخرج منه السواد تراه يحب المشردين والمساكين والمنعزلين والفقراء. اللغة بيته ومأواه وجنونه وتمرده، وهو لا بد أنه يعاني نقصاً دائماً إن لم يتكلم.. إن لم يكتب إن لم يضع بصمته في هذا العالم إن كان الآخرون مستكينين أو متوائمين مع العالم بكل جماله وقبحه، فالشاعر مغاير يسكن المغاور والقمم، وكالذئب الوحيد يعوي على القمر لكي لا يغرب وهو مقدام شجاع ولو على جز رأسه يكتب ويقول فكرته ورؤياه ولو كانت بعكس ما يريد الأجمعين.

الشاعر عبد الحميد القائد من البحرين: أنا لا أكتب، تكتبني القصيدة، تدمنني وأدمنها لتمسح غمي وهمي، هي سلاحي الوحيد في معركة الاكتئاب وبالكتابة أقاوم الانكسار، أحقق نفسي، أرسم كبريائي حروفاً في وجه عواصف الزيف والدم التي تهب من كل الجهات.

عالم لا معقول نكتبه، نسحقه بكتابة غير معقولة، أنا أكتب لكي أصرخ.. لكي أتحدى.. لكي أكتب الفرح من خلال انهمار الحزن، الكتابة تعني أنني هنا تحت الشمس أرسم حباً.. أزرع عشقاً بحروف عاصفة هامسة صاخبة، الكتابة صمت البحر وبكاء الريح وغناء الجمر قبل الاشتعال.

الشاعرة رشيدة دبيش من المغرب.. سؤال يشبه: لماذا الورد يفوح بالعبير؟ ولماذا الشمس مشرقة؟ ولماذا النار حارقة؟ ولماذا البحر عميق؟ فكل قصيدة تكتب صاحبها على شاكلتها وعلى مقاسها تتدفق كالنبع الجارف؛ يحركها الهاجس؛ ويعزفها وتر المبدع المشدود إلى أقاصي النفس حيث يتعانق الجرح والفرح.. الألم والنشوة.. الحزن والبهجة.. ثمة متناقضات ترج كيان الشاعر ليبقى على قيد الحياة والعطاء وعلى قيد النبض وقيد الوجد والدفء الإنساني والروحي اللذين يوجهان إحساسه وذائقته، لذلك الشاعر كائن يتمتع بدرجة حساسية عالية.. تلتقط عيناه ويستشف بقلبه ما يعجز الآخرون عن فعله.. يحس ويتنبأ بمشاعره وعاطفته ليعبر لقصيدة قادرة على الخلق والتنبؤ.. كوسيلة أبهى للتعبير عن الذات وعن اﻻنفعال لتحرير الإحساس عن معوقاته، وكمرآة للحساسية وللجمال الكامن في جوهر وماهية الإنسان المفطورة على الحب والحرية.
الشاعر عيسى بطارسه: قد تنفجر قصيدة في روحك، وأنت طري كنبتة الريحان، تشكل عبئاً لذيذاً بروحك، وتكون بداية تعلق بالشعر، وإذا كنت موهوباً أو مهيأً، قد تقبض القلم وتبدأ بخط شيء ما شبيه بقنبلتك تلك، لتفرغ ذلك العبء- الشحنة، لسبب لا تدريه.

وقع بين يدي وأنا في الصف السادس الابتدائي، بداية النظر خلسة إلى المخلوق الآخر الأجمل والأنضر من كل أصدقائي، والتعلق به، دفتر بالغلاف المقوي، كتب عليه من الخارج والداخل بالخط الكوفي المزركش “أزاهير”، انفجرت فيّ منه قنبلة معنونة بـ”الطلاسم” لإيليا أبي ماضي، تغلغل دخانها وأزيز انفجارها في، عايشتني ليلي ونهاري، وصحوي ونومي، حفظتها عن ظهر قلب ورسمتها على جدران قلبي بالخط الكوفي.

أعادت لي طلاسم أبي ماضي، تسع سنواتي الأولى، في كرم أبي السوفاني، قبل الهجرة للمدينة، وشممتني رائحة الدوالي والعنب والخبيصة والزبيب وجروح طيور الحجل التي كانت على يدي أبي تشكل طعامنا اليومي، وأرتني بالعين طابون أمي وشممت روائح خبزها وطشطوشها، وتفيأت تينتنا ومشمشتنا وزرت نبعة عين سوف.

هل كان ذلك مطلع قصيدتي التي لبستني تحت ثيابي؟ ومزجت بين كيف ولماذا في ثلاثة حروف ونصف؟

الشاعر مهدي نصير: يكتب الشاعر قصيدته لأنه بذلك يُنشئ جسراً بين الحلم والواقع، فالقصيدةُ جسرهُ بين الحلم بكلِّ شغفهِ وطوباويته وبين الواقع بكلِّ بؤسِهِ ويباسهِ وشراستهِ وخوائه، ويكتب الشاعر قصيدته أيضاً لأنها حبلُ نجاتهِ الفرديِّ من جنون ولا جدوى العالم والأشياء، وكذلك هي حبلُ نجاةٍ جمعيٍّ، لأنَّ القصيدةَ – بلغتها الخارجةِ على اللغة – هي الأقدر على التأثير على القيم الجمعية العليا للناس وخلقِ أفقٍ جديدٍ وأملٍ جديدٍ وجدوى لحياتهم.

الشاعر قصي اللبدي: لماذا الشعر؟
قبل أن يرتطم الشاعر بسؤال مفاجئ كهذا، ينشغل حتى أذنيه بسؤال آخر، تتشعب منه أسئلة كثيرة. السؤال الذي يؤرقه عادة هو: كيف يكون الشعر؟ كيف يكتب؟ كيف يكون ذاتياً وإنسانياً معاً؟ أما لماذا، فهو ليس السؤال الذي يشغله، أو يفكر فيه. إنه حتى لا يريد أن يدخل من هذا الباب، ولا يريد مواجهة العتمة الكامنة خلفه. 

لماذا أكتب؟
في البداية، كان للكتابة هدف بدائي، طفولي إلى حد السذاجة، ربما، هو المحاكاة. وفي مرحلة لاحقة، بدأ الشعر يستحيل وسيلة، أو تحدياً: كيف يمكنني أن أنحت اسمي في هذه الصخرة الزرقاء، التي سقطت من السماء، وأصبحت اللغة والحياة معاً؟
وفيما تتقدم في التجربة، تواصل العمل، بالجدية نفسها، وشيئاً فشيئاً، تفقد الأسباب وهجها، لكنك لا تتخلى عنها، بل تضيف إليها أسباباً أخرى، أعمق، ربما، أو لأقل: أكثر جدية.

قبل سنوات شعرت بأنني أكتب حتى أحرر نفسي من اللغة، وأنطلق نحو الشعر. أما الآن، خلال هذه الفترة، فأنا أكتب لأبرهن على وجودي في هذا العالم.
الكتابة هي الإعاقة التي يعانيها الوقت. هي لحظة فقدانه البوصلة. إصابته بالخدر. والقصيدة الجيدة هي انتصار آخر عليه. أنا أكتب حتى أجبر الزمن على التسرب من الجهة اليمنى.

*شاعر ومترجم من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *