ايزابيل الليندي: هكذا عشت


ترجمة: أحمد الزبيدي

لماذا أكتب سيرتي الذاتية؟ من الغريب جدا أن يكتب المرء سيرته الذاتية، لأنها ليست سوى قائمة بالتواريخ والأحداث والإنجازات، وفي الواقع فإن الاشياء الاكثر اهمية في حياتي حدثت في اماكن خفية في قلبي، ذلك هو مكانها وليس في سيرتي الذاتية، وانجازاتي الاكثر اهمية لم تكن رواياتي، بل هو ذلك الحب الذي اتشاركه مع قلة من البشر –خصوصا مع عائلتي- والوسائل التي احاول من خلالها تقديم المساعدة للآخرين. عندما كنت شابة كنت غالبا ما اشعر بالاحباط، هناك الكثير من الآلام في العالم و هناك القليل مما استطعت عمله للتخفيف منها، ولكني الآن حين استعيد حياتي الماضية، وينتابني شعور بالرضى، فذلك بسبب انه لم تمر سوى فترات قليلة لم احاول فيها على الاقل ان احدث تغييرا ما.

على أية حال هذه سيرتي الذاتية:
تاريخ الميلاد: الثاني من آب 1942
الجنسية: ولدت لأبوين من تشيلي
المهنة: كاتبة وصحفية
قمت بتأليف اكثر من عشرين كتابا، ترجمت مؤلفاتي الى خمس وثلاثين لغة، بيعت اكثر من 65 مليون نسخة من كتبي، حصلت على اكثر من 14 دكتوراه فخرية، نلت 50 جائزة من اكثر من 15 بلدا، وهناك فيلمان عالميان تم اقتباسهما عن رواياتي.
في عام 1996 تأسست مؤسسة ايزابيل الليندي على شرف ذكرى (باولا) ابنتي التي توفيت في الثامنة والعشرين من عمرها، وتقوم المؤسسة بتقديم الآلاف من المعونات للنساء والاطفال المشردين.
ما هي الحقيقة ؟
دائما ما يسألني الناس كم هي نسبة الحقيقة في رواياتي وكم نسبة ما اقوم باختراعه من الخيال؟ وبإمكاني ان اٌقسِم ان كل كلمة كتبتها هي حقيقية واذا لم تكن قد حدثت في الماضي، فانها حتما ستحدث في المستقبل، لا استطيع تمييز الحد الفاصل بين الواقع والخيال، في السابق كنت اٌدعى الكاذبة، والآن حيث اتعايش مع تلك الاكاذيب، فانا اٌدعى (الكاتبة)، ربما ليس علينا سوى ان نتمسك بالحقيقة الشعرية.
سأورد لكم قصة قصيرة احبها لادواردو غاليانو منشورة في (كتاب العناق)، وهي تمثل بالنسبة لي قطعة ادبية رائعة.
كان هناك رجل عجوز يعيش وحيدا ويقضي معظم وقته في السرير، وسرت شائعات انه يخفي في بيته كنزا، في احد الايام دخل اللصوص بيته باحثين عن الكنز، بحثوا في كل مكان فوجدوا خزانة في القبو، فاخذوها وخرجوا وحين فتحوها وجدوها مليئة بالرسائل، وكانت تلك رسائل حب تلقاها ذلك الرجل العجوز على مدار حياته الطويلة، فقرر اللصوص حرق تلك الرسائل، ولكنهم تباحثوا في الامر وقرروا في النهاية اعادتها، واحدة تلو الاخرى، في كل اسبوع يعيدون رسالة، ومنذ ذلك الحين كان الرجل العجوز ينتظر في ظهيرة كل يوم اثنين ظهور ساعي البريد، وحالما يراه يبدأ بالركض، وساعي البريد الذي كان مطلعا على كل شيء كان يحمل الرسالة بين يديه متأهبا، وكانت دقات قلب الرجل العجوز تسمع في اماكن بعيدة، وقد جن فرحا بتلقيه الرسالة .
أليس هذا هو جوهر التلاعب في الادب؟ ألم يتحول الحدث من خلال الحقيقة الشعرية؟ الادباء مثل اولئك اللصوص الشرفاء، انهم يلتقطون شيئا حقيقيا مثل تلك الرسائل وبخدعة سحرية يحولون الامر الى شيء جديد تماما، ذلك هو اهم جزء في الكتابة، الكشف عن الكنوز المخفية، وبعث الروح في احداث عفا عليها الزمن، وتنشيط النفوس المتعبة، بواسطة الخيال، وخلق شيء حقيقي نوعا ما عن طريق مجموعة من الاكاذيب.
جودة الرواية لا تكمن فقط في الحبكة المثيرة، فاروع ما فيها هو قدرتها على استكشاف ما وراء المرئي من الاشياء، وعلى زعزعة طمأنينة القارئ، وعلى التشكيك بالواقع ، ،صحيح ان الامر يمكن ان يكون شاقا، ولكن ربما في المحصلة ستكون هناك مكافأة، وبشيء من الحظ فان المؤلف و القارئ ربما يستطيعان معاً ان يكتشفا بالصدفة بعضا من جزئيات الواقع، ومع ذلك فان هذه ليست رغبة المؤلف في المقام الاول، فالمؤلف ببساطة يعاني من حاجة لا يمكن السيطرة عليها لان يروي القصة، وصدقني ليس هناك اكثر من ذلك.
كيف أصبحت كاتبة؟
تعتبر اللغة امرا جوهريا بالنسبة للكاتب، ولغة الكاتب شيء يمثله شخصيا مثل دمه، انا اعيش في كاليفورنيا حيث اللغة السائدة هنا هي الانكليزية، ولكني لا استطيع الكتابة الا بالاسبانية، وفي الواقع فان كل المواضيع الاساسية في حياتي اقولها بالاسبانية، مثل تأنيب احفادي او الطبخ او مطارحة الغرام.
وربما عند هذه النقطة عليّ ان اخبركم كيف ولماذا اصبحت كاتبة.
تبدو حياتي وكأنها تدور حول الالم والخسارة والحب والذكريات، الالم والفقدان كانا هما المعلمين، هما اللذان قاما بتربيتي، الحب ساعدني على الصبر واعطاني الفرح (انا اعلم انه يبدو تافها) اما الذكريات فهي المادة الخام لكل كتاباتي.
لقد ولدت خلال الحرب العالمية الثانية (انا ابدو شابة بالنسبة لعمري اليس كذلك؟ تطلب ذلك الكثير من العمل والمال) صحيح انني امرأة عجوز، من زمن الاهرامات ولكني لست في سن الشيخوخة تماما، عشت في عائلة متشددة بسلطة ابوية، تزوجت امي أبي، وفي شهر عسلهما في رحلة بحرية في المحيط الهادي، كان العريس كثيرا ما يصاب بدوار بحر شديد، ومع ذلك فقد نجحا في انجابي، في السنوات الثلاث التالية كان والداي يعيشان منعزلين اغلب الاوقات، ولكن في الفترة القصيرة التي امضياها معا، كان لديهما ولدان آخران (الاخصاب نشط في عائلتي) وانا محظوظة كوني وصلت الى سن الامومة وقت اختراع حبوب منع الحمل. كان زواج والديّ كارثة منذ البداية، في احد الايام، وكنت حوالي في الثالثة من العمر، ذهب ابي ليشتري سجائر ولم يعد ابدا، كانت تلك اولى الخسارات الكبيرة في حياتي، وربما يكون ذلك هو السبب في عدم استطاعتي ان اكتب ابدا عن الآباء، هناك الكثير من الاطفال المتشردين في كتبي الى الحد الذي استطعت فيه ان افتح دارا للايتام، ترك ابي والدتي مقطوعة السبل في بلاد اجنبية مع ثلاثة اطفال صغار، ومما جعل الاشياء اسوأ انه لم يكن يسمح بالطلاق في تشيلي، كان البلد الوحيد في الكون الذي لا يوجد فيه طلاق، (تم السماح بالطلاق اخيرا في تشيلي في عام 2004) وبشكل ما نجحت امي في فسخ زواجها، ولذلك اصبحت امرأة وحيدة مع ثلاثة اطفال غير شرعيين، لم يكن لديها نقود، وبتعليم متدن وبلا مهارة معينة وكان خيارها الوحيد ان تعود الى ابيها وتطلب العون منه، وهذا ما فعلته.
في بيت جدي الذي عشت طفولتي فيه كانت تتواجد حيوانات اليفة و برية، وكان هناك اناس غرباء، واشباح طيبة، كانت جدتي سيدة فاتنة، وكانت لا تهتم الا قليلا بالعالم المادي، لقد توفيت منذ زمن طويل في عمر الشباب، ولكنها على غرار ابنتي باولا ما زالت حاضرة على الدوام في حياتي. كان جدي من ابناء الباسك الاشداء قويا وعنيدا كالبغل، وقد اكسبني موهبة الانضباط، كان بامكانه تذكر مئات الحكايات الشعبية وقصائد ملحمية طويلة، وكان يضرب الامثال وعاش حتى ناهز عمره المئة عام، وفي اواخر حياته، اكمل قراءة الكتاب المقدس عدة مرات من الغلاف الى الغلاف، والموسوعة البريطانية من الحرف الاول الى الحرف الاخير، وقد علمني حب اللغة والقصص
لم تكن السعادة ذات شأن في عائلتي، وكان جدي وجدتي يندهشان حين يعلمان ان هناك اناسا ينفقون فعلا اموالا للعلاج والتخفيف من تعاستهم، فبالنسبة لهم كانت الحياة بطبيعتها مؤلمة، وما عدا ذلك كله هراء، والقناعة والرضا يأتيان من عمل الشيء الصحيح، من العائلة، من الشرف، من المهنة من التعلم، من الصبر، الفرح يظهر بطرق عديدة في حياتنا وبالطبع فان الحب ليس اقل شيء فيها، بل اننا لم نكن نتحدث عن الحب، فذلك سيكون أمرا محرجا للغاية، كانت العواطف تتدفق بصمت، ولم يكن هناك من يمدح الاطفال او يدللهم، كان جدي وجدتي يعتقدان ان ذلك يفسدهما وكانا يهملان المظهر الخارجي والرغبات الجسدية، ومن الاعمال المشينة قليلة الذوق ان يتم الحديث عن السياسة والصحة و في المقام الاول عن النقود، كانا يتبرعان بما هو متوفر دون اسراف، لم يكن الكرم فضيلة كان واجبا وليس شيئا للفخر والمباهاة .
كيف كانت طفولتي؟
لم تكن والدتي جميلة فقط بل كانت أيضا ضعيفة وتبكي طوال الوقت، وهذا أمر مغر للغاية لأنه يجعل حتى اضعف الرجال يشعر بانه قوي. تقدم لخطبتها العديدون ولكن انتهى بها المطاف الى ان تتزوج أقبح من فيهم. كان زوج أمي يبدو مثل الضفدع ولكن في النهاية يتحول إلى أمير، والآن أستطيع أن أٌقسم أنه كان الى حد بعيد رجلا وسيما. كان صاحب قلب نبيل ولكنه كان متسلطا مثل جدي. لم يكن لدي أي خيار سوى أن اتمرد عليه، كان التمرد هو السبيل الوحيد الذي تستطيع فيه الفتاة البقاء على قيد الحياة في عائلتي.
* (يصدر قريبا عن دار طوى)
__________
*نصوص

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *