رموز واختراقات في القصيدة العربية


*محمد الأسعد

خاص ( ثقافات )
منذ زمن غير بعيد، ولعدة سنوات، كان للمبنى الرمزي، والأسطوري منه بخاصة، سيطرة على مساحة الفعل الشعري العربي شعراً ونقداً. وبلغت هذه السيطرة حداً جعل من الشعرِ فضاءً طردت فيه الأساطيرُ والرموزُ كلّ أشكال التأمل الإنساني الواقعي.
لم يفتقر المسيطرون آنذاك إلى الحجة والدليل، فبعض الاتجاهات النقدية الغربية زودتهم بالأدلة النظرية والتطبيقية. وبما أن نموذج التطور والاتجاه الفكري الغربي كان يُعتبر، إلى زمن قريب، هو النموذج والاتجاه الكوني، فقد جاءت الأدلة قاطعة، والنماذج مقدسة حتى وإن تحوَّل الغربُ ذاته عنها. ولقي تفسير الشعر بالأنماط البدئية، أي بالمخيلة الأسطورية، وبما هو كامن في اللاوعي “الجمعي” على حد تعبير من زعم وجود هذا اللاوعي الجمعي، رواجاً، ولقي القولُ بأن الحياة المعاصرة تخلو من الشعر، وأن الخرافة والأساطير منابع ثرية للشعر، احتفاءً لا مثيل له.
في هذا السياق اكتسب المبنى الرمزي المعتمد على مئاتِ الأساطير الوثنية واليهودية ثقلا واضحاً، وفي ضوئه كُتبت غالبية المجموعات الشعرية، وفي الدعوة إليه دُبّجت مئات المقالات وعشرات الكتب النقدية، وعلى هداه تُرجمت عشرات الكتب والمقالات ونُقلت إلى العربية. وشهدنا هيمنة هذا الاتجاه في تمكنه من احتواء عددٍ كبير من المواهب الشعرية بدءاً من مطلع خمسينات القرن الماضي، وصولا إلى ستينات وسبعينات وثمانينات ذلك القرن، بل واكتسب هذا التيارُ حياة جديدة في قلب تيار الشعر الفلسطيني القادم من فلسطين المحتلة، وهو تيار كان من المؤمل أن يخصب الشعر العربي، لا أن يسقط ضحية أحد أكثر اتجاهاته سلبية وخطورة.
لقد حاول دعاةُ البناء الأسطوري إيجاد رابطٍ بين إنسان المقاومة الجديد ورموز الخمسينات عن “المخلص” الذي يولم لحمه للجياع، و”يوليسس” الجوّاب الذي يعود إلى ” أتيكا ” وينتصر على أعدائه، بل ورأى فيه البعض “تموز” الأسطوري، و”بعل” أو “العزير” اللذين ينبعثون من الموت في فعلٍ أسطوري أقرب إلى المعجزة منه إلى الكفاح الإنساني الواقعي.
في ظلِّ هذا الطوفان المدعوم بهيمنة تعاويذ “الأبقار المقدسة”، أي بعض باحثي ونقاد الغرب، التي لم يكن يخلو منها مطلع أو مسار مقالة عربية على صفحات المجلات الأدبية الشهيرة، لم تكن مصادفة أن تنسحب التجربة الإنسانية الملموسة حتى من شعر من يعتبرون مهمتهم إعادة الاحترام لإنسانية الإنسان المنتهكة، ولم تكن مصادفة أن يتشوه منظورُ عددٍ كبير من الشعراء (كما هو مشوّه الآن)، وأن تختل العلاقة بين جمهور يعيش في قلب صراع بشري، وبين شعراء يعيشون صراعا يحدث في السماء.
كانت أبرز مظاهر هذا التشوه إدراك الصراع البشري على أنه صراعٌ بين فردٍ وإله أسطوري واحد أو أكثر من مجمع آلهة العصور الوثنية، وليس صراعاً بين البشر أنفسهم. وتمثل هذا على وجه الحقيقة في سلسلة من الشعراء أطلق عليهم لقب “التموزيين”. وانعكس هذا التصور بجلاء لدى سلسلةِ شعراء ممتدة من يوسف الخال إلى أدونيس فتوفيق صايغ، وصولا إلى خليل حاوي والسياب، من دون استثناء شعراء ثانويين أقل أهمية.
أكثر مظاهر هذا التشوّه وضوحاً كان إفراغ التجربة الشعرية من طاقتها على الفعل في فكر ووجدان المتلقي. فبدلا من أن تجلو التجربة صورَ الوجود بكل احتمالاتها، أصبحت هذه الصور الثابتة والمسبقة هي التي تسقط على التجربة من فوق، وعنى هذا، على سبيل المثال، التزام الموقف الفاجع، ليس بوصفه كشفا من قلب الوجود التاريخي، بل بوصفه خياراً مسبقاً ومقلقاً بدءاً من تبني مقولة الخطيئة الأصلية وصولا إلى النزاعات الرمزية بين كائنات أسطورية.
المصيرُ في هذا النوع من التصور مقرّرٌ سلفاً، ولا تملك التجربة الإنسانية شيئا حياله سوى استعادته وتكراره. لم يكن الشاعر يجرّب بل كان يقرأ نصوصاً، ولم يتعامل مع الوجود البشري والطبيعي، بل مع “وجود” مجرد يفتقر حتى إلى لون الوردة والحجر والتراب.
وعلى صعيد المفاهيم النقدية أرسى هذا النوع من التصورات ميراثاً للشعر الحديث، فأصبحت مشكلة الحداثة في ضوء هذا الميراث هي الاختيار بين شعر تقليدي وبين شعر أسطوري. ألم يعدّ أحد دعاة هذا الميراث “إيلاج الأسطورة في الشعر دليل حداثة”؟ وقبل ذلك، ألم يكن سائداً، ولزمن طويل، أن إنسانية وعالمية الشاعر تقاس بميزان مدى ما تضمن شعره من إشارات أسطورية؟
أمام مثل هذه السيطرة برزتْ، أيضاً منذ وقت مبكر، مواقفُ معارضة تفاوتت في الأهمية والغاية، وظهرتْ في عددٍ من الأعمال النقدية.
هذه المواقف يمكن تلخيصها في ثلاثة اتجاهات:
الأول، اتجاهٌ لجأ إلى الخلط بين الشعر العربي الحديث وأحد تياراته الممثل في الولع بالأساطير. فانتقد الشعرَ الحديث وغض من قيمته بلا تمييز بين ميله الرمزي وميله الأسطوري. و أسند المنتقدون نقدهم بحجة أن هذا الميل يهدم التراث العربي ويشوه المعتقدات الدينية. وأبرز ما مثل هذا الاتجاه المذكرة المرفوعة من لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الآداب في مصر في العام 1964.
الثاني، اتجاهٌ لجأ إلى نقد”هوية” الرموز والأساطير التي يلجأ إليها الشاعر، على أساس أنها غريبة عن مدارك المتلقي العربي، أما لو كانت عربية الهوية فلا غبار عليها. ومن أبرز من قال بهذا د. إحسان عباس ( 1920-2003).
الثالث، اتجاهٌ ذهبَ إلى نقد المبنى الرمزي من وجهة نظر علاقة هذا المبنى بالكشف عن صور وجود الإنسان الواقعي ومكانه في العالم. ورأى أصحاب هذا الاعتراض، مثل د. حسين مروة (1910-1987) ، في المبنى الأسطوري تغييبا للشاعر والمتلقي عن حقائق الحياة الأرضية، وإيغالا خطراً في المطلقات، ولكن لم يرفض أصحاب هذا الاتجاه كل مبنى من هذا النوع، بل كانوا انتقائيين، أشادوا ببعض المباني ورفضوا أخرى.

* * *

لم تحقق هذه الاتجاهات النقدية نجاحا في مواجهة الموجة الطاغية. فالأول، بخلطه بين الشعر الحديث ككل وأحد تياراته، جاء كدعوة ضد أي تجديد أو تحديث مهما كان شكله، أي أنه كان نظرة تقليدية تدافع أيضا عن أساطير من نوع آخر وترسخ رؤى عفا عليها الزمن. ولم يوجه الثاني، بدعوته إلى استبدال الرموز العربية بالرموز الغربية، أو تعريبها، نقداً جذرياً إلى أساس هذا التيار، وساير فلسفته التي يصدر عنها. أما الثالث، فرغم منطلقه الفلسفي، إلا أنه لم يستطع إقامة تمييز دقيق بين ما يعنيه المبنى الأسطوري وما تعنيه الأسطورة كإشارة، فليس كل مبنى رامز غياباً في المطلق.
يمكن الآن الاستفادة مؤقتا من اتجاهات الاعتراض التي ذكرناها، وخاصة الثاني والثالث. الثاني بإشادته بالمبنى المشروط بالهوية العربية، والثالث بمنطقه الفلسفي المضيء حول التمييز بين مستويين في التجربة الشعرية؛ مستوى المطلق الغائب ومستوى النسبي الإنساني.
نحن نعرف أن الاعتراض الأساس لا ينصب على كون هذا المبنى رامزاً أم لا، ولكن على كونه صياغة ثانوية لأنواع من التصورات الأسطورية المسبقة، إذ ليس من شأن التجربة الشعرية الهبوط من الكلي إلى الجزئي، بل هي على العكس، صعود من الجزئي إلى الكلي.
أما بالنسبة للمبنى الرامز، وهو أصل الاتجاه الرمزي بوصفه اتجاهاً يرتكز على الإيحاء من حيث الجوهر، فهو يتعلق بالضرورة، كما فهم بعض الشعراء العرب، بسرد أكبر قدر من الإشارات الأسطورية، أو بالتفتيش عن أسطورة في كتاب، ولا يتعلق بالضرورة بالاستناد إلى تصورات سابقة على التجربة الإنسانية وإعادة تمثيلها مجدداً، بل يتعلق بمعنى واتجاه عناصر القصيدة، سواء كانت مستمدة من الخبرة الملموسة أو من الاختبارات الذهنية. إنها شكلٌ من أشكال التقانة الفنية كما نعرف من أشهر القصائد الغربية مثل “الأرض اليباب” للشاعر الانكليزي ت.س. إليوت، والتي كانت نموذجاً ظل يتذكره ويحتذيه عددٌ كبير من الشعراء العرب لسنوات عديدة.
والحق أن الأرضية الثقافية للجمهور العام تلعب دوراً مهماً في وعي أبعاد المبنى الرمزي، ولا يمكن الاستهانة بها. ومن هنا وجاهة الاعتراض على هوية الرموز والأساطير من الناحية المنطقية. إلا أننا من جانب آخر نتساءل: هل الدعوة إلى الأساطير العربية ذات أساس واقعي ملزم؟ إذا لم تشكل هذه الأساطير نسيج الأرضية الثقافية العربية يصعب القول أنها أقل غربة من أساطير عالم اليونان والرومان القديم. وتدلنا قراءة الشعر المسمى بالشعر “الجاهلي” إلى أن استخدام الإشارة الأسطورية قديم في الشعر العربي، ولكن من الخطأ إغفال حقيقة أن هذه الإشارة كانت تستند إلى مخزونٍ ثقافي شائع ذي إطار واضح ومحدد. ومن هنا نفهم أن الإشارة الأسطورية مجرد عنصر من عناصر القصيدة والتصور الإدراكي لشعب من الشعوب، وليست هي كل العناصر، ولا كل التصورات. أي أنها ليست الموقف الفكري العام في النظر إلى العالم، ذلك الموقف الذي يتحدد بعناصر أخرى تقع الخبرة الإنسانية في صميمها.
ولم يتوقف استخدام الإشارة بهذا المعنى حتى في العصور القريبة، فقد حظيت باهتمام شاعر مثل “أبو العلاء المعري” (973-1057) في “سقط الزند”، وظلت تتواتر بشكلِ استخدامها هذا حتى اليوم، وحلّت أحيانا محل الاستعارة، ولم تلعب دورا أبعد من ذلك:

إذا لاح إيماضٌ
سترتُ وجوهها
كأنني عمرو
والمطيّ سعالي

فقط في داخل حركة التصوف بدأ المبنى الرامز الكلي يتخذ أهمية وثقلا أساسيين. وتحولت القصيدة إلى حكاية تماثل عناصرها ظاهريا عناصر أي حكاية تحدث في عالم الخبرة الإنسانية، ولكن باطنها شيء آخر أعمق غوراً. ظل العالم المرئي قائماً وملموساً يأخذه أي إنسان مأخذاً مألوفاً لديه، ولكن تركيبة هذه العناصر تشي برؤيا أبعد تتعلق بعالم ذهني، أو خبرة روحية مرَّ بها الشاعر، ولكنه خضع في توصيلها لفن شعري عناصره من هذا العالم الذي نعيش فيه، ولم يتحدث بلغة الرؤيا المجردة. يدخل أحد الشعراء مدينة مبنية من حجارة هذا العالم، ولكنه يرى على الجدران جثث العشاق القتلى، أي أنه يختلق أسطورة خاصة متفردة، ولا يكرّر ما تلقط من أساطير وما عرف أو سمع.
في نطاق هذه الحدود، حدود استخدام الأسطورة كإشارة أو كمبنى رامز، يظل واضحاً أن التضمين أو المبنى الكلي للقصة، يعبّر عن جهد المخيلة التي لا تغادر الأرض إلا لتعود إليها. وفي هذه النقطة يفترق تيار الأسطورة الحديث عن شواهد الماضي، بل وعن الشواهد والنماذج الغربية التي حذا حذوها.
وتلفت نظرنا ناحيةٌ في هذا التيار لم تقبض عليها الاعتراضات السابقة جيدا، ولم يستطع وعي أولئك الشعراء الذين تحمسوا لهذا التيار إدراك مضمونها وتبعاته. تلك هي اختراق الموروث التوراتي لأرضية الثقافة الشعرية، وهو أخطر ما أورثتنا إياه هذه الموجة نظراً لارتباط هذا الموروث بالإحالات الصهيونية إليه، ورؤيتها إلى العالم. أي أن الصياغة الصهيونية لهذا الموروث لم تتركه موروثاً بريئاً على حاله، بل ربطته وقيدته بمشروع رؤية إلى العالم يجعل الرمز التوراتي رمزاً كونياً شاملا، مع كل تبعات هذا الشمول وآثاره على ثقافة شعب تخترق الصهيونية ثقافته وأرضه بل وتمحو وجوده.
ولعل التفات الشعراء والنقاد العرب إلى التوراة اليهودية، واستخدامهم لرموزها كأرضية ثقافية للنص الشعري والنقدي، لا يحمل سوء نية بهذا القصد أو ذاك، إلا أن تطور هذه الظاهرة وصل إلى مرحلة خطرة، مرحلة تغيير وجهة رؤية الإنسان العربي والفلسطيني بخاصة إلى طبيعة صراعه مع الصهيونية، وإلى طبيعة رؤيته لنفسه وللعالم من حوله، إلى أخذ المعتقدات الصهيونية الخرافية حول “الحق” في استعمار فلسطين وأي أرض عربية متاحة مأخذ المسلمات والمرتكزات الفكرية.
لم يعد الأمرُ، كما كان في البداية، مجرد إشارات إلى مرجعية تفسيرية، بل أصبح “اعتناقَ تصور” للعالم من حولنا وعلاقتنا بالصهيونية يشيع بهذا القدر أو ذاك في قصائد عدد من الشعراء من دون وعي بمتضمنات هذا التصور، ومصدره ومعناه. مثلا، لم يتوقف النقاد أمام هذه الصورة التوراتية عن “الشجار مع الله” حين شاهدها بعضهم ولمس شيوعها لدى هذا الشاعر أو ذاك من شعراء اتخذوا لهم لقب شعراء “المقاومة” وتابعهم فيه جمهور عريض.
صحيح أن هناك من انتقد هذا التصور، إلا أن هذا النقد لم يصل إل الكشف عن أصول هذه الرؤية الغريبة عن كل المعتقدات الشرقية، ولم يضع يدنا على المغزى الحقيقي لهذه الاستعارة الشاذة. وليس هذا المثل إلا واحدا من أمثلة عديدة نجدها تتردد في شعر الشعراء في فهمهم لعلاقتهم بالعالم وبالناس من حولهم وبالذات الإلهية، وكلها مما تسلل إلى ثقافتهم قادما من تصور توراتي صاغ أسطورة “الشعب المختار”، الأعلى فوق الجميع، وصاغ علاقته بالوجود على أساس أنها علاقة كونية تحدد مصير البشرية كلها، فمن أراد أن ينجو، لجأ إليها، ومن أنكرها هلك.
هذه التصورات المستدخلة تولج في وعي الفرد تزويراً، وقد لا يلتفت أحد إلى وعي فرد تم تزويره، إلا أن تعميمها عبر الأعمال الإبداعية شعراً ونقداً ورواية وفناً، وإحاطتها بكم صاخب من الاحتفالات والمهرجانات الخطابية وتمجيد أصحابها المزوِّرين، هو ما يحولها إلى تزوير للوعي الجماعي تحت حجج “فنية النص” و “إبداع” المبدع.

* * *

في البداية، وقبل انفجار الصراع مع الحركة الصهيونية، وأنا أشدّد على أن علاقتنا بها علاقة صراعية بالأمس واليوم والغد، شكل القصصُ التوراتي المنظور الذي رأى خلاله بعض الشعراء العرب، مثل “الياس أبي شبكة”، مشكلات عصرهم، بل ومآسيهم الفردية والجماعية. وكانت هذه القصص مرجعاً تفسيرياً لإضاءة العالم من حولهم. فاستلهموا قصة “سدوم” و”عمورة” ليقصوا علينا قصة موبقات العصر المادي الذي نعيشه حسب اجتهادهم، وتمثلوا حكاية “شمشون” و”دليلة ” كنموذجين دالين على الصراع بين عالم الإرادة والحق وعالم الباطل والزوال. وتكاد مجموعة ” أفاعي الفردوس ” لأبي شبكة ( 1903-1947) أن تكون نموذجاً خالصاً لهذا التصور. الأرجح بالطبع أن هذا التصور لم يكن مولود المسيحية الشرقية بل مولود الاختراق الغربي للتراث المسيحي بتوراة غريبة عنه بكل قيمه الأخلاقية، ومع ذلك أصبحت عنوة مرجعاً منذ عهد ما يسمى عصر الإصلاح في الربع الأول من القرن السادس عشر. أي حين وضع “المصلحان” لوثر وكالفن مع آخرين التوراة في مكانة أعلى من الأناجيل.
بعد أبي شبكة، لم يظهر مثيل لهذا التشبع إلا بشكل جزئي، في بعض مسرحيات، وأشعار، مثل مسرحية “هيروديا” ليوسف الخال ( 1916-1987). إلا أن هذا الاتجاه تكثف مع موجة الترجمة المحمومة في خمسينات القرن العشرين، وبتأثير الدعوة إلى “إثراء” الأدب العربي بالموروث الأسطوري بمختلف أنواعه، كتلك الدعوة التي تصدرت ترجمة كتاب “أدونيس” لجيمس فريزر على يد جبرا ابراهيم جبرا ( 1920-1994). وبتأثير الترجمات، ظهرت دعوات إلى استلهام التوراة بوصفها نموذجا “إبداعيا” يحتوي على ذخيرة من الحكم والأساطير والمواقف الإنسانية. فبدأنا نقرأ بدئا من الخمسينات إشارات إلى التوراة، كأن يقدم شاعر مثل أكرم الوتري (1930-2013) مجموعته الشعرية بسطرين من “نشيد الإنشاد” التوراتي:

ضعني وشما على يدك
وخاتما على قلبك
فالغيرة قاسية كالموت

ويكتب صلاح عبد الصبور (1931-1981) في مجموعته هذه السطور المستعارة من أجواء نشيد الإنشاد:

وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان

بعض النقاد وصف هذه المحاولات بالممارسات الشعرية الساذجة، وهي كذلك فعلا، بينما جرت الإشادة باستخدام آخر يبدو أنه هو الذي لقي قبولا واستحسانا وتشجيعا، أعني تبني الرؤية التوراتية لمصير الفرد والمجموع، بل ولمصير البشرية كلها، واستدخالها لتفسير الصراع في العالم، كما فعل الشاعر يوسف صايغ ( 1923-1971) بإفراط في مجموعاته الشعرية، فرأى في تشرده كفلسطيني، نتاج غضب الهي، تماما كما يقال عن تشرد اليهود في العالم، ورأى “منفاه” من نافذة “المنفى” التوراتي المزعوم .. وهكذا.
تقوم الرؤية التوراتية على فرضيات تعد في نظر المؤمنين بها من المسلمات هي التالية:
الأولى: أن الإنسان، هو الإنسان اليهودي حصراً، وغيره هم “الأغيار” الذين يشكلون في أسطورته دائما قوى الظلام والشر والشيطان، أو التخلف والبدائية واللاعقلانية بتعابير الصهيونية.
الثانية: أن هذا اليهودي هو الإنسان حصرا بسبب اتفاق عقده مع الهه يهوه رب الجنود .
الثالثة: أن هذا الاتفاق يشكل صلب التاريخ، معناه ومقصده النهائي، بالنسبة لكل الكائنات، والإخلال به أو الوفاء به هو محور حركة تاريخ العالم.
في ضوء هذه الفرضيات لا يبدو الصراع التاريخي بشريا بالمعنى الذي تفهمه به كل الحضارات، بل هو تارة صراع بين ” الإنسان ” و” الهه ” وتارة بين ” الإنسان ” والأغيار ” حول تنفيذ هذا الاتفاق. وسنجد انعكاس هذا في شعر شاعر مثل توفيق صايغ في نظرته إلى واقعه. إنه يحول مشكلة “الغربة ” عن وطنه بفعل حركة استعمارية إلى “اغتراب” عن الآلهة، وليس عن الأرض، ويحول مشكلة الصراع مع قوى العدوان والهيمنة إلى مشكلة صراع مع مقاصد الآلهة، وهذه هي ذاتها فرضيات التوراة حرفيا، ومن هنا نفهم هذا الخطاب الذي يوجهه صايغ:

هلم نتحاسب
نخط الصغيرة والكبيرة
في الدفتر السميك
ونصفع الوجه به
مجهزا كفتي الميزان

ويستعير خليل حاوي ( 1919-1982) قصة سدوم وعمورة في مجموعة نهر الرماد ليعي ويفهم ويجرب التجربة العربية الراهنة:

ودوت جلجلة الرعد
نشطت جمرا وكبريتا وملحا وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم
أحرق القرية عرّاها
طوى القتلى ومرّا
عبرتنا محنة النار
عبرنا هولها قبرا فقبرا

كانت الخطيئة الأصلية جوهر هذه الرؤى الشعرية، ولكن خطيئة أمثال هذه الرؤى شعريا هو أنها حاولت تفسير التاريخ بالأسطورة، واستبدال الدراما البشرية بدراما من نوع آخر مطلقة في الزمان والمكان، وهنا تلتقي مع الرؤيا التوراتية. ولعل القليلين لمسوا ما تعنيه حقيقة هذه السطور من قصيدة للشاعر محمود درويش ( 1941-2008):

وبيروت اختبار الله
جرّبناك .. جربناكْ
من أعطاك هذا اللغز؟
من سمّاكَ
من أعلاكَ فوق جراحنا ليراكْ
فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار

والمتابع للموروث التوراتي يستطيع أن يكتشف أصل فكرة هذا “الإختبار” من دون بذل جهد كبير، فهذا الاستحضار، كما تصوره هذه السطور وسطور خليل حاوي وسطور توفيق صايغ، للذات الإلهية سمة خاصة من سمات الرؤية التوراتية. ولكن إذا كانت هذه الخصوصية تستمد معناها من الاتفاق الذي أشرنا إليه بين اليهودي الذي أعطي وفق الأسطورة أن يكون “مختارا”، وألزم اختياره يهوه بأن لا يتركه طعمة للأغيار الأشرار، فإن تبني الشاعر لهذه الخصوصية في الرؤيا تبدو فكاهة سوداء خشنة، ويبدو إلصاقها بتجربة الفلسطيني أو المقاومة العربية إذا أردنا التوسع، شاذاً، لأنها مقاومة تجري لدحر مثل هذه الأسطورة بالذات.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *