أرضٌ تزرعها الذاكرة ويحصدها القتل


*أدونيس


ـ 1 ـ
كلّا، لا أطلب من أيّ عربيّ أن يتأمّل أو يحلِّل. ولا أريد منه أيَّ جواب.
أرجو منه، حصراً، أن يتكرّم بالنظر، مجرّد النّظر إلى الجغرافيا العربية وإلى خرائطها،
مجرّد النّظر إلى «الشُّهُب» التي تنهمر عليها من جميع الجهات، من داخلٍ وخارج، من أسفل وأعلى،
مجرّد النّظر إلى «جسمها» كيف يُركَلُ ويُهانُ ويُقَطَّع،
كلّا لا أطلبُ إلّا أن يَطرحَ كلٌّ منهم على نفسه هذا السؤال:
مَنْ أنا – مَنْ نحن؟
ـ 2 ـ
إنّها حقّاً حُمّى التلوُّث تتغلغلُ في جسد كوكبنا.
يتّحِد ضدَّ هذا الجسد تلوُّثُ الطّبيعة وتلوُّث الإنسان:
داءٌ – هل سيكون له دواءٌ؟ متى وكيف؟
إلى ذلك الوقت، سيظلُّ رأسُ الزّمَن يلتهمُ كبِدَ المكان.
رأسٌ يتقلّبُ على عرشه في كرةٍ ملتهبةٍ – كرةٍ من
النّفط والغاز وبقيّة المعادن.
ـ 3 ـ
هل أصبحت الأرض مجرّدَ مسرحٍ لعرضِ الأكاذيب والافتراءات، من كلّ نوع؟
ولماذا يبدو الفكرُ والعمل على هذا المسرح مجرّدَ أداةٍ للتّمويه، أو مجرّد استراتيجيةٍ تبدو فيها الكلمات كأنّها مجرّد أسلحةٍ من كلِّ نوع، هي أيضاً؟
ولماذا يبدو البشرُ مجرّد «موظَّفين» و «مُستَخدَمين»،
ويبدو الإنسانُ الفردُ كأنّه مجرّد نفْيٍ «للإنسان»؟
وما هذا العقلُ السّائد الذي لا يبَشِّر إلّا بالسّلام فيما لا يُهَيِّئ ولا يمارِس إلّا الحرب؟
ـ 4 ـ
كلُّ ما يدورُ في العالم السّياسيّ، على المستوى الكونيّ، يؤكِّد أنّ حقيقة السياسة تمحو سياسةَ الحقيقة،
أنّ الثّقافة السّائدة ليست إلّا أزهاراً ذابلةً يندلِقُ عليها بين وقتٍ وآخر ماءُ السّماء،
أنّها تختزِل الإنسان في السلطة، والوجودَ في الاستهلاك، والموتَ في القَتْل.
ـ 5 ـ
يجلسُ ليلُ هذا التّلوُّث على كرسيٍّ ذهبيّ.
لا تُنازعُه الأعالي.
لا يُنازِعُه أيُّ سلطان.
والكواكِبُ جميعاً تُبايِعُه.
الحربُ واقفةٌ على بابِ هذا اللّيل.
بعضُهم يطالِب أهلَها وأصدقاءَها بأن يميِّزوا بين بيوتِ البشر وأقفاصِ الأرانب، لكن من دون أن يتجرّأوا على المطالبة بإيقاف الحرب نفسها.
بعضهم ينزَوي عارفاً أنّ صوتَه سيكون موضِعَ سُخريةٍ، في الأقلّ الأقلّ.
ينزوي، يحاول أن يصطادَ النّجومَ كمثلِ أصدقائه، بشبكةٍ عالية من أحلامه ويقول لهم ضاحكاً: إنْ شئتُم أن تفهموا عقلَ هذا العالم، فليس لكم إلّا أن تُمارِسوا اللعِبَ الحرَّ مع الكلمات.
بعضُهم في حربه على هذه الحرب، يقدر أن يجمع بين الجنّة
والجحيم في حرفٍ واحد، غير أنّه لا يقدرُ أن يجمع بين قلبه وعقله في كتبٍ كثيرة.
وما أشقى بعضهم، وهم الأكثرُ عدداً: كلٌّ منهم يخدع حتّى يديه وقدَميه، ويغشُّ حتّى عينيه.
ـ 6 ـ
مائدةُ العقائدِ باذخةٌ في هذا الليل.
بعضُ ضيوفها ملاعقُ. مجرد ملاعقَ،
يقفز الذّكرُ حول هذه المائدة كمثلِ أيِّلٍ في غابة،
أمّا الأنثى فتبدو كأنها سمكةٌ في بحيرةٍ تكادُ أن تجفّ.
ومن جميع الجهات،
تطوِّق هذه المائدةَ ذاكرةٌ تجيِّش الحرائق. تحمل على ظَهْرِها حطبَ اللغة وتقود أمامها قوافلَ الورق.
ويبدو أنّ الشهيَّةَ عارِمةٌ جدّاً.
بين هؤلاء الضّيوف شخصٌ قيل عنه:
كانت جيوبُه فارغةً إلّا جيباً واحداً تختبئ فيه لائحةٌ بالرّؤوس التي قُطِعَت أو سُبِيَتْ وبتلك التي ستُقطَع أو تُسبى…
سيفُ ظُلمةٍ يقطعُ رأسَ المعنى.
مع ذلك، ليس في المستقبل إلّا ما يخَيِّب آمال الماضي، يصرخ بعضُهم، بعيداً عن المائدة.
ورأيتُ معــظَمَهم يتنافــسون في التحلُّق حولَه.
همسَ شاهدٌ مُشيراً إليه:
إنّه يَزْدَرِدُ رأساً، لا أعرف إنْ كان رأسَ طفلٍ أو شيخٍ، ذكرٍ
أو أنثى. ثمّ أضاف قائلاً:
لهذا الحاضر أضراسٌ قاطعة.
ـ 8 ـ
سافر الضّيوفُ كلٌّ إلى بلاده. كَثُرَت الرّواياتُ والإشاعاتُ عنهم. سأختار للقارئ بعض الإشاعات التي سمعتُها من أصدقاء كثيرين.
1 ـ الإشاعة الأولى:
سأل أحد الضّيوف جارَه سؤالاً هو التّالي:
لماذا أخذ العربيّ، اليوم، يعتقد أنّه ليس عربيّاً حقّاً، شأنَ آخرين في شعوب أخرى، يثورون على هويّاتهم ويتبرّأون منها؟ أويعتقد أنّ لسانه هو، وحده، العربيّ، أمّا بقيّة أعضائه فتنتمي إلى بلدانٍ أخرى.
لكنّ من المؤسف أنّ هذا السؤال بقي بلا جواب.
2 . الإشاعة الثانية:
روى ضيفٌ لجاره هذه الحكاية:
اقتحموا بيته. رأوا فيه صندوقاً جميلاً مُقفَلاً بإحكام. كسروه وفتحوه. رأوا فيه كرةً ذهبيّةً لها شكلُ رأسٍ أنثويٍّ جميل.
ـ «هل أقطعه – هل أكسر الكرة لكي أرى ما في داخلها.
ماذا أفعل؟» سأل القائدُ الأدنى قائدَه الأعلى.
ـ «هاتِ الكرةَ سالِمةً، لا خدوشَ فيها»؛ أجاب القائدُ الأعلى.
3 ـ الإشاعةُ الثالثة:
تابَعَ الضّيفُ نفسُه، قائلاً إنّهم رأوا في البيت نفسه وصيّةً جاء فيها:
«أُفضِّل أن أُحسِنَ إلى الحيوانات وحدها. هكذا قرّرْتُ
ألّا أُورِّثَ إلّا بعضَ الكلابِ وبعضَ القطط.»
ـ 9 ـ
ما تكونُ حربُك على هذا التلوُّث الشّامل، أيّها الشعر؟
ما قولُك في سماءٍ تتبارى في نَفْيِ بعضها بَعْضاً؟
ما قولُك في بشرٍ يتنافسون في ذَبْحِ تمثال؟
ما رأيك في بشرٍ يصدِّقون أقماراً تدورُ في أكياسٍ من الورق، حول جثثٍ من الكلمات؟
كيف تتخيّلُ جرسَ الحكمة يُقرَع في رأس عنكبوتٍ أكَلَتْه عشيقتُه؟
وعندما ترى بأمّ عينك أرنباً له ذيلُ طاووس، وكركدَنّاً يحتضنُ غزالةً،
هل تصمت، أم تنطق؟
ـ 10 ـ
زمن التلوُّث يتقدّم في حَشْدٍ من الظّلُمات، بلا حدود،
البحارُ والمحيطاتُ تتأوّه، والفضاءُ يُعلِن الحِداد.
________
*الحياة

شاهد أيضاً

حداد النوارس

(ثقافات) حداد النوارس مالكة حبرشيد كل الرفاق ماتوا … قبل أن يكملوا أداء النشيد الوطني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *