*د.شهلا العجيلي
عبارة سمعتها في فيلم إيطاليّ، ولم أقاوم رغبتي في أن أزجّ بها في هذا المقال!
أحبّ الأفلام الإيطاليّة، فهي قريبة منّا، وبعيدة عن الادّعاء. في بداية العرض، استذكر منسّق الفعاليّة ضحايا اعتداء مسرح (الباتاكلون) فيباريس، وقال إنّهم كانوا مثلنا، إذ جاؤوا إلى مسرح كهذا، ليحتفلوا بالفنّ والحياة. في الحقيقة لم يكن ثمّة داع ليستعيد الواقعة، فقد كنت أفكّر طوال الطريق بخطورة التجمّعات، ولم تكن تلك المرّة الأولى التي يتسلّل إليّ القلق فيها، فأحبّذ العودة، لكنّني لا أفعل، وأحسب إقدامي في المضيّ نوعاً من المقاومة. تابعت أيضاً تأبين ضحايا باريس منذ أيّام، كان أنيقاً ومؤثّراً كما هي باريس: نساء جميلات أدّين أغنيات لها وقعها في الذاكرة الجمعيّة مع عزف رفيق، وكانت الأغنية الأولىلجاك بريل. أحبّ هذا المغنّي حتّى إنّني كتبت عنه في روايتي الأخيرة! تقول الأغنية التي ترجع إلى نمط التروبادور: “عندما لا نملك غير الحبّ لنتشاركه في رحلتنا العظيمة، فنؤثّثها بالروائع، ونجعل ضياء الشمس يغطّي قبح الضواحي…”.
عُرضت صور الضحايا المئة والثلاثين، وهم يبتسمون على شاشة كبيرة، وتليت أسماؤهم، ولاشكّ في أنّنا سنتساءل عن حجم الشاشة التي ستتسع لصورنا، وعن الوقت المتاح ليسمع أحد أسماء ضحايانا، او يفكّر في انّهم ابتسموا يوماً…
فيما عدا أنّ الموت يتشابه في كونه مأساة فرديّة، يختلف في كونه مأساة جماعّة، إذ قال الرئيس الفرنسيّ فرانسوا أولاند في خطاب التأبين: “بعد دفن الموتى، سنساعد الأحياء!”.
النساء يتعاملن مع الموت بطريقة مختلفة، يبكين بانفعال حرّ، وقد يلجأن إلى الغناء، والكتابة، ويتخذن تدابير فوريّة للعناية بمستقبل العائلة. في متحف (فيكتوريا آند ألبرت) في لندن ثمّة تمثال لافت لمحارب يتمدّد في نعشه، وعند قدميه امرأة تقرأ في كتاب!
الفيلم الإيطالي الذي استعرت منه عنواني، عنوانه “MIA MADRE”، أي “أمّي”، من إنتاج 2015، وقد ترشّح للسعفة الذهبيّة في (كان)، ونال جائزة لجنة التحكيم، وهو للمخرج ناني موريتي، الذي مثّل فيه دور الأخ الوحيد للبطلة، التي تعمل مخرجة أفلام، حيث يعتنيان بأمّهما المريضة في أيّامها الأخيرة، والتي كانت معلّمة للّغة اللاتينيّة، فيكتشفا ما غاب عنهما، أو ما غيّبته انشغالاتهما اليوميّة، من شخصيّتها المعطاء والمحبّبة من خلال أصدقائها وطلبتها الذين كانوا يتوافدون لزيارتها خلال مرضها ومن ثمّ في مناسبة عزائها.
حينما أُضيئت القاعة بعد كلمة (النهاية)، وجدت دموعاً في عيون كثير من الحاضرين، إذ لاشكّ في أنّ خسارات الأشخاص حتّى لو كانوا على شاشة جزء من خساراتنا الشخصيّة، لكنّني خرجت منذ وقت ليس بالطويل من قلب الشخصيّات لأكون إلى جانبها، ويمكنّني أن أعدّ ذلك انتصاراً شخصيّاً أيضاً. في الحقيقة يصير التماهي مع الآخرين مرهقاً، ولم يعد لديّ طاقة لأفعل ذلك، وهذا ما تطلبه بطلة الفيلم المخرجة من الممثّلين، إذ تقول لكلّ منهم: أريدك أن تكون إلى جانب الشخصيّة! ثمّ تشكو من أنّ الممثلين لا يفهمون طلبها، حتّى أنّها تشكّ في كونها تفهم عبارتها تماماً، ممّا أثار ضحك الجمهور.
كنت قد تماهيت وقتاً طويلاً مع أفكار عالمة الاجتماع المغربيّة الدكتورة فاطمة المرنيسي، التي أعدّها واحدة من أمّهاتي الثقافيّات، وقبل وصولي إلى عرض الفيلم علمت برحيلها! فاطمة المرنيسي أتاحت لي فرصاً جوهريّة في إعادة قراءة النصوص والتاريخ المبنيّ عليها بطريقة واقعيّة، بعيداً عن الفانتازيا وتهويمات الانفعال، وبعيداً أيضاً عن العدوانيّة. المرنيسي التي رحلت عن خمسة وسبعين عاماً، امتلكت مقدرة استثنائيّة في تفكيك المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من منظار أنثويّ لا تشكّل النسويّة فيه أكثر من زاوية، وهي صاحبة مؤلّفات في غاية الأهميّة من مثل: “الحريم السياسيّ”، و”العابرة مكسورة الجناح”، و”شهرزاد ليست مغربيّة”، و”ماوراء الحجاب”… لقد تماهيت في مرحلة ما مع حساسيّتها حدّ الهلع، لكنّني استجبت لاحقاً لطلب المخرجة الإيطاليّة، فوقفت إلى جانب الشخصيّة، لأقول لها: وداعاً يا أمّي!
________
*عمّان.نت