*أمير تاج السر
منذ فترة سألني أحد الأصدقاء الذين لا علاقة لهم بالكتابة، ولكن يتابعون من بعيد، عن أفضل الساعات التي يمكن أن يجلس فيها الكاتب ليؤلف نصوصه؟ وما هو عدد الساعات المناسب للكتابة في العادة، وهل كتابة أعمال متتابعة، وباستمرار، أمر حيوي أم يضعف مستوى الكتابة؟
حقيقة هذه كلها أسئلة مشروعة، ومتوقعة ما دامت هناك كتابة وقراءة، وما دام ثمة مصطلح مثل: الطقوس، أصبح منتشرا ومعروفا، وتكتب عنه استطلاعات الرأي، في الصحف، باستمرار.
بالنسبة لعدد ساعات الكتابة، فلا أحد يستطيع أن يحدد بدقة، كم ساعة تستحق الكتابة في اليوم؟ كم ساعة يستحق اللغو؟ وتستحق الثرثرة، وأشياء أخرى لها أو ليس لها علاقة بالإبداع؟ فالممارسة الكتابية مثلها مثل أي نشاط، تعتمد على اللياقة التي يتمتع بها المؤلف، وهي التي تحدد عدد الساعات التي يمكنه أن يجلسها لينجز شيئا. اللياقة هنا ذهنية، واللياقة الذهنية في مفهومي الخاص، هي الفراغ من كل مشاغل الحياة الأخرى، مثل مستلزمات الأسر من أكل وشرب وأنابيب للغاز وفواتير متنوعة، وأعباء أخرى بلا حصر، خاصة في عالمنا العربي، حيث الحياة في معظم الدول، لا يمكن أن تسير بطبيعية، ولا يمكن الاعتماد على وجود الوقت، فغالبا ما يأتي طارئ ليسرقه، وتأتي مشكلة معقدة تبعد الذهن إن صفا بالفعل، عن صفائه.
حين كنت أقيم في مدينة بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر، وأعمل في المستشفى هناك، كانت لدي رغبة كبيرة أن أكتب شيئا عن معاناتي اليومية، أكتب رواية حقيقية بدلا من تلك الصغيرة الحجم التي أنجزتها في مصر، قبل تخرجي بعام، وأيضا أكتب الشعر، خاصة أن عشرات المواقف مرت بي وكانت بحاجة لقصائد، مرت مهرجانات كثيرة للشعر، كان يتذكرني فيها زملاء بدأت معهم، ثم ذهبت وعدت لا أملك سوى قصائد قديمة، لا أستطيع أن أزهو بها أو أقرأها على الملأ من شدة تعقيدها. أتذكر أنني أحضرت ورقا كثيرا وأقلاما كثيرة، واخترعت لي ركنا جامدا وبعيدا، في بيت والدي، لا تصل إليه الضوضاء، وبدأت أكتب، بعد انتهاء يوم عملي الرسمي، لكن وبعد يومين فقط وكتابة صفحتين، لا أكثر، تعرف المرضى من الجيران على ركني الخفي داخل البيت فأعادوني قسرا إلى الكشف المجاني، وإعطاء الحقن، وتركيب محاليل التغذية لفاقدي السوائل، وكان أن طارت الرواية من رأسي تماما، ولم تعد إلى الآن. كان ثمة جدل كبير بيني وبين والدي في تلك الأيام، أقول إنني أحتاج لوقت خاص أنجز فيه شيئا من الكتابة، التي أحبها رغما عني، وهو يعرف ذلك تماما، ويقول والدي التقليدي، الطيب القلب، إن لا وقت للطبيب سوى أن يطبب الآخرين، وأنه علمني لذلك.
كانت هذه لمحة سريعة، لممارسي وجع الكتابة في العالم الثالث، حيث الوظيفة الرسمية، التي تأتي بأجر ثابت وجيد، أهم من أي إبداع، والأهل حتى لو كانوا مشجعين للإبداع، ومساندين، في أوقات كثيرة، لا يقفون كمتفرجين حين يحتاج أحد إلى الوظيفة الأخرى الرسمية للكاتب. وقد كان أحد أصدقائي في المدينة نفسها، متيما بالشعر، ويعشق حفظه، وكتابته وإلقاءه على الناس بصفة مزمنة، لدرجة أنه تعرض مرارا للاستفزاز، والضرب بالعصا، من جراء هجائه الشعري لممارسي العادات الضارة، في قصائد كان يقتحم بها الحفلات العامة والخاصة. هذا الشاعر الذي كان مسؤولا في إدارة الكهرباء، لم يكن يترك له استدعاؤه كلما حدث عطل في بلد كثيرة أعطال الكهرباء وقتا لكتابة الشعر، كان يبدأ القصيدة ويتركها بداية، ليعود ويحاول إكمالها في آخر الليل، وغالبا لا يستطيع لأن الشعر كما هو معروف، دفقة شعورية واحدة وكاملة، إما سكبت ما لديها من جمال وإما فرت ولا يعثر عليها الشاعر بسهولة.
بالنسبة لوقت الكتابة، أي الوقت الذي تكون فيه الجراثيم المحركة لمرض الكتابة في أوج نشاطها، وقد تتغلب على كل الظروف وتصنع نصوصا، فهذا يختلف كثيرا، ولو سألنا الكتاب والشعراء على امتداد الوطن العربي لعثرنا على ساعات معينة عند كل واحد. ساعات نهارية عند البعض وليلية عند البعض الآخر، في لحظة اكتمال القمر بدرا أو لحظة ضموره، وإظلامه، حين يتوقف المبدع بسيارته عند إشارة المرور، وتكون الورقة والقلم جاهزين، أو أثناء حفل عشاء يكون مدعوا له، ويتململ في جلسته، يتعجل الانصراف لينفرد بشياطينه ويكتب.
لقد تقصيت عن كثيرين في تلك المعمعة، وسعدت جدا حين عرفت أن غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ، وكلاهما علم في بلاده، ومتمكن في عالمه الخاص الذي صنعه، مثلي تماما، يكتبان نهارا ولساعات محددة، قبل أن يتفرغا لأمور الحياة الأخرى.
كان أحد أصدقائي من محبي رياضة المشي لمسافات طويلة، ولم يكن مبدعا أصلا، إلى أن داهمته قصة قصيرة، ذات يوم، أثناء تجواله في الشوارع، فأخذ يردد مفرداتها وقطع جولته في ذلك اليوم، وعاد ليكتبها ويعرضها علي، وكانت قصة جيدة.
منذ ذلك التاريخ، أصبح الرجل، كاتبا أثناء المشي، يهرول لنصف ساعة، وهو يؤلف القصص، ثم يجلس في أي ركن أو ناصية أو دكة في الطريق ليكتبها على الورق. معظم جراثيم الكتابة تأتي في الليل كما هو متوقع، ولو سألت أحدهم، أي أحد أولئك الذين ينفقون الليل وهم سهرانون، يكتبون ويمحون، ويتشنجون، لماذا الليل بالذات، فلن يعرف. أظن الأمر جزءا من فكرة الإبداع نفسها، والاعتقاد بأنها فكرة ليلية، وليست نهارية، تماما مثل فكرة حفلات الأعراس التي تبدأ بعد منتصف الليل، وحتى وهي تبدأ في ذلك التوقيت، تجد من يأتي إليها متأخرا، على مشارف الفجر. لقد ربطت بين فكرة ولادة النصوص في الليل وولادة الأطفال في الليل، ووجدت ثمة تقاربا، فمعظم الولادات العادية، أي التي بلا تدخل جراحي، تكون غالبا في الليل، وكنت أيام عملي في قسم التوليد بمستشفى بورتسودان، كنائب للأخصائي ومسؤول عن غرفة الولادة، آتي في بداية الليل وأجلس مع الطبيب المناوب تحسبا لتعقد الحالات، وفي الفترة التي أجلسها، أشاهد أربعة أو خمسة وجوه جديدة، طرقت باب الحياة، بعكس النهار الذي غالبا ما تكون غرفة الولادة فيه بلا زبائن.
الأسئلة تتكرر كثيرا، والأجوبة تتكرر بلا شك وما ذكرته اليوم، من المؤكد أنني ذكرت بعضا منه، في حوار ما، لكن دائما هناك من يسأل، وأعتقد أنني ملزم بتوضيح مسألة كتابة أعمال متتالية في زمن متقارب، وإن كانت في صالح الكتابة، أم في غير صالحها؟
أعتقد وهذا رأي أعتمده في حياتي، أن الكاتب ينتج في الوقت الذي يجد نفسه فيه قادرا على الإنتاج: نصا.. نصين.. عشرة نصوص، لا يهم، صدرت النصوص في العام نفسه، أو تفصل بينها أعوام، لا يهم أيضا، المهم هو أنها كتبت وعلى القارئ أن يحترم صدورها والمعاناة التي كتبت بها، ولا يستسهل القول الذي لا أحبه: هذا الكاتب متعجل للنشر.
هذا ليس من أخلاق القراءة، التي تحترم من يكتب يوميا بنشاط ومن يكتب كل عام، بنشاط نسبي، ومن يكتب كل خمسة أعوام بكسل.. الكاتب لا يلزم القارئ بالإسراع أو الإبطاء في القراءة، فهذا شأن شديد الخصوصية.
_________
*القدس العربي