الدولة تُمَيِّز وتتأسلم


زُلَيْخَة أبوريشة


أيُّ وثيقة تصدرُ عن الدولة هي موقفٌ يعبِّرُ عنها من (راسها لأساسها). ولذا فإنَّ البوستر الذي نُشرَ بخصوص التعداد السكانيّ (سنغفلُ الملاحظات التقنية والفنية التي تُعيقُ جعلَه وسيلةً نافعة للهدف المعلَن)، يحتوي على موقفيْن أيدولوجيَّيْن غريبين لا يمكن أن يمرّا دون التلبُّثِ عندهما وفضحهما على ملأ.
الأول: توجيه الخطاب إلى الذكور دون الإناث “أخي المواطن أخي المقيم” دون أدنى ذكر لأختي المواطنة ولأختي المقيمة! حيث استنتج المواطنون والمواطنات على وسائل التواصل الاجتماعيّ- ساخرين- أنَّ الذكور هم فقط المعنيّين بالتعداد، وأن النساء يستطعن الخروج في شطحات في أرجاء الوطن الحنون. ولا يقولنَّ أحدٌ في مؤسَّسة الإحصاء أو في وزارة التخطيط إن المقصود بكلمة “مواطن” المواطِنةُ أيضاً، فتلك سذاجةٌ لغويّةٌ تجاوزناها منذ نادينا بالإفصاحِ عن التأنيث وحذَّرْنا من مغبّة محوه في الوثيقة الرسميّة والخطاب الرسميّ وغير الرسميّ، واعتبرنا هذا المحو اللغوي تمييزاً فاضحاً ضدَّ النساء. فمن قبل كتابنا “اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسويّة” الذي صدر عام 1996، وفيه، وبعده، كم لفتنا إلى ما يعنيه توجيه الخطاب إلى الذكور فحسب، من إقصاءٍ أيدولوجيٍّ للمرأة من الحياة العامة، وحبسها في مهمات نمطيّةٍ خارج المهمات الوطنية والإنسانية الملقاة على عاتق كلٍّ من النساء والرجال لبناء المجتمع، وتحديثِ رؤاه. وسأزعم أننا أضفنا إلى القاموس الأدبيّ والصحافيّ في الأردن مصطلحاً جديداً شاع، كان نحَتَه قبلي وصكَّه المفكرُ السوريُّ أبوعلي ياسين، وأقصد به مصطلح “الجنسوية” الذي يعني التمييز بين الناس على أساس الجنس.
كل ذلك لأقول إن الدولة لا تستطيعُ بعد اليوم أن تتجاهل في وثائقها وفي خطابها النساء أو التأنيث، وإلا كان جهادُ المرأة لنيل حقوقها وتحقيق ذاتها لا يقابلهُ من الدولة إلا النكران، ويجعل من جميع طنطناتها عن وضع المرأة وإنجازاتها في الأردن محضَ ادعاءات وأمنيات كاذبة.
أما الموقف الأيدولوجيّ الثاني المعيب في البوستر الحكوميّ فهو القول بأنَّ “المشاركة في التعداد واجب وطنيٌّ ودينيّ”!! ويستطيعُ أيُّ عاقل وعاقلة أن يريا ما في هذه العبارة من رياءٍ، ليس فقط أنه لا يليقُ بدولةٍ تحترمُ نفسها، بل لا يليقُ حتى بدعاية انتخابيّة لنائب أو نائبة محترمين. فبالإضافة إلى البعد الفقهيّ المزيّف للعبارة، فإنها جملة تعبّر عن محاولة الموقف الرسميّ استعمالَ الدين سياسيّاً ونفعياً وبراجماتيّاً مثل أي فريقٍ إخوانيٍّ أو سلفيٍّ متأسلم. بل إنها تزايد عليهم في لهاثهم لخلق غمامةٍ ثقيلةٍ تحجبُ عن الناسِ النظرَ الى الواقع والتعامل معه. بل إنها تدخل مع هؤلاء الذين جلبوا إلينا وإلى الإنسانية العار والدمار، مباراةً لتأكيد أن يحكمنا التفسيرُ الدينيّ الأحاديّ، وأن يتدخَّل في أبسط شؤوننا الدنيويّة المحضة. وإلا ما علاقة الدين بالتعداد السكاني؟ مثلما ما دخل الدين مثلاً في دروس العلوم البحتة في الكتاب المدرسيّ؟؟ إذ أن الدولة بمعناها الحكوميّ، تخرقُ ما نرفوه، بل توسِّعُ الخرقَ حتى يتّسعَ على الراتق! فهي إذ لا تبني بهذا مفهوم المواطنة والوطن، فمن سيبنيه إذن؟ 
ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ هذا الشعار الدينيّ المفتَعَل ليس سوى تنويعةٍ على تأجيج شعور طائفيٍّ لعين، يضربُ بعرضِ الحائط بالدستور الذي ينصُّ على أنَّ الأردنيين جميعاً سواء أمام القانون ولا يجوز التمييز بينهم على أساس الدين. فتتويج نموذج البيانات – الموجَّه إلى جميع المواطنات والمواطنين، مسلمين/ات ومسيحيين/ات- بآية قرآنية يسمحُ بعدد من التأويلات، التي ليس منها تأكيد اللحمة الوطنية وتوطيد السلام المجتمعي والمساواة بين الجميع. إنها أسلمةٌ صارخةٌ للخطاب الرسميّ، يولجنا في فحوى السؤال: هل نحن فعلاً نحارب الإرهابيَّ المتأسلم؟
دعونا لا نفقد الأمل…!
______
*الغد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *