سعيد الكفراوي
تسعفني الذاكرة الخوانة ـ أحيانا ـ بالبعيد الموغل… أما القريب، فالعوض على صاحب العوض فلقد هضمته الأيام، وهرسته بأضراسها كما علف الحيوان!!
وأنا واحد من المؤمنين القدامى، بأن الذاكرة توأم الخيال، وأنها الملاذ الأخير لرجل يسكن على جبل عالٍ، يطل على مدينة قديمة، وإن هذا الكهل الذي يسكن الجبل كلما خطا بين الخلايق شعر بأن أيامه المعاشه ليست صالحة لأن تكون – بالضرورة ـ ملاذه الأخير، ولا هي في الواقع فضاؤه الصالح لاستنشاق هواء نظيف.
صدقوني، فالدنيا في سنواتها الأخيرة باخت، واتسمت أحوالها بقلة القيمة!!
رحم الله الشاعر «آرنو دانييل» وأسكنه فسيح جناته، الذي قال يوما:
«أنا آرنو الذي يكدس الريح
ويصطاد الأرانب بالثور
ويسبح ضد التيار»
يشهد الله من عليائه، اننا كنا في زمن مضى نكدس الريح، ونحلم بالعاصفة، وننشد تلك الأناشيد التي نعزفها على أشواق الناس.
الآن نكدس خيباتنا في جرار نجلس بجانبها ونذرف الدموع.
تهبع الذاكرة الخادعة مثل جمل الحمول، وتضرب بالشوط في براري الأيام، وتغوص لأذنيها في بحر النسيان، وتخرج حاملة بعضا مما كان «ذات يوم»، وأنا أقف على شاطئها مثل مخبول مترقبا ما تأتي به الأيام.
والحكاية من أولها، انه في 19 نوفمبر من العام 1977 أخذ الرئيس المؤمن محمد أنور السادات طيارته موفياً بوعده للأخوة الصهاينة بزيارة القدس حتى يحل السلام على المنطقة، ومن ثم على العالم.
أتذكر تلك الأيام خطاب الرئيس في البرلمان المصري عندما قال بعالي الصوت «ستدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم إني مستعد للذهاب لبيتهم نفسه إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته».
يومها أنا قلت السادات يبلف كعادته، ولم أكن أصدق انه وسط هذا الإجرام الذي تمارسه الدولة اليهودية أن يدعي أحدهم ويفتح فمه ويقول انه سوف يزور إسرائيل!!
ولكنه، وبغرابة، قال انه سيفعلها وفعلها.
وشاهدت هبوطه من الطائرة على أرض فلسطين. خروجه، ووقوفه على السلم يرسل تحياته لأبناء العم في استقباله بربطه المعلم وسط الهوجه العبرية. رأيته يصافح كهنة الدولة، واندهشت حسرة عندما رأيته يصافح بيغن وغولدا مائير وموشي ديان وشارون. يوم فاصل بين الحقيقة والوهم!!
ضربتني حمى، وفارقني النوم. كنت أعمل في ذلك التاريخ محاسباً في بلد عربي. كانت شمس تلك البلاد لا تعرف الرحمة. وكنت أدور في الأزقة الضيقة وعيني في عين الشمس التي لها سطوة، وأمشي في ظل الجدران مثل أسير. خفت أن يطير عقلي.
كان عبء ما جرى، وأنا الغريب في بلد آخر مثل رحى على الصدر، حائراً لا أجد الأمان، أغرق في أسئلة بلا إجابات، وأحاول بالعافية انتزاع نفسي من سطوة حصار التاريخ وحوادثه، ذلك التاريخ الذي عشته تسحبنا أيامه على وجوهنا من غير رحمة.
رسالة إلى الرئيس
ضاع اليقين. وحياتك وما عشت من أجله تبعثره الآن ريح السموم.
في الفجر، وأنا جاحظ العين، مستلقٍ على سرير على قد الحال، في حجرة بلا مكيّف، لها مروحة في السقف، تطلق صوتا مثل استغاثة، هبطت على لا أعرف من أين؟
نزلت محكمة، وكاملة، مثل الوحي، كأنها الجنس المغلق، تشير ناحيتي بلا بلاغة، ولا علاقة لها بجهد آدمي آخر. ألقيت بالكامل، جاءت من مكان قصي يرتبط بمعنى السحر والخرافة والمنح والمعجزات. مثل نبتة في داخلها شجرة.
جلست على السرير بلا وعي، مخدراً، مستسلما لذلك الفيض الذي لا أعرف ينابيعه. كنت أحدق من النافذة على الليل الصحراوي. أتذكر قريتي البعيدة، وأبحث عبر مشاهدها عن النبرة التي سوف أبدأ بها الكتابة.
كانت قصة لا أعرف من أي العوالم هللت على؟!
كل ما أذكره أنني بدأت الكتابة «لأنه لما رأى الشمس تشرق من المغارب ونظرها تغرب في المشارق، أحس بالقيامة تقترب».
تتواتر الكتابة، طيعة، ومنفعلة، صاحية مثل ماء بئر، ثم معكرة بالطمي ورائحة نبات الشطآن، وهبة الريح في فضاء الأرياف.
وكلما أوغلت في النص استقام، والحدث يأتي غير عادي، ينسبح نفسه من غير بلاغة زائدة أو حشو، والإيقاع يحدد نبرة الصوت، فيما تتابع المشاهد.
كانت القصة تحمل حكاية الفلاح «مطاوع عبدالصبور أبو العزائم» الذي قام من منامه فرأى القيامة متجسدة في ما يجري من حوادث الأيام، فأخذ نفسه إلى مكتب التلغراف في المركز وأرسل للرئيس البرقية التالية «عندي من الأسرار الخطيرة ما يهم أمن الدولة وأمن الرئيس شخصياً ولا يمكن البوح به إلا لحضرتك».
وأرسل البرقية فورا إلى عنوان الرئيس في رياسة الجمهورية.
اسبوع ومر.
بعده انقلبت الدنيا، عاليها واطيها!
أتاري البرقية وصلت السادات شخصيا، واستلمها بذات نفسه.
وانفتحت على مطاوع أبواب الجحيم.
بدأ التحقيق معه من دوار العمدة في القرية حين جاء ضابط ليتأكد من المعلومات التي عند مطاوع، والتي تهم أمن الرئيس شخصياً، إلا أن مطاوع ثبت على موقفه وأخبر الضابط أنه لن يعترف بشيء إلا للسيد الرئيس بذات نفسه. وأخبر الضابط: إن مثل هذه الأمور لا بد أن تتم بينه وبين سيادته شخصياً بعدها شخط الضابط في وجه مطاوع وأخبره بأنه بيمثل شخص الرئيس في البلد وغصبا عن رقبة اللي خلفوك هاتقول اللي انت عارفه. ساعتها صرخ مطاوع بعالي الصوت ورد على الضابط: مش قايل.. ريّح روحك يا حضرة الضابط وبالله العظيم اللي هيضربني عصاية سوف أبلغ الرئيس بذات نفسه.
تحيّر الضابط ومضى وكتب تقريره، ومطاوع توجه لمكتب التلغراف وكتب برقيته التي تحمل ما حدث له مع الضابط.
ومثلما حدث مع الضابط، حدث الأمر نفسه مع المأمور، الذي أمر بوضع مطاوع في الحجز بعد أن ناله علقة ساخنة بمعرفة الشرطة في المركز وحين ضاق بالمأمور الأمر أطلق سراحه، وبالطريقة نفسها توجه مطاوع قبل أن يروح داره إلى مكتب التلغراف وأرسل برقيته «سجنوني يا سيادة الرئيس وعذبوني في سجن المركز لكي أقر بالأسرار التي تهم أمن الدولة وأمنكم».
بكت فهيمة زوجة مطاوع وأخبرته: أن البلد كلها بتتكلم على موضوعه وبيقولوا عليك يا مطاوع انك إخوان مسلمين، وراقد على مصيبة.
فز مطاوع وصرخ فيها: انشاء الله يقولوا شيوعي.. اهمدي يا وليه المعركة سخنت واللي يكون يكون.
ارسلوا مطاوع إلى محافظ الإقليم، والداخلية في العاصمة. ومطاوع صندوق مقفول بقفل من حديد. والبلد استيقظت على صرخة صباح:
«مطاوع أبو العزايم هيقابل الرئيس السادات يا رجاله»
واندهش الناس. وكثرت الأقاويل:
السادات خبط لزق والله ولا الحكايات يا مطاوع.
في الليل وتحت ضوء كهربايه جلس الخلق في لمة. ومطاوع على دكة عاليه.
مطالب الكفر واضحة لازما مطاوع يحملها للرئيس شخصيا «البلد عاوزه مدرسه: التعليم زي الميه والهوى، وانت سيد العارفين يا مطاوع» وآخر قال «ووحدة صحيه وجامع وسعر القطن في النازل والعيال خلصوا دراسة وقاعدين عواطليه. وبلغوا ان العدل غاب والأغنيا رجعوا تاني يمصوا دم الخلايق. وقل له: يا ريس الشكوى لغير الله مذلة والفقر حاطط على البلد ذي القضا المستعجل. ما انت مننا وعلينا وعارف كل حاجة يا مطاوع. كان صامتاً، منشغلاً، يفكر في ما لا يعلمه الناس، ويواجه بخياله ما هو قادم من الأيام. دخل من باب القصر الكبير، وأشرف على رواق من رخام أحمر. انتهى الرواق ومر على صالة في مساحة جرن واسع بلا شطآن صور الآغوات والبشوات وسيدات مثقلة صدورهن بالمصاغ الغالي الذي يبرق مثل عيونهن الملونة.
على كرسي تفصله مسافة خطوتين عن الرئيس، جلس مطاوع انتظر مقدار نصف ساعة ناوشه فيه الهم، وركبه ألف عفريت، دخل الرئيس، ونهض مطاوع، وألقى رئيس البلاد عليه السلام:
– ازيك يا مطاوع. أخبار بلدكم إيه؟ أنا على فكرة قرأت كل البرقيات اللي انت أرسلتها. ابتسم وواصل كلامه: أنت يا راجل شغلت الرأي العام. وصمت ثم حدجه بنظرة تعلب وقال: أيوه يا مطاوع: إيه بقى الأسرار اللي تهم أمني وأمن الدولة وعاوز تقولها لي؟
جف ريق مطاوع ولم يفتح عليه ربنا بكلمة. بلع ريقه الجاف وتلجلج. عالجه الريس قائلا: خلاص انت جيت وهنا لازم تتكلم.
واتكلم مطاوع:
– يا ريس أنا عاوز أقول لسيادتك إن جدي مات في حرب 48 وابن عمي مات في حرب 56 وابني حتى اللحظة دي معرفش إن كان عايش ولا ميت من أيام حرب 73.
قاطعة الريس:
– يشكروا يا ابني ماتوا في سبيل مصر. لكن ده ماله ومال موضوعنا؟ استجمع مطاوع عزمه وقال للرئيس:
– يا ريس أنا جاي أقول لك متصلحش اليهود يا ريس.. اليهود لأ. وغاب مطاوع، ومن يومها لا نعرف أين راح.
أنهيت القصة، ولقفت نفس. وبعد أيام راجعتها وتأكدت بأنها صالحة للتعبير عن اللحظة. فكرت في مكان نشرها. مصر… لا يمكن.. السادات عايش والأجهزة بعيون مفتحة. فكرت في مجلة واسعة الانتشار ولا أعرف لماذا حضرت مجلة «الحوادث» اللبنانية، وصاحبها طيب الذكر «سليم اللوزي» الذي كان يعاونه ذلك الحين في إنجاز المجلة أخونا في الله جلال كشك والرجل هو من هو: شيوعي وأخواني ووفدي وعلى كل ملة، والحسابة بتحسب!!
النص والفيلم
حسب علمي لم تنشر «الحوادث» على طول تاريخها نصا إبداعيا أبدا المهم توكلت على المولى وأرسلت القصة. أسبوعان، ووجدت النص منشوراً في «الحوادث» على حلقتين بتقديم وحفاوة من رئيس التحرير.
قرأ النص بوسع، وذاع صيته بين المثقفين والعامة، واستقبل الاستقبال الحسن، وخفت من رواجه وتأثيره، وأيامها أخبرني أحد النقاد البنياويين الثقاة، الذين كانوا يساعدون السيدة حرم الرئيس في دراستها حيث كان أحد اساتذتها في قسم عربي، أخبرني أنه رأى الرئيس يقرأ النص في إحدى زياراته للبيت وكان هائجاً مثل قط قفل على ذيله باب. وأخبرني في مكالمة هاتفية: إياك والعودة إلى مصر. استخرت الله، وضعت في البلاد سنوات حتى نفذ السر الألهي فى السادات بمعرفة الجماعة الإرهابية الجهاد فقابل وجه ربه مع الصديقين والشهداء، وعلى وجه السرعة.
كان في الوقت نفسه يقرأ النص المخرج العراقي «صاحب حداد» وبعد أن أحب النص تقدم به يطلب من مؤسسة الســينما العراقية إنتاجه كفيلم ضخم يقــاوم التطبــيع ويفتح أبواب الرزق لكل من عمــل به من فنانـين وغير فنانين.
أعد السيناريو «زهير الدجيلي»، وجمعوا كل الفنانين المصريين المغضوب عليهم والمنفيين والعاطلين عن العمل: كرم مطاوع وسهير المرشدي وسعد أردش، وحسن جنديه من المغرب وعبد الرحمن أبو زهرة وثناء شافع ومجموعات الكومبارس من العمالة الهاربة وأجراء اليومية الذين يحتلون العراق والعمل يجري بموافقة الرئيس المهيب ووزير إعلامه، والميديا تنقل أخبار الفيلم الذي سيجدد دماء الثورة ويهتف ضد التطبيع.
آخر النكت التي صاحبت هذا الفيلم عندما سألوا مخرجه رحمة الله عليه في حوار له بمجلة المجلة السعودية عن المؤلف الذي كتب القصة أجاب لا فض فوه: أنه كاتب كبير من مصر يكتب باسم مستعار هو سعيد الكفراوي!!! وخلص الفيلم من أوله لآخره.
——
السفير