الدولة الفلسـطينية: حُلُمٌ أم كابوس؟


بسـام أبو غزالـة*

( ثقافات )

إنها، باستقراء التاريخ، بدعة. لكنها بدعة استشرت بين الناس حتى قبضت على تفكيرهم وتردّدت على ألسنتهم، فعدُّوها تحصيلَ حاصلٍ لا جدلَ فيه. تلك هي الدولة الفلسطينية العتيدة. فهل هي بدعة ضلالة، أو أنها بدعةُ هدىً وهدفٌ وطنيّ يتوجّب علينا السعيُ الجادُّ إلى تحقيقه؟ مهما يكن من أمرها، فإنها من الأهمية بحيث تستوجب استقراءها لوضع اليد على بداياتها وعلى العوامل الحافزة لها، سواء في توليدها أو في استمرارها. ذلك أننا نرى فيها كثيرا من الوهم الساذج وخلطا بين الوطنية الصادقة والشعارات التضليلية، فتقال في مجالها كلمة حقّ يراد بها الباطل. وفي رأينا المتواضع إن مسألة الدولة الفلسطينية كما تطرح حاليا، سواء بنيّة صادقة أو خبيثة، مسألة خطيرة للغاية، وإنّ فكرة هذه الدولة قضيّة حيوية، لا للعرب الفلسطينيين وحدهم، بل للأمة كلها. ونعتنا لها بالحيوية لا يُقصد به الانحياز لها ولا ضدها. ومرجعنا المبدئيّ في هذه المسألة أن الخطيئة الكبرى تكمن في إقامة دولة، إن أفرحت البسطاء منا فقد تكون الغايةُ الخبيثةُ منها حرمانَ عرب فلسطين من حقهم المطلق في كامل تراب وطنهم، وحرمانَ اللاجئين منهم، أولئك الذين اقتُلعوا من ديارهم بحد السيف، من حقهم المطلق في العودة إلى وطنهم، بل إلى بيوتهم التي أخرجوا منها. وإذا كان ثمة من يعوّضهم، فبزخرف عارض تروّج له (أ) أنظمةٌ عربية غير مؤهلة للقيادة، أو (ب) تنظيماتٌ أعطاها الشعب الشرعيّة على أساس تحرير الوطن، ثمّ ملّ أصحابها الكفاح، أو لعلهم كانوا أصلا كاذبين في شعاراتهم التي التفّ حولها جمهورهم من الشعب، ففقدوا بالضرورة تلك الشرعية، أو (ج) خونةٌ يعلمون يقينا أنهم يدسون لشعبهم السمّ في وهم الدسم. مثل هذه الدولة يجب رفضُها، بل تجب محاربتُها.
والحقيقة أن فكرة الدولة الفلسطينية قد وُلدت من العدم، ونمت في أذهان الناس، سواء منهم الفلسطينيون أو بقية العرب، حتى تكادَ اليوم تكون من المحرّمات التي لا يجرؤ المرء على مناقشتها أمام منابر الغوغائية. وقد يسأل سائل كيف لهذه الفكرة أن تولد من عدم، ثمّ تتحوّل مطلبا مقدسا يُرمَى بالزندقة من يناقشه؟ ونحن هنا نسأل بدورنا أكان أفضلَ لو بقيت فكرة الدولة نسيا منسيا، أم أن توليدها ورعايتها ثمّ تجسيدها في دولة مستقلة ذات سيادة، كبقية الدول القطرية العربية، هو الأفضلُ الذي يجب اتباعه؟ هنا لا بدّ لنا من العودة سريعا إلى حقائق تاريخية عن القضية الفلسطينية، ثمّ، على هدي تلك الحقائق، نحاول سبر أغوار الحمّى التي واكبت هذه الفكرة اليوم. وفي استقرائنا لتاريخ القضية نرى أن نقسمه إلى مراحل أربع:

المرحلة الأولى (1897-1948):

يعرف دارسو تاريخ القضية الفلسطينية أنها بدأت عمليا بمطامع السكناج (يهود أوربا) بفلسطين، حين عبّر عن تلك المطامع بوضوح المؤتمر الصهيوني الأوّل الذي انعقد في مدينة بازل، في سويسرا، عام 1897، يوم أعلن العزم على إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، بحيث لا يقيم في ذلك الوطن/الدولة إلا اليهود. فتكون هذه الدولة يهودية، كما أن إنكلترا إنكليزية، حسب تعبير حاييم وايزمان، أول رئيس لتلك الدولة الصهيونية، المسماة إسرائيل. كانت تلك هي البدايةَ النظريةَ لإقامة الدولة الصهيونية. أما البداية العملية فقد كانت غداة انتصر الحلفاء على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، فقوّضوا دولتهم وغنموا البلاد الواقعة تحت سيطرتهم، ومنها سورية الطبيعية، حيث غنمت فرنسا الجزء الشماليّ من سورية، وغنمت بريطانيا الجزء الجنوبي منها، حسب معاهدة سايكس-بيكو. ولقد تبنى البريطانيون فكرة إقامة دولةٍ لليهود في فلسطين حين رأوا بعين خبيثة ثاقبة أن إقامة دولة غريبة في خاصرة الوطن العربي من شأنها أن تجعل منها سرطانا يفتت قوى الأمة العربية، حائلا بينها وبين الاستقرار والوحدة، المؤديين بالضرورة إلى التنمية والقوة. وسوف تساعد هذه الدولة الصهيونية الإمبرياليين على الفصل بين مصر وبلاد الشام، ذلك الفصلَ الحيويَّ لذراعي الأمة لمن يريد بها شرّا. بناء على ذلك أصدرت الحكومة البريطانية عام 1917 وعدا لليهود بمساعدتهم على تحقيق ذلك الحلم في أرض فلسطين من جنوب بلاد الشام. وهذا هو الوعد المعروف بوعد بلفور، نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني الذي صدر الوعد من وزارته يومذاك. ولقد باشر البريطانيون، فور استيلائهم على جنوب سوريا، في السماح لليهود السكناج بالهجرة إلى فلسطين. ثم كان ما كان من استشراء تلك الهجرة حتى إقامة الدولة الصهيونية عام 1948.
وقارئ تاريخ فلسطين، منذ وطئ أرضَها أوّلُ جنديّ بريطاني، بعد الحرب العالمية الأولى حتى انسحاب بريطانيا يوم 15 أيار 1948، يرى بجلاء المقاومة المستميتة التي واجه بها عرب فلسطين ذلك السرطان الصهيوني، مدعوما من سلطة الانتداب البريطاني. ودارس هذا التاريخ لا يجد في المقاومة الفلسطينية ما يدلّ على أن شعب فلسطين كان يعدُّ نفسه ذا هوية منفصلة عن هوية أمته العربية، أو كان يعدُّ أرضه جزءا منفصلا عن الوطن العربي. ولقد كانت الأدبيات الأولى للمقاومة تعدُّ الهجمة البريطانية-الصهيونية هجمة على “جنوب سورية”. ففي المؤتمر الأول الذي عقدته الجمعيات الإسلامية المسيحية في القدس عام 1919 لتدارس قضية الهجرة الصهيونية، قرر المؤتمرون فيما قرروا “ميثاقا قوميا لفلسطين يتضمن رفض وعدِ بلفور والهجرةِ اليهودية والانتدابِ البريطانيِّ والمطالبةَ بوحدة فلسطين مع سورية والاستقلالَ التام ضمن الوحدة العربية وتسميةَ فلسطين باسم جنوب سورية توكيدا على كونها جزءا طبيعيا من سورية…” كما جاء نصا في الجزء الأول من كتاب المؤرّخ محمد عزة دَرْوَزَة، “القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها”.
بناءا على ذلك، لم يكن منطقياً للفلسطينيين قبل التهجير الكبير، عام 1948، أن يعملوا على إقامة دولة قطرية لهم، كما هي حال الدول العربية القطرية اليوم. والسبب هو، أولا ما ذكرنا من اعتبار عرب فلسطين بلدَهم المهدَّدَ بأنه “جنوبُ سورية”. وثانيا أن القطرية العربية، التي أخذت اليوم، للأسف، تترسخ في أذهان العرب وكأنها نهاية المطاف، لم تكن كذلك في النصف الأول من القرن العشرين.

المرحلة الثانية (1948-1967):

ثم جاء التهجير الكبير لعرب فلسطين عام 1948، فأُخرج الناس من ديارهم بحد السيف، إما مباشرة أو بالترويع والتهديد بتكرار المذابح الوحشية، على غرار مذبحتي دير ياسين والطنطورة. فكان الشتات، وكان الإحباط وما أنتجا في نفوس الفلسطينيين من حقد على واقع حالهم، وعلى من خذلهم من الحكام العرب، وعلى من أخرجهم من ديارهم من سكناج صهاينة، وعلى من ساعد السكناج الصهاينة على إخراجهم، نعني بريطانيا، ممثلة للإمبريالية الغربية، التي بدأت ببريطانيا وفرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى وانتهت اليوم بالولايات المتحدة. رغم هذا الحقد وهذا الإحباط، لم يضعف إيمان الفلسطينيين بانتمائهم لأمتهم وبحتمية وحدة الوطن العربي. ذلك أن هذا الإيمان لم يكن عقيدة يؤمن بها المرء اليوم وقد يكفر بها غدا. إنها حقيقة تلزم المرء، كما هي حقيقة أن الولد يولد لأبيه فلان وأمه فلانة، فلا يستطيع الفكاك من هذه الحقيقة حتى لو تمنى غيرها. وحتى هذه المرحلة من تاريخ عرب فلسطين، لم تكن إقامة دولة قطرية فلسطينية حلما تشرئب إليه أعناقهم. بل كان حلمُهم الأول والأخير طردَ الغزاة الصهاينة من أرض وطنهم والعودةَ إلى قراهم التي منها طُردوا. ولعلّ ظهور الناصرية في مصر، رافعةً لحلم الوحدة العربية الكبرى، كان عاملا حافزا للفلسطينيين خاصة، وللعرب عامة، في التمسك بما آمنوا به مما ذكرنا أعلاه. بل إن مناداة الناصرية بتوحيد العرب، وانتصارها على الهيمنة الإمبريالية، كان توكيدا لإيمان الفلسطينيين بأن استرداد الوطن المغتصب لا يكون إلا بقيام وحدة عربية تحمل في ذاتها القوة اللازمة لهذه المهمّة. وهذا ما يفسر انخراط الفلسطينيين، أكثر من غيرهم من أبناء أمتهم، بالعمل السياسي التنظيمي. ولعلّ هذا سبّبُ تخوّفِ الأنظمة المستسلمة منهم، ونبذِها لهم.

المرحلة الثالثة (1967-1993):

ثم كانت هزيمة حزيران عام 1967، التي كان لها الأثر الكبير في تفكير العرب جميعا، ومنهم الفلسطينيون. فكان اليأس والإحباط سيّدي الموقف. لكنّ هذه الهزيمة كانت أيضا حافزا مهما للعمل على استرداد فلسطين بفعل عسكري شعبي، بعد أن هُزمت الجيوش النظامية العربية، التي كانت الآمال العراض معقودة عليها. فأفرخت هذه الهزيمة المنظمات الفدائية الفلسطينية التي أخذت على عاتقها مهمة الكفاح الشعبيّ المسلح.
لا شك في أن ظهور تلك المنظمات الشعبية المسلحة كان، من حيث المبدأ، وجها مشرقا من وجوه العمل على استرداد فلسطين، خاصّة أن هذه المنظمات كانت، في معظمها، تتلقى الدعم من الأنظمة العربية التقدمية، التي انتكست قدرة جيوشها النظامية في مواجهة جيش الاغتصاب الصهيوني، الذي تدعمه الإمبريالية الغربية بشراسة لا تسمح بهزيمته. غير أن بعض تلك المنظمات كان أيضا يتلقى دعما من الأنظمة العربية المستسلمة، التي تعمل وفق السياسة الإمبريالية الغربية، التي زرعت دولة الاغتصاب الصهيوني في أرض العرب وتعهدت رعايتها وحمايتها، ولا تزال تفعل. ولا مجال هنا للاستفاضة في هذا الموضوع الذي يقتضي دراسة خاصة. لكنّ المبدأ هنا أنّ الذي يأكل من زاد السلطان يضرب بسيفه. وحين نتكلم عن تلك المنظمات الشعبية “الفلسطينية”، فإن نسبتها إلى فلسطين نسـبةٌ إلى طبيعة عملها الهادف إلى استرداد فلسطين. ذلك أنها لم تكن حكرا على الفلسطينيين وحدهم، بل انتظم في صفوفها الكثيرون من العرب غير الفلسطينيين، الذين كان بعضهم ضمن المجموعات القيادية فيها.
غير أن تلك المنظمات، رغم وصفنا لها بالوجه المشرق، كانت البذرة الأولى لظهور التقوقع الإقليمي الفلسطيني. بل إن بعضها جمح إلى رفع شعار “يا وحدنا”، مستغلا، عمدا أو جهلا، بعض المشاكل التي كان الفلسطينيون يواجهونها مع الأنظمة العربية. وإذا كان سهلاً للعاقل أن يدرك تلك المشاكل ويعدَّها عرضا من أعراض أزمة النظام القطريّ العربيّ، فإنّ بعض تلك المنظمات تعمّد تفسيرها بأنْ لا خير في العرب ولا سبيل للفلسطينيين إلا أن يعتمدوا على أنفسهم، وعلى أنفسهم فقط. فدعَوْا علنا أو ضمنا إلى الكفر بكلّ ما هو عربيّ غير فلسطينيّ. ولقد تبعت دهماءُ العامّة من الفلسطينيين هذه الدعوة من غير تفكير، فأخذت تترسخ لديها النعرة الإقليمية الجاهلة، منطوية على شعور بالاستعلاء تجاه بقية العرب. وقد نردُّ بعضَ هذا الاستعلاء إلى عامل نفسيّ لمقاومة الشعور بالاضطهاد، وبعضَه الآخرَ إلى ما تميّز به الفلسطينيون من إنتاجية ناجحة في مجالات العمل والفكر. وهنا نتعجّل القول ثانية إن العقلاء من الفلسطينيين أدركوا أن الأنظمة العربية التي تضطهد الفلسطينيين هي أصلا أنظمة مهترئة، تعامل رعاياها الوطنيين بأسوأ مما تعامل الفلسطينيين. أما تميّز الفلسطينيّ أحيانا على غيره من العرب فمردّه إلى حاجته المُلحّة ليكون متميّزا، باعتبار أن العدوّ أمامه والبحر من ورائه، وليس له من ظهير سوى عمله وكدّ يده. ومن ظنّ أنّ شعبا ما يحمل صفاتٍ وراثيةً أصفى من غيره من الشعوب، فقد أثبت العلم الحديث أن شعوب العالم كلها لا تختلف في ذكائها الموروث، وإنما اختلافها في الذكاء المكتسب، وهو الذكاء الذي تشكله ظروف البيئة التي يعيشها الإنسان. ولا شكّ في أن الظروف القاسية التي دهمت الفلسطينيين منذ النكبة قد صلَّبت عودهم وحفزت قدراتهم الكامنة، فبذُّوا غيرهم ممن لم تكن حياتهم بهذه القسوة. وفيما ذكرنا حول انسياق دهماء العامّة وراء الدعوة الإقليمية التي روّج لها بعض التنظيمات الفلسطينية، فإننا لا نلوم العامّة، بل نتفهم ضحالة تفكيرها، متبعين في هذا قول المنفلوطي: “الشعبُ شعبٌ في كلّ عصر والعامّةُ عامّةٌ في كلّ مصر.” لكنّ الملامة هنا تنصبّ على قادة هذه التنظيمات، ومن تبعهم من أهل الفكر، الذين جعلوا من الإقليمية وترا يعزفون عليه أنغامهم الناشزة، لغاية لا نرى فيها إلا الخبث والشبهة. ولا نصدّق أنهم لا يدركون أنّ الأعداء وحدهم هم المستفيدون من الدعوة الإقليمية. والذي يسقط في حفرة لا يراها، لا ينبغي له أن يلوم الحفرة، بل عينيه اللتين لم تتفحصا موطئ قدميه.
صحيح أنّ الإحباط يُخرج المرء عن طوره. لكنّ على قادة الفكر وقادة النضال أن يكونوا أبعد نظرا وأقوى عزيمة من أن ينال الإحباط منهم. وصحيح أيضا أن بعض الأنظمة العربية أساء كثيرا للفلسطينيين، فاضطهدهم بلا سبب مقبول، وخذلهم في كثير من المواقف. فإنْ كفر عامّة الناس بالعرب لهذا السبب، فلا يُقبل مثل هذا الكفر من روّاد الفكر وقادة النضال. ذلك أنهم يدركون حدود تلك الأنظمة وأسباب توجهاتها.
لعلّ ما ذكرنا أعلاه أوصل الفلسطينيين إلى إيمانهم بضرورة أن تكون لهم دولة خاصة بهم، مستقلة عن كلّ إملاء عربي أو أجنبي. لا بأس. فلقد بات الفلسطينيون اليوم في حاجة إلى هويّة تمنحهم ثقة بالنفس، ما دام إخوانهم العرب يحملون هويّاتهم الإقليمية، فرحين بما يحملون. والعقدة الكبرى التي أصيب بها الفلسطينيون، بسبب التخلف العربي والتسلط القُطري الإقليمي، كانت دائما حمل جواز سفر معترف به يمنحهم حريّة الحركة والترحال، كحال كل أمم الأرض. وهو ما حرمهم منه النظام القطري العربي المتخلف. والمآسي التي أصابت الكثيرين منهم يطول الحديث عنها. وإن هم إلا بشر من لحم ودم، وليس من المتوقع أن يكونوا كلهم ملائكة أو أنبياء. ووجود مثل هذه الدولة يحمل لهم وعدا بالانتماء، بعد أن استشرس سدنة النظام القُطري العربي في صونه وتقديسه زورا وتلفيقا، لانتفاعهم الشخصيّ به. أما أمتهم فعليها العفاء. وقد يكون من شأن هذه الدولة أيضا أن تخصب خيال الفلسطينيين بأحلام حرموا منها، لعلّ أقلَّها ما ذكرنا من حمل جواز سفر معترف به. وإن كان بعض أحلام الفلسطينيين مثيرا لاستغراب من لم يحرمْ منها، فإنَّ ذا الصحة السليمة لا يدرك حقيقة ما يعانيه المريض.
فلتكنْ تلك الدولة. ولنبحثْ لها عن مبرّر إيجابي. لكنّ البحث عن هذا المبرّر، حين يحدونا الفكر القوميّ الوحدويّ، لا يجوز أبدا أن يُنسينا أن كل دولة قطرية عربية يجب أن يكون وجودها وجودا مؤقتا، ونظامُها فاعلا لتحقيق الوحدة العربية. لذلك فإن استبداد الحكام عامل تكريس للقطرية بالضرورة، لأن الحاكم على دويلة صغرى لن يرضيه التنازل عن كرسيّه ليصبح مواطنا عاديا في دولة الوحدة. كذلك إن بطانة الحاكم القطري ترى مصالحها متحققة في الدويلة الصغرى، لأن المنافسة فيها تكاد تنعدم أمام المنافسة في الدولة الكبرى. وقديما قيل، “أمير في قريتي خير من مواطن في روما.” وعلى هذا، فلا بدّ لنا من مقاومة الحكم القُطريّ المستبد بالديمقراطية، إن أردنا إقامة دولة الوحدة.
في بحثنا عن مبرّرات قيام الدولة الفلسطينية، قد نجد أن أقوى تلك المبرّرات هي المقاومةُ الضمنية للاحتلال الصهيوني الإحلالي، الذي يعمل جاهدا على طمس الوجود العربي الفلسطيني، هوية وتاريخا، مدعيا أن “المقيمين” على “أرض إسرائيل”، حسب تعبير غلاة الصهاينة، إن هم إلا قبائل عربية احتلت البلاد وطردت منها اليهود، وعليها أن تخرج منها، كما خرجت يوما من الأندلس؛ كما صرّح يوما بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الصهيوني. مثل هذا التزوير للتاريخ لا يردّ عليه إلا بإثبات الوجود الأزلي لعرب فلسطين، قبل أن يخلق الله في مصر موسى وقبيلته من بني إسرائيل، التي لا يستطيع العقل أن يتصوّر لها علاقة بالسكناج الشقر الزرق الآتين من أوربا، هربا من اضطهاد، لا تحقيقا لوعد إلهيّ ملفق. ومن مظاهر إثبات الهوية إقامة دولة تحمل اسم فلسطين الذي يراد طمسه، كمرحلة أولى من مراحل التوحّد مع دولة الوحدة حين تقوم.
لكن السؤال هو: أين تُقامُ تلك الدولة وكيف؟

المرحلة الرابعة (1993 إلى اليوم):

في الثالث عشر من أيلول عام 1993 وقَّع في واشنطن ممثلو منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو مع مغتصبي أرضهم برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. وبطبيعة الحال، لا يعنينا هنا الخوض في حيثيات هذا الاتفاق، وإن كنا نرفضه جملةً وتفصيلا. ذلك أن ما يعنينا في هذا المقام بالنسبة إلى الاتفاق المذكور أنه قاد إلى إنشاء سلطة فلسطينية يراها الإسرائيليون سلطة حكم ذاتي، ويراها أصحابها سلطة وطنية تشكل نواةً لدولة مستقلة ذات سيادة. وسفارتها في عمان وغيرها تسمي نفسها سفارة “دولة فلسطين”. وهذا تناقض أول بعد اتفاق، وللمرء أن يستغربه. كذلك يصف الإسرائيليون، بإصرار، خروج جيشهم من المناطق التي سُلِّمت للسلطة الفلسطينية بأنه “إعادة انتشار”، وتصفه السلطة بأنه “انسحاب”، ولعل بعضهم يخدع نفسه أو يخدعنا بقوله إنه تحرير. وهذا تناقض ثان بعد اتفاق، وللمرء أن يستغربه أيضا! نورد هذا لندلل على غموض الاتفاق، وتخبّط المفاوض الفلسطيني، وتمريره، عمدا أو جهلا، تنازلات كانت محرّمة حتى على مجرّد التفكير بها. فإذا أضفنا إلى ذلك غياب المرجعية المبدئية التي يهتدي بها المفاوض الفلسطيني، سواء قبل إنشاء السلطة أو بعدها، انتابنا القلق على مصير القضية، واعترانا الخوف من تصفيتها على أيد فلسطينية، سوف يصفق لها النظام القطري العربي، معتبرا أهل مكة أدرى بشعابها. وواضح أن هذا كلام حق يراد به الباطل. وكلنا نعلم أن النظام القطريّ العربيّ كان ألقى عن كاهله مسؤوليته تجاه قضية فلسطين في مؤتمر القمة العربي السابع، الذي انعقد في الرباط في تشرين الثاني عام 1974، يوم أعلن هذا المؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية “ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني”. إن الغموض الذي ذكرنا حول المفاوضات قبل إنشاء السلطة استمرّ نهجا لها بعد إنشائها، سواء في تفاوضها مع العدوّ أو في إدارتها للبلاد. وليس لنا أن نستغرب هذا الغموض، لأنه ضرورة من ضرورات الاستبداد، الذي هو صفة من صفات النظام القطري العربيّ عامّة، ورثه المفاوض الفلسطيني وطبقه. ولعلّ أخطر قضية أصبح هؤلاء السلطويون يجهرون بأنها غير واقعية، هي قضية حق اللاجئين المطلق في العودة إلى ديارهم. ولئن كانوا في الأمس القريب يخشون الإعلان عن رأيهم جهرا، فإنهم اليوم لا يجدون في ذلك حرجا.
تدرّج هذا الأمر من تصريحات متكررة لسري نسيبة، أن على الفلسطينيين أن يكونوا واقعيين ويكفوا عن المطالبة بعودة اللاجئين، إذا أرادوا إنشاء دولة لهم “لا تفزع” الإسرائيليين. وكنا متأكدين يومها من أنّ مثل هذا التصريح الخطير لا يصدر دون إيعاز من أعلى مراجع “القيادة”. وحين لم تكترث لهذا التصريح حكومةُ العدو الصهيوني الشارونية، كتب ياسر عرفات مقالا نشرته جريدة نيويورك تايمز بتاريخ 3 شباط 2002، بعنوان “الرؤية الفلسطينية للسلام (The Palestinian Vision of Peace)”، قال فيه “إننا نتفهم مخاوف إسرائيل السكانية، ونتفهم أن على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين … أن يطبّق بطريقة تأخذ هذه المخاوف في الاعتبار.” وأبدى عرفات في مقاله أمله في التفاوض مع “إسرائيل” حول “حلول خلاقة لمأساة اللاجئين.” فما هي تلك الحلول “الخلاقة” التي تودّ السلطة أن تفاوض حولها، ونحن نعلم أن الآفة الكبرى التي ابتُلي بها شعبُنا العربيُّ الفلسطينيُّ هي غياب استراتيجية وطنية واضحة تتبناها من نصَّبت نفسها قيادة له، وتجعلها مرجعا لها ونبراسا تهتدي به؟ وغياب هذه الاستراتيجية، وإحلالُ الفهلوة محلَّها، هو الذي أفقد هذه “القيادة” مصداقيتها أمام شعبها وأمام عدوّها وأمام العالم أجمع.
أخيرا، سمعنا قبل أشهر وشاهدنا على شاشات التلفزة رئيس السلطة الفلسطينية، الزعيم الأعلى لحركة فتح محمود عباس، حين صرَّح بأنه لا يريد أن يعود إلى مسقط رأسه صفد، بل لم يُعط نفسَه الحقَّ في زيارتِها إلا بإذن ممن اغتصبها وأخرج أهله منها. لو صدر هذا الكلام عن شخص عاديٍّ، لربما اكتفينا بشجبه وعددناه رأياً شخصيا مارقاً. أما أن يصدر عن رئيس السلطة “الوطنية” الفلسطينية والزعيم الأعلى لحركة فتح، فأمر خطير جدا وبيعٌ للوطن في رابعة النهار. بلى، لقد كانوا في مجالسهم الخاصة يستهزئون بمن يؤمن بإمكان تحقيق الوحدة. وكنا نتساءل أن كيف يدافع مدافع عن قضية لا يؤمن بها. لكنهم بما أوتوا من مال ورد أغلبه من السعودية وكثير منه أيضاً من عرق جبين شعبهم المخدوع، استطاعوا أن يتصدروا مقاومة مزورة استخدموها لكي يصلوا إلى إقامة سلطة لم ير التاريخ مثلها قط. سلطة تحت نير العدو الذي حاربوه دهرا ثم أصبحوا شركاء له اليوم.
بناء على ذلك كله، ألا نتوقع للحلم الفلسطيني أن يتمخض عن دولة مسخ لن تكون سوى أداة لتصفية القضية لصالح العدو؟ وما الذي يجعل ظننا هذا من ضرب المحال، وأمامنا كل هذه التنازلات، وكل هذه الطأطأة لإملاءات العدو الصهيوني-الأمريكي؟

أما بعد

يبدو من تطوّر الأحداث أن الدولة الفلسطينية أصبحت أمرا واقعا في أذهان السلطة المزوِّرة وفي أذهان دهماء العامة. وما عرقلة العدو الصهيوني لإقامتها إلا لسببين: أولهما أن هناك حاجزا نفسيا لم يستطع الصهاينة بعد اجتيازه، ألا وهو عدم قدرتهم على استيعاب تحطم أحلامهم في امتلاك أرض فلسطين خالية من أهلها. والسبب الآخر محاولتهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، سواء في ضمّ أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين لدولتهم، أو في فرض سيطرة أكبر على الدولة الفلسطينية القادمة.
فإن كان لا بدّ من دولة، فإن هناك، في الذهن، إمكانيتين اثنتين لها: إما أن تكون دولةً مستسلمة يريد أصحابها أيّ شيء ممكن، أو دولةً تريد الحقّ كاملا، ولا تساوم عليه.
فأما الدولة المستسلمة فإنها دولة أصحابها لا دولة أهل فلسطين. إنها دولة مسخ، تابعة لدولة الاغتصاب الصهيوني وللإمبريالية الأمريكية، لا مستقبل لها، ولن تستطيع تطبيق شعار “خذ وطالب”، على علاته. وهي، إن أفرحت بعض الفلسطينيين بجواز سفر، فسوف تكون قفصا للعبيد لا فضاء رحبا للأحرار. ويجب ألا ننسى أبدا أن كل ما تريده الإمبريالية الأمريكية هو استقرار في المنطقة يُمكِّنها من بسط هيمنتها السياسية والاقتصادية. ولن تسمح لمثل هذه الدولة أن تكون لبنة في صرح الوحدة العربية، التي أقيمت دولة الاغتصاب الصهيوني لمنع قيامها. إنها دولة يرضى المسؤولون فيها برقعة ضيقة من أرض فلسطين، ويكرّسون بها التنازل عن الأرض وعن حق العودة، سواء علنا أو تسويفا قاتلا للمسألة. كل ذلك باسم الحكمة والواقعية. إنها وأد للكفاح الفلسطيني الذي استهلك، على مدى نيّف وثمانين عاما، أرواح آلاف الأبطال الذين لم يكونوا ليضحّوا بأنفسهم على مذبح مثل هذه النهاية. وهي، إلى ذلك، إضافة عددية غير مرحب بها لدول النظام القطري العربي. نكرر القول، إن مثل هذه الدولة يجب رفضها، بل تجب محاربتها.
وأما الدولة التي نريد، فإنها تلك التي تعمل على انتزاع الحقّ كاملا غير منقوص في كامل تراب الوطن، وتعمل على عودة أهله الذين أخرجوا منه قسرا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل تستطيع مثل هذه الدولة الصغرى أن تستعيد كامل تراب الوطن؟ أليس الأفضل أن يكون التحرير لا الدولة هو الهدف؟ ألم نكن نقول في ستينات القرن الماضي إن استرداد فلسطين يمر عبر العواصم العربية؟ فهل تغير الحال؟ إذا استطاع حزب الله، وهو في نهاية المطاف محض حزب لا أكثر، أن يحرر جنوب لبنان وأن يلجم الآلة العسكرية الصهيونية، فباتت تحسب له ألف حساب، ألا تستطيع تحريرَ فلسطين دولةٌ عربيةٌ شامية موحدة، أو على الأقل مجموعة دول بلاد الشام متفقةً على هدف استرداد فلسطين والعمل على هذا الهدف؟
* كاتب ومترجم من الأردن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *