أسرار السماع.. من كتاب “ترنيمة الشمس”




إيفا دي فتراي مايروفيتش/ترجمة: أحمد حميدة


خاص ( ثقافات )

بعد وفاة شمس تبريز، أسس جلال الدين الرومي – قدس الله سره – فن السماع، وهي الرقصة الكونية الشهيرة التي أضحت تقليداً ثابتاً لأتباع ومريدي الطريقة المولوية.

حين يندفع الدراويش في الرقص والدوران على إيقاع الناي، فإنهم يحاكون بذلك دورة الكواكب والأجرام وكل ما هو متحرك على هذه الأرض، ويرى شيخ الطريقة أن الكون بأجمعه ينضم إلى فرحة الدراويش عندما تسري موسيقى السماع في الأجواء وتدفع بهؤلاء الدراويش إلى الرقص والدوران، “إني لأرى المياه تتدفق جذلى من ينابيعهم، وأغصان الأشجار ترقص تضرعاً، والأوراق تهزج مصفقة”.

وكان الرومي يقول: “آه أيتها السماء التي تطوف دوائرها فوق رؤوسنا.. إنك لتشتغلين في عشقك للشمس بما أشتغل به أنا”، وكان يفصح عن ذلك الإحساس بلسان الحال:

أشرق أيها الصباح فإن الذرات ترقص
والأرواح من فرط الوجد تدور
في أذنك سوف أنبئك عن غاياتها
كل الذرات في الريح وفي الصحراء تعرف سبيلها
وقد تملكها الجذب وعلامات الجنون
كل ذرة في سعادتها أو شقائها
إنما تعرج سادرة نحو تلك الشمس
الشمس التي لا تصفها الكلمات

بمثل هذه الروح كان الرومي يحيي جلسات السماع، وبمثل هذه الروح بقيت تلتئم حلقات الرقص المولوي، وهو رقص كل حركة فيه محملة بدلالات رمزية.

يدخل الدراويش إلى “التكية” وهم يرتدون الأبيض رمزاً لكفن الميت، متسربلين بمعاطف سوداء تذكر بظلمة القبر وعلى رؤوسهم طرابيش من لبد كأنها شواهد القبور.

أما الشيخ أو القطب – ممثل مولانا ونقطة الوصل بين الزمني واللازمني في هذه الرقصة، وهو الذي تحل فيه الرحمة الربانية لينشرها بين الراقصين – فإنه آخر من يدخل إلى القاعة، يلف طربوشه العالي وشاح أسود (دستار) يشي بهيبته ووقاره وبرفعة منزلته.

يقدم الشيخ والدراويش التحية، ثم يجلس الشيخ على سجاد أحمر يوحي لونه بلون الشمس الغاربة التي كانت ترسل شعلاتها الأخيرة في السماء يوم وفاة مولانا بقونية في 17 ديسمبر 1273، ويقوم أحد المنشدين بسرد المديح النبوي (النعت الشريف) الذي كتب الرومي كلماته “أنت حبيب الله ومبعوث رب العالمين…”، ترافقه موسيقى المؤلف التركي الكبير “إيتري” في نغم وئيد ومهيب؛ ثم يجلس المنشد ليدوي في الأرجاء نفس الناي في تقاسيم مرتجلة وشجية، وبانتهاء هذه التقاسيم، يرفع الشيخ يديه من على ركبتيه ويضرب بهما الأرض، فيبدأ قرع الدفوف، فيما تعزف فرقة الموسيقيين لحناً موسيقياً ينهض أثناءه شيخ الدراويش. حينها تبدأ النوبة المعروفة بنوبة “السلطان ولد” (والسلطان ولد هو الابن الأكبر للرومي، وكان أول من وضع ألحاناً موسيقية للسماع)، ثم يتقدم الدراويش ببطء ليدوروا ثلاث مرات حول القاعة، كل واحد منهم في موقع محدد، وعيونهم جميعاً مثبتة في الشيخ الذي يرقب تحركهم. وأثناء هذه الدورات ينحني كل درويش أمام الشيخ انحناءة عميقة قبل أن يتابع دورته بوقار في اتجاه معاكس لدوران عقارب الساعة. وترمز تلك الدورات الثلاث إلى الأشواط الثلاثة التي يقطعها الصوفي ليحظى بمقام القرب: الشريعة أو طريق العلم، الطريقة التي ترقى بالسالك إلى مقام التجلي، والحقيقة التي تنتهي به إلى مقام الاتحاد.
عندما تنتهي الدورة الثالثة، يقف الشيخ فوق سجاده، والدراويش في إحدى زوايا القاعة، وبعد إنشاد جماعي تؤديه الفرقة الموسيقية، ينفض الدراويش عنهم معاطفهم السوداء ويثبون مجللين في لباسهم الأبيض وكأنهم تحرروا من قشرتهم الأرضية وانبعثوا في حياة ثانية.

ينتصب الشيخ واقفاً، فيتقدم نحوه قائد الدراويس يتبعه الراقصون، فينحني ويقبل يده اليمنى، ويحذو حذوه الجميع ملتمسين منه إشارة البدء بالرقص، فيبدي موافقته وهو يقبل طرابيشهم.

ويشرع الدراويش في الدوران ببطء وأذرعهم متقاطعة على صدورهم وأيديهم على الأكتاف، ثم يطلقون أذرعهم كالأجنحة، اليد اليمنى موجهة نحو السماء لاستقبال المدد الرحماني، واليد اليسرى موجهة نحو الأرض لنشر ذلك المدد في الأرض بعد أن يكون قد اخترق قلوبهم وحملوه فيضاً من محبتهم.

وفي الوقت الذي يدور فيه الدراويش حول أنفسهم يدورون حول القاعة، وتمثل تلك الدورة الوحدة في التعدد، وأيضاً دائرة الوجود من الحجارة إلى الإنسان، كما تشير إلى القانون الذي ينتظم الكون والذي وفقه تدور الكواكب حول نفسها في الوقت الذي تدور فيه حول الشمس، أما التحيات الثلاث المتبادلة فهي ترمز إلى الدرجات المتعاقبة للإيمان فيما يوحي نقر الدفوف إلى النفخ في الصور.

وتنقسم دائرة الراقصين في الوسط إلى نصفين، يمثل النصف الأول قوس نزول الأرواح في الأجساد (النزول من الله)، فيما يمثل النصف الثاني صعود الأرواح إلى بارئها، ويفصل بينهما خط مثالي يشير إلى الطريق الأقصر لبلوغ الوحدة الكلية، يبدأ من سجاد الشيخ حتى باب الدخول إلى القاعة، ولا يسمح للدراويش بالمشي فيه.

تكون الرقصتان الأولى والثانية جماعية، أما الثالثة فيكون الرقص فيها انفرادياً لأنه من المفترض أن يكون الزمن قد انقضى. ولا يلتحق الشيخ بالراقصين إلا في الرقصة الرابعة، حينها يتغير الإيقاع ويتسارع، ويرقص الشيخ وهو يدور على الخط المثالي في قلب الدائرة ممثلاً بذلك الشمس في توهجها. ومع انطلاق الشيخ في رقصته ينبعث صوت الناي في ارتجال جديد، إنها اللحظة الأخيرة، لحظة التوحد. وما إن يعود الشيخ إلى مكانه حتى يتوقف السماع ويرتفع صوت أحد المنشدين بتلاوة مجودة للقرآن الكريم. وهكذا فإن كلام الله يكون في الختام إجابة للدراويش، ثم يشفع بالسلام وذكر اسم الله.. هو.. هو..

أنين الناي
أصخ السمع إلى الناي وهو يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يرسل شكايته:
مذ قطعت من القصباء
وأنيني يجهش له الرجال والنساء بالبكاء
إني أنشد صدراً مزقه الفراق 
كي أبثه تباريح الاشتياق
فكل من أبعد عن منبع أصله
يرنو حنيناً إلى زمان وصله
نائحاً صرت أمام كل الشهود
فبت قريناً للشقي وللسعيد
ظن كل إنسان أنه لي رفيق
وما عرفوا سري وأنأ أعبر الطريق
وليس سري ببعيد عن نواحي
ولكن أين هي الأذن الواعية والعين المبصرة
حتى تدرك حقيقة نجوائي
وليس الجسد بمستور عن الروح
ولا الروح بمستورة عن الجسد
ولكن أني لأي كان
معاينة الروح الكامنة في غيابة الإنسان
أنين الناي نار وليس بهواء
وكل من ليست له هذه النار فهو محض هباء
إنها حميا العشق التي تسري في الناي
ولفحة ناره هي سورة الخمرة حين تفور
والناي نديم كل صب غريب
يجلي البصر ويشق حجاب القلوب
فمن رأى كالناي سماً وترياقاً؟
ومن رأى كالناي نجياً ومشتاقاً؟

وجاء في إحدى رباعيات الرومي: “سألت الناي: ما الذي يجعلك تشكو وتنتحب وأنت ليس لديك لسان؟ .. فأجاب الناي: “لقد انتزعوني من القصباء، فصرت لا أطيق العيش بغير الأنين والبكاء”.

وفيما يلي رسالة خاصة تلقيتها من أحد دراويش قونية يكشف فيها النقاب عن بعض من أسرار السماع:

إن الناي والإنسان الرباني (الإنسان الكامل) صنوان، كلاهما يشكو من الاغتراب ومن حرقة الفراق، كلاهما تلفه الحجب ويحمل آلاماً في الصدر، كلاهما يشكو من العطش وبعده عن المنبع الذي يرويه، كلاهما أجوف لا تملأه سوى الأنغام التي تأتي بها الموسيقى. إنهما لا يملكان صوتاً في وحشة العزلة، فيمنحان أنفسهما لأصابع وشفاه الشادي ليكونا معزفه النابض بأشواقه.

لقد جاء الإنسان الرباني من صفصافة الغيب وبمشيئة القدر سقط في هذا العالم المادي حيث أصبح أسير علاقاته بالبشر وبالطبيعة وبات قلبه يشعر بالغربة، وقد حملته وحشة الغربة هذه على إفراغ قلبه من حب الشهوات وتخليصه من كل وجود وهمي ليسلم قياده للحق ويتحول إلى أداة طيعة تتجلى من خلالها إرادته سبحانه وتعالى، وذاك هو واجبه الأوحد.

عندما يتحدث الإنسان الرباني عن أصله السماوي ومكابدته آلام الفراق، فإن سامعيه متى كانت قلوبهم طاهرة سيشعرون بنفس اللوعة، ولكن الإحساس الروحي عند الناس درجات، وكل واحد منهم يفهم على قدر طاقته، لذلك كان مولانا يقول: “من رأى منكم سماً وترياقاً كالناي؟”، فالسماع بالنسبة للبعض سم لأنه يثير فيهم النوازع الحيوانية، أما بالنسبة للبعض الآخر فهو ترياق من سم الأغيار وتجلٍّ للحضور الإلهي. والناي يشبه الصديق أو العاشق، وفي ذلك العهد كان قدر العشاق مكابدة ألم الفراق ورؤوسهم محجبة، وكذلك الحال بالنسبة للناي المخفي في كيس معلق، غير أن الناي وجد ليغني، وبذلك الغناء وحده يمكننا فهم أسراره.

وهذا ملك يسأل درويشاً: “ما هذا الرداء الأسود وما هذا الطربوش؟”

فأجاب الدرويش: “أيها لملك الجليل، هذا الرداء هو قبري وهذا الطربوش شاهده”
فقال الملك: “ولكن كيف للميت أن يتكلم؟ فلا أحد سمع ببذلك من قبل”
فأجاب الدرويش: “ألم تعلم أيها الملك بأننا نسأل في القبر فنجيب؟”
فقال الملك: “ولكن كيف يرقص الميت؟ ومن يعد له مكاناً للرقص؟”
فأجاب الدرويش: “يوم ينفخ في الصور، كل الموتى سينهضون وهم يرقصون”
فقال الملك: “أخبرني يا صديقي عن سر الرقص الدائري للمولوية”
فأجاب الدرويش: “أما عن أسرار هذه الرقصة فهاك ما يغنيك عن السؤال: كل منا مدعو إلى أن تعود إلى حيث كنت قبل أن تكون حتى يعلم سر البداية وسر العودة، والحديث عن ذلك من اللطائف الموهوبة لمولانا.

ثم سأل الملك: “أخبرني إذاً عن السر الذي يجعل هذا الشيخ كالشمس في سطوعها”
ويجيب الدرويش: “اسمعني يا ملك العالم.. سأنبئك بذاك السر وأشرحه لك..

قبل أن يخلق هذا العالم، كان الحق سبحانه وتعالى كنزاً مخفياً ولا وجود لأي كائن سواه، ومعه كان لا وجود لغير أسمائه وصفاته، ودونه كان العدم. ثم أراد الله أن يعرف بصفاته، فكان أمره أن.. كن..، فأوجد الخلق بين الكاف والنون، ثم خلق مرآة تأمل فيها ذاته وصفاته. فالإنسان هو مرآة الله، فانظر إليه بتبصر، فما ستشاهده هو الله بأسمائه وصفاته. فكأن هذا الجوهر المحض هو بمثابة نقطة، ومن سرعة نموها تتكشف دوائر الوجود والكائنات الممكنة الوجود. ولتعلم بأن هذه الدائرة لها وجهان مختلفان، فضع أحد الوجهين على يمينك، والوجه الثاني على يسارك، فالوجه الأيمن هو العالم الخارجي، والوجه الأيسر هو العالم الباطني، وعلى محيط الدائرة تتحدد مكانة الإنسان، لذلك فإن الإنسان في ظاهره وباطنه هو مرآة الرحمان.

وتنمو النقطة وتتمدد على شكل دوائر وهمية ثم تعود إلى حيث كانت، وعندما تعود النقطة إلى مبدئها فإن الدوائر المنبثقة عنها تختفي بذاتها. وتتطور الكائنات الممكنة الوجود على امتداد الدوائر الوهمية كما يتطور العلم في حقل المعرفة، وعندما تعود هذه الكائنات إلى أصلها، فكل ما دون الله يختفي ولا يبقى سوى جوهره المحض.


السماع طريق وباب مشرعة على السماء
وأجنحة الروح التائقة إلى موطن البقاء
بالسماع تهتاج القلوب وجداً
وتمضي كغيمات الربيع سادرة في الفضاء
فيا نجمة المساء المنطوية على سرها
لتطلقي أيادي الرحمة ولتمعني في الدعاء
لأن ذاك المنشد وتلك الأيادي وذلك الدف
شرعوا في السعي إلى مقامات الصفاء
لقد صيرني حبك أرغن صادحاً.. شادياً
في أنغامه انكشاف كروبي وانجلاء أحزاني
كل الأشكال باتت شبيهة بالعود 
ترسل النغم وتنوح توقاً للصعود
إن المحبوب غدا معششاً في أوصالي
وتطرب لذكره كل ذرة في كياني
فيا أنت.. يا من يشهق بي قمره
إلى سدرة الأفلاك عجل سفره
بمائك الجاري صرت كالعجلة أدور
وطالما تدفقت مياه الجداول 
فسوف تدور العجلة ثم تدور
فكم من زنبقة ستبتسم وكم من زنبقة ستينع
فلتعلم أن كل الذرات في الهواء وفي الصحراء
منتشية ومتواجدة حد الجنون
وأن كل ذرة سعيدة أو شقية
مأخوذة بعشق الشمس الساطعة 
وتحترق شوقاً إلى مرابعها القصية
آه يا أنت.. يا من جعلتني صاحياً في حبك 
آه يا أنت.. يا شمعتي المتقدة في هذا العالم المظلم
أنا عود.. وأنت لا تنفك عن مداعبة أوتاري
ثم قلت “ألا تكف عن الشكوى؟”
فإذا بي أنصت إلى شدو العندليب الثمل
وإلى سماع رائع تهزج به الريح
فصرت لا أرى في الماء غير صورة المحبوب
أتنشق في الأزاهير حضوره الفاغم بالطيوب
وهل تدرك ما هو صوت الرباب؟
اتبعني لأهديك الطريق
لأنه بالخطأ تستبين لك السبيل
وبالسؤال تهتدي إلى الإجابة
لتنهض.. فإن سماع الأرواح قد بدأ
وغدا الدف المطيب رفيق الناي
والعشق القديم استعر وبات ناراً موقدة
فلم الصمت والجو يملؤه الصراخ
فمذ عرفت ماء ونار المحبة
في لهيب القلب تحللت تحلل الماء
وكالرباب عدلت أوتار القلب
وبريشة الحنين والشوق ائتلفت بالمحبوب
المحبوب ساطع كالشمس
والمحب يدور دوران الذر
وحين يتنفس النسيم في ربيع الحب
كل غصن طري يبدأ بالرقص
طالما بقي وجه الشمس ساطعاً 
فإن الصوفي يرقص رقص الذر
يقولون إن الشيطان أوقعه في الخطأ
وما ذاك الشيطان الرقيق إلا حياة الروح
بمحبتك أمضي ووجهي موهوب للسماء
وبمشيئتك لا أتوقف عن السعي والنداء
يقولون لي إنك حوله تدور.. فيا لسذاجتهم
إنما أنا حول نفسي أدور
كل جرعة تنسكب في فمي
أتشربها نسغاً للحياة في دمي
ولهذا ترقص السموات والشمس والقمر
ويتجلى ما كان مخفياً.. مستتراً
ليكن صوتك معدلاً لأوتار القلب
ولتناسمه بالليل والنهار نفحات الغيب
وحتى لا يعترينا الفتور
ليكن صوتك في عذوبة الناي الحزين


شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *