ما يفترضه المبدع


*أمير تاج السر

يقول الممثل الأمريكي المعروف ويل سميث، في حوار معه: إن السينما بما فيها من قصص جيدة، وتفاعل جماهيري عريض، يمكنها أن تغير الناس وأفكارهم إلى الأفضل، ويقول بعض المبدعين الذين ما زالوا يؤمنون بدور الكاتب والكتابة، في التنوير: إن الكتابة تغير الأمزجة للأفضل، وكذا يقول المسرحيون، ويقول كل من مشى في درب فني، أو إبداعي، أن دربه يمكن أن يساهم في تغيير العالم.

حقيقة لا يمكن إغفال دور الفن في إحداث التغيير الذي يقصده سميث وغيره من مبدعي السينما، ولأن السينما هي في النهاية، حقل مرئي، ويشد الناس أكثر من أي حقل فني آخر، فمن الممكن جدا أن تغرس فيه القصص الفاضلة، والأفلام التي تتحرر من العنف والرذيلة، والتي فيها جمال في الصور وجمال في المغزى، أو تلك التي تصور حالات إنسانية رائعة مثل فيلم «تايتنك» الشهير، حين صور لحظات الموت لأشخاص كانوا يعشقون الحياة، وأفلام سيدني بواتييه التي شاهدناها كلنا، في فترة ما، وويل سميث نفسه له أفلام جيدة ومتحررة من العنف وتحارب العنصرية بالفن. وكثير من النجوم العالميين امتلكوا ذلك الحس الإنساني العميق في تفاعلهم مع المآسي والكوارث، حيث يشاركون بالدعم المادي والمعنوي، في أفريقيا المحتاجة دائما لمثل ذلك الدعم، ومنهم من يرعى أطفال العالم الثالث الفقراء، ومن يتبناهم، كما نرى عند الجميلة: أنجلينا جولي، وهكذا تبدو السينما ومن يؤدي أدوارها من الفنانين الجيدين، أداة كبرى للتغير، وأعتقد أن العنف الذي نشهده الآن في كل مكان، حيث يموت الأبرياء بلا ذنب، وبلا أي شعور من القاتل أنه قتل أحدا، يمكن أن يحارب بقصص إنسانية، وحضور إنساني طاغ، ومحطات إنسانية، تغرس في كل مكان، ليدلي كل من أراد بدلوه.
بالنسبة لدرب الإبداع المكتوب، في شكل قصة أو شعر، وهو أقل جذبا للناس كما هو معروف، لا ينبغي أن يستسلم سالكوه للوهن وشح القراء والمتفاعلين، وأعتقد أن الصبر والمواظبة على كتابة القصص المرتبطة بالإنسانية، وتجسيد المعاناة مثل قصص الحروب الظالمة، والديكتاتوريات البغيضة، وقصص التشرد واللجوء لأوطان بديلة، يمكن أن يثمر في النهاية شيئا، فإذا كان التفاعل الكامل مع الكتابة، قد فتر في أجيال سابقة، وأجيال حالية، فلنحاول مع أجيال مستقبلية، عل شيئا يتعدل.
لقد تذكرت ما كان يسمى بالسينما المتجولة، وكنت أشاهدها في قريتنا في شمال السودان، حين أزور تلك القرية وأنا صغير بصحبة أهلي، في مواسم الصيف. كانوا يطلقون على برامجها، برامج التوعية والإرشاد كما أذكر، وكانت السيارة التي تحمل تلك السينما، شاحنة كبيرة، مغلقة، تأتي مرات عدة في العام، تتخذ مكانا واسعا في وسط القرية التي تزورها، ويتم بث الفيلم التوعوي، والناس مزدحمون، يشاهدون العرض على شاشة متوسطة، تثبت قرب السيارة. 
وعن طريق تلك الأداة الرائعة، الحية، كان المزارعون، يتعلمون كيف يحرثون الأرض بطريقة علمية، كيف يزرعون ويسقون، ويحصدون، وكيف يكافحون آفات الزراعة بما يتيسر لهم من الطرق، ووسط ذلك البث التوعوي، ربما يوضع شريط كوميدي لإسماعيل يس، أو شريط غنائي لأم كلثوم، أو دراما من كلاسيكيات السينما المصرية، آنذاك. وهكذا تبدو الرسالة في قمة الجمال والاكتمال. 
لقد كان زمانا جميلا بكل المقاييس، حيث الابتسامات كانت ملامح عامة، وواضحة، في كل الوجوه، والتحايا العطرة متوافرة عند الجميع، كانت أدوات الكرم أكثر من أدوات الشح، والعنف صفة متنحية، ومنهزمة أمام اللطف، وأذكر أن الجار الكبير، كان أبا حقيقيا لجميع أبناء جيرانه، والرجل حين يغيب عن بيته، يظل البيت محروسا دائما.
إذن التغيير نحو الأفضل، الذي نريده نحن من فورات الإبداع ودروبه كلها، ليس تغييرا كبيرا ولا مستحيلا، وقد كان الأفضل موجودا دائما في حياتنا، وتحسه ويحسه غيرك. نريد عودة الأفضل فقط، أن لا يكون القتل بالتفجير والذبح، وزراعة ألغام الموت في سكك المدنيين العزل، سمة، إن لم نتخذها اتخذها غيرنا، أن لا يكون ثمة تخوين، وادعاءات بامتلاك الحقيقة، عند من لا يعرفون الحقيقة، والآخرون مجرد طفيليات لا تستحق الحياة.
الروايات، وأعني القصص الطويلة والملحمية، من سمات هذا العصر، وفي بعضها كثير من الصدق والإنسانية، لكن تبقى مشكلة عدم قراءتها أو عدم الانتباه لما تحمله من صفاء إن قرئت، ولو علمنا أبناءنا قراءة الإبداع بالعيون والأدمغة نفسها التي تقرأ الكيمياء والفيزياء والرياضيات، لربما حدث شيء ما.
في زيارة قمت بها مؤخرا لدولة الكويت لفت نظري وجود جمعيات متعددة للقراءة، تقوم بتجميع الشباب لقراءة الكتب، ومناقشتها بعد ذلك، وأيضا دعوة الكتاب لإلقاء محاضرات وللنقاش مع القراء، وحفلات التوقيع، وكل ما له علاقة بالمعرفة، وأذكر جمعيات مثل: دوافع ودروب، والجليس، وغيرها،، كلها يقوم بالعمل التطوعي فيها شباب من الجيل الحديث، الذي نسميه جيل التكنولوجيا، ولا نعرف عنه الكثير، وباستفساري من عدد من المشرفين على تلك التجمعات، عرفت أنها في تزايد، وليست في الكويت وحدها ولكن في دول كثيرة، وتستقطب الشباب باستمرار.
هنا يمكننا أن نتحدث عن أمل في التغيير للأفضل، أو استعادة الأفضل، من رقدته، بطريق القراءة والكتابة، ولأننا في البلاد العربية، لسنا منتجي سينما معرفية، في الغالب، نتمنى أن يقوم ما نعرفه باللازم، وتبقى مقولة ويل سميث موجودة، وتساهم في بلاده حيث السينما أداة كبرى كما ذكرت، وحيث العنف المبالغ فيه، بحاجة للتصدي له.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *