*إبراهيم صموئيل
سلوك ضروري للغاية -كما يبدو لي- أن يختار المشتغل بالأدب أو الفن أصدقاء مخلصين بقصد اطلاعهم على أعماله الإبداعية قبل نشرها أو عرضها، إذ من شأن ذلك تأمين رقيب مختار اختيارا حرا, يشكل حماية وحصانة للمبدع من أي هبوط, أو تراخ, أو غرور.
وألحقتُ صفة الإخلاص بالأصدقاء المختارين, لأن ثمة أصدقاء لا يخلصون في آرائهم الإخلاص المأمول من المبدع, ظنا منهم أن الصراحة قد تجرح مشاعر صديقهم, أو وهما لديهم بأن من واجبهم كأصدقاء أن يكيلوا ما استطاعوا من الثناء والمديح لكل ما ينجزه صديقهم المبدع, أو لاعتقاد مغلوط في أذهانهم مفاده أن الكشف عن عيوب العمل الأدبي أو الفنّي, والإفصاح عن حقيقة الرأي ممكن مع الغرباء, ولكنّه حسّاس ومحرج مع الأصدقاء.
وبسبب ذلك, تغلب المجاملات -في معظم الأحيان- على الأحاديث الدائرة مع الأصدقاء المشتغلين بالأدب والفنّ عن أعمالهم, أو تبقى الآراء الحقيقية طيّ الكتمان, وتُعرض بدلاً منها “وجهات نظر” ملتبسة، غائمة، عائمة، تحتمل الوجهين، أملاً في أن يدرك الكاتب أو الفنان بنفسه مقاصد أصحابها ومراميهم، من دون أن يخاطروا بعرض آرائهم الحقيقية, فيفقدوا, أو يُضعفوا, روابط الصداقة جرّاء صراحتهم!
لا أذهب إلى القول إن أصدقاء الكاتب والفنّان مخادعون، أو مجاملون على الدوام، وبالتالي فهم مَنْ يتحمّل المسؤولية. صدق الرأي وصراحته من زيفه ومخاتلته يتحمّل مسؤوليته سامعه وقائله بالدرجة نفسها. ثمة كتّاب لا يتقبّلون النقد والملاحظات والآراء الصريحة، سواء وردت إليهم من أصدقائهم أم من القرّاء عامة.
أصدقاء مخلصون
وعدم تقبّل المبدع وجهات النظر الأخرى غير المتّفقة مع رأيه, سيكون له تأثيره الفعّال في تحفّظ الأصدقاء وتكتّمهم على آرائهم. بل إن عدداً من الكتّاب والفنّانين جفّفوا صلاتهم مع أصدقاء ممّن أبدوا آراءهم ووجهات نظرهم المخالفة بأعمالهم الأدبية أو الفنيّة.
وبالعودة إلى ضرورة اطلاع الأصدقاء، وخصوصاً قبل طباعة الأعمال أو عرضها، فإنني أعتقد أن آراء هؤلاء الأصدقاء المخلصين الشجعان هي ضمان العمل الأدبي والفنّي كي لا يهبط أو يضعف أو يسفّ. هي الرقيب الإبداعي غير المستبد الذي يختاره الكاتب بملء إرادته وحريته.
هي الحافظ من الانزلاق التدريجي -والذي يمكن أن يكون غير مُدرَكٍ من المبدع- نحو قاع الهاوية. وهي المساعد الغيور الذي يفصح عمّا يرى, ويشارك في متابعة مسار التجربة الإبداعية.
ما سبق ليس تخييلاً، ولا نتاج تأمّلات مثالية نظرية. ثمة أصدقاء مخلصون لا يخونون, ولا يمارون, ولا يلوذون بالتقيّة حين يُبدون آراءهم. ثمّة أصدقاء يقرؤون العمل بغَيرة عليه، وحرص بالغ، وتنبّه شديد كأنه لهم. وأيضاً, ثمة مبدعون يمتنُّون لكل الملاحظات السلبية ونقاط الضعف التي يشير إليها الصديق، ويحرصون على سماع تفاصيل التفاصيل, مدركين من أعماقهم سلامة نيّته, وصدق إخلاصه.
تلك الفئة من الأصدقاء لا غنى عن آرائهم وملاحظاتهم ليس فيما يتعلّق ببواكير الأعمال، وإنما بالنتاجات التالية أيضاً، بعد أن يشتهر الكاتب أو الفنان ويتكرّس مبدعاً, ذلك لأنّه قد يخال -والأغلبية الساحقة منهم يخالون!- أن الضعف أو التسرّع أو الهشاشة لن تأتي أعمالهم لا من أمامها ولا من خلفها, مهما كتبوا وأنتجوا وبلغوا من العمر.
قرار النشر
وواقع الحال أن الضعف والتردّي والهبوط الفني كثيراً ما يتبدى في الأعمال الأخيرة للعديد من الكتّاب والفنانين. ولعل القارئ يذكر -أو لعله لا يذكر على الأصح- الأعمال السبعة أو الثمانية الأخيرة لأحد أهم وأكبر وأشهر الكتّاب والروائيين العرب, حتى من قِبل أشدّ المعجبين والمتابعين لأدبه.
لا أسعى إلى استنتاج مفاده بأن تحديد سوية العمل الأدبي أو الفكري أو الفنّي, وقرار نشره أو عرضه ليس مصدره صاحبه، فالبداهة تقول إن القرار للمبدع أولاً وأخيراً، والمسؤولية عليه, وما من شخص يُقرر عنه.
بيد أن القراءة الأخرى، والعين الأخرى، والذائقة الأخرى المتمثلة والمشخّصة بذائقة وعيون المخلصين الشجعان من الأصدقاء بالغة الأهمية، وبالغة الفائدة، وأكاد أقول بالغة المنفعة الذاتية للمبدع, الذي قد يهوي بمستوى أعماله وهو يحسب أنه يرقى ويتألق مزيداً.
هل يحتاج الأمر إلى أمثلة مسمّاة من حقول وميادين ونشاطات عديدة, أنتج المشتغلون فيها أضعفَ أعمالهم في أرذل أعمارهم, دون أن يدركوا ذلك؟ وهل يحتاج الأمر إلى تأكيد مسؤولية أصدقائهم المُقرّبين في عدم قيامهم بلفت النظر والتنبيه الوفي, واكتفائهم بدور “حملة المباخر”, وهو الدور الأسوأ في مثل هذا المقام؟
______
*الجزيرة.نت