الترجمة عن اللغات الوسيطة… مَنْ يحاسب مَن؟


عماد فؤاد

على رغم التحولات السياسية التي تعصف بدول عربية عدة، تشهد أوساطنا الأدبية معدلات نشر ترتفع في شكل ملحوظ، خصوصاً في مجال الترجمات الأدبية، إنما عن لغات وسيطة، أهمها الفرنسية والإنكليزية. في الماضي، كنا نقبل بمثل هذه الترجمات لعدم وجود مترجمين أكفاء عن اللغات الأخرى، فقرأنا أعمال دوستويفسكي بتوقيع سامي الدروبي مترجمة عن الفرنسية، وقرأنا فرناندو بيسوا مترجماً عن الإسبانية بتوقيع المهدي أخريف، لكن، في ظل انتشار كليات اللغات في الجامعات العربية عموماً، يمكن أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يجبرنا على الترجمة عن اللغات الوسيطة؟ فالإحصائيات المتداولة تُفيد بأن نحو 90 في المئة من ترجماتنا تتم عبر اللغات الأوروبية والأميركية، وهو ما يؤكد أننا ما زلنا نعاني من تركيز اهتمامنا في هاتين البؤرتين، في وقت نجد عدداً من المؤسسات الثقافية التي اعتنت بالترجمة وحاولت المساهمة في رقيّها، كمؤسسة «عالم الفكر» الكويتية، والجهود الحثيثة التي قطعتها وزارة الثقافة السورية قبل عشرين عاماً، والمجمع الثقافي في أبو ظبي، والمنظمة العربية للترجمة في بيروت، والمشروع القومي للترجمة في مصر، وغيرها.

في محاولة تقصّي هذه الظاهرة التي استفحلت في السنوات الأخيرة، استطلعنا آراء بعض أبرز المترجمين العرب، لنفاجأ بالتباين الواضح في تلك الآراء حول ظاهرة لم يعد لها وجود في الغرب اليوم، بحيث يصعب إيجاد دار نشر ألمانية أو فرنسية أو إنكليزية توافق على نشر ترجمة تمَّت عن لغة وسيطة، فيما يُقبل الناشر العربي على هذه الترجمات معتبراً أنها «تسد نقصاً في المكتبة العربية»!
طبيعة المُتخيَّل
إذاً، ماذا عن المترجمين أنفسهم؟ هل ثمّة من يبرّر الترجمة عن اللغات الوسيطة اليوم؟ أم أنّ الظاهرة لم تعد مقبولة نتيجة الانفتاح الثقافي في زمن العولمة؟ في الواقع، أجوبة المترجمين العرب النشطاء كانت متباينة إلى حدّ كبير، وتنمّ عن عدم اتفاق حول هذا الموضوع. فالشاعر والمترجم المغربي مبارك وسَّاط، الذي يترجم عن الفرنسية، قال في هذا السياق: «قد يُقدّم لنا مترجمٌ ما نصّاً ممتازاً ولصيقاً بالأصل حتّى وإن ترجمه من لغة وسيطة، وذلك في حالات خاصّة تتوافر فيها شروط عِدّة، من بينها إدراك ثاقب لطبيعة مُتَخَيّل الكاتب الذي يُترجِم له، ولخصوصيّات نظرته إلى العالم، ولما يُشكّل تفرّده الأسلوبي، ومعرفة ممتازة بالعربيّة طبعاً، بحيث يستطيع المترجم أن يقدّم لنا نصّاً عربيّاً له على وجه التّقريب المقوّمات التّخييلية والأسلوبيّة نفسها التي للنص في اللغة الوسيطة التي يترجم عنها، حتّى إذا كان هذا الأخير أميناً للأصل، كان النص العربي أيضاً كذلك، أمّا إذا لم تتوافر الشّروط المذكورة، فلن يُقدّم المترجم نصّاً جيداً سواء اشتغل على الأصل مباشرة، أو على نصّ وسيط».
الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم، لا يعتبر أن الترجمة عن لغة وسيطة «مسَبّة» (شتيمة)، مضيفاً: «أنا أفعل ذلك أحياناً، لكني أفعلها في حالة ما لم يكن النصّ قد سبقت ترجمته إلى العربية، أو أنه نصّ ثريّ أُعمل فيه مِبضَعي، إلى حين يتوافر أحد آخر على النصّ الأصليّ ويقوم بترجمته (كما فعلتُ في ترجمتي رواية «جوستين» للماركيز دو ساد)، وهو بالطبع إحدى الحُسنيين، فاللغات الأوروبية تتشابه في البنية والتراكيب اللغوية، وحين يُترجم نصّ من الفرنسية إلى الإنكليزية أو سواها، فإنه لا يفقد كثيراً، لكنه يحتاج إلى مقدرة وسطوة بلاغية من مترجم خبير، حتى يصل إلى قرابة من النصّ الأصليّ أو يكاد. المهم في هذه المسألة شيئان: أولهما، ألاّ يقوم على الترجمة مترجم ضعيف، فهو يقدم مصائب لا تُغتفَر في هذه الحالة، وهو ما شاع أخيراً للأسف، وثانيها، أن يكون النصّ أصلاً ذا قيمة، فليس كلّ ما يأتي من «الآخر» يعني أنّ له قدسية، عليك أن تبذل وعيك في انتقاء النصوص التي ستقوم بترجمتها».
مطلوبة رغم الخيانات
يعتبر الروائي والمترجم العراقي عبدالهادي سعدون (يترجم عن الإسبانية)، أن المترجم شريك أساسي في إعادة الكتابة للنص المنقول، فمهمة المترجم في رأيه هي: «إيجاد بدائل وحلول للنص المترجم ولا أقول إن عليه إنشاء نص آخر بعيد من الأصل، فالترجمة الحقيقية الوافية هي تلك التي تستفيد من الإمكانات المتاحة كي لا تخّل بروح النص وخصوصيته السرية المكتوبة بلغته. أما عن الترجمة عن اللغات الوسيطة، فمن الطريف ذكره أننا تعرفنا على الأدب المكتوب بالإسبانية من طريق آداب أميركا اللاتينية خصوصاً، بل وحتى الأسماء المعروفة في الأدب الإسباني وصلت إلينا من طريق الترجمة من لغات أخرى غير الإسبانية مثل الإنكليزية والفرنسية تحديداً، بطبيعة الحال يبقى الأدب المكتوب بالإسبانية مهمشاً وضعيف الوصول إلى القارئ العربي إذا استمرّ النظر إلى الآداب وفق القيمة السياسية والجغرافية للبلد، وبالتالي فعملية التساؤل عن هذا كله ستستمر. أوضح هنا أنه خلال السنوات العشر الأخيرة، تُرجم إلى العربية من الأدب المكتوب بالإسبانية أضعاف ما تُرجم طوال القرن العشرين، ومع ذلك ما زال أمامنا بحر شاسع من الإبداع الذي يجب نقله إلى القارئ العربي». ويختتم السعدون قائلاً: «في النهاية، الترجمة مفيدة حتى مع خياناتها المتكررة».
الحاجة إلى «النص»
لم يُرِد المترجم الجزائري الخضر شودار، أن يقوِّم حال الترجمة ومستواها عربياً، لأنه لا يمتهن الترجمة ولا يمارسها ضمن مؤسسات خاصة، وإنما: «هو عمل فردي لتخصيب مطالب الكتابة الشعرية وإضافة بعض القراءات من ثقافات أخرى إلى مخيلة القارئ. الترجمة من لغة وسيطة هي غالباً ترجمة اضطرارية تعبر عن ندرة كفاءات في الترجمة من اللغة الأولى. تتوقف الترجمة الوسيطة على ثقافة المترجم ومهارته وإحساسه الخاص بما يترجمه. إذا كنت تقرأ كاتباً مثلاً، في لغة وسيطة على الدوام، ستتشكل لديك معرفة خاصة بملامحه وستعرف – إذا كنت مثلاً تتكلم لغة أو لغتين أوروبيتين – مدى القرابة الممكنة التي تستشفها بنفسك، أعتقد أن اللجوء إلى لغة وسيطة سببُه الحاجة أولاً إلى «النص» المترجَم. أتحدث هنا عن الشعر بخاصة. ثم هناك العجز أو النقص الذي نعانيه في الترجمة من اللغة الأولى. شخصياً، لا أميل كثيراً إلى الترجمة من لغة وسيطة حين يتعلق الأمر بكتاب أو نص كامل. أمارس هذه الترجمة من وقت الى آخر على نصوص أشعر بأنني أستطيع أن أنقل أثرها العميق الذي أحسّه في نفسي.
وهـــنا تصبح الترجمة كما يقول أدورنو، تأويلاً. يساعدني في ذلك، الاستئناس الطويل بالكتابة الشعرية وإحساسي باللغة، مستعيناً في كثير من الأحيــان بقراءة الشاعر نفسه، صاحب النص للترجمة الأولى كي أستفيد منها في ترجمتي الوسيطة».
في سياق آخر، يؤكّد المترجم والكاتب المصري ياسر شعبان، بداية، أنّ الترجمة عن اللغة الأصلية هي الأفضل، لكنه يضيف – مع استدراك بسيط هو – «طالما كان ذلك ممكناً». لكنني سألجأ إلى منهج أحبه وأسعى إلى تطبيقه دائماً، مستمد من كتابات إدوارد دي بونو حول التفكير الجانبي والمتجدّد، ويعتمد على طرح سؤال مغاير للوصول إلى إجابة أقرب إلى الصحة وليس إلى البداهة، لأسأل: لماذا حركة الترجمة في العالم العربي كلّه أقل من الترجمة في إسبانيا على سبيل المثل؟
الأسباب كثيرة، من بينها محدودية عدد المشتغلين بالترجمة مقارنة بالمتخرجين في كليات اللغات المختلفة، كذلك ضعف مؤسسات الترجمة في العالم العربي من حيث الرؤية والتمويل والتسويق، إضافة إلى عدم التعامل مع الترجمة بوصفها مهنة احترافية تحتاج الجمع بين الدراسة والموهبة، وتتطلّب وجود ضوابط قانونية للحفاظ على حقوق المترجمين عند تعاملهم مع جهات النشر، سواء كانت خاصة أو حكومية.
وهكذا في وسعي أن أزعم أننا نعاني من مشكلات كميّة وكيفية في مجال الترجمة إلى العربية، بينها الخلاف المهني حول الترجمة عن اللغة الأصلية واللغات الوسيطة. فلا يخفى على أحد أننا عرفنا الأدب الروسي عن لغة وسيطة هي الفرنسية، وأن الأدب الياباني عرفناه من ترجمات عن الإنكليزية أنجزها كامل يوسف حسين، وكذلك الحال مع الأدب البرتغالي، وهنا أتساءل مجدداً: وماذا عن العبق، هذا الذي يتضاءل بين الأصل ونسخه (وفق فالتر بنجامين)؟ أرد متسائلاً، وماذا عن العبق الذي يتطاير إلى حد التلاشي عند تحول الأفكار والتصورات والخيالات إلى كتابة، لوحة، صورة، عرض مسرحي أو سينمائي؟ هنا تكمن الموهبة والقدرة على الإبداع، سواء في شكل أوَّلي بتحويل الأفكار إلى كتابة، أو في أشكال تفاعلية تؤدي إلى توالدات إبداعية بالترجمة أو كتابة سيناريو من أصل روائي أو رسم لوحة. ففي الترجمة، العبق لا يضيع تماماً مثله مثل الطاقة، بل يتحول إلى أنواع أخرى من العبق وفقاً للثقافة التي تتم الترجمة إليها، هكذا أظن، شيء أشبه بتحوّل الرحيق إلى العسل».
__________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *