سُمّ الكاميرا


يحيى سلام المنذري

(1)

رن جرس الباب. خفق قلبه. وقف مخترقا سحب الدخان. ردد في نفسه قائلا: «يد ناعمة تضرب جرس الباب».
مشى خطوتين وأردف بزهو: «يا لسحري.. نعم.. أراهن نفسي بأنها فتاة.. وسأكسب الرهان».
أطفأ سيجارته، وتوجه ببطء ناحية الباب وفتحه. كانت هناك فتاة منقبة رثة الملابس. عيناها واسعتان. تنهد بارتياح وسعادة. أشهر لها ابتسامة مصطنعة، وقال: «أهلا وسهلا.. أية خدمة؟».
وبدون تردد أجابت: «السلام عليكم.. أعتذر، ربما أزعجتك، لكني أريد مساعدة».
نكست رأسها. حدق فيها بخبث. كان السواد يغطيها. رفعت رأسها ببطء وبعينين دامعتين واصلت كلامها: «زوجي مات في حادث.. وعندي خمسة أولاد».
حك جبينه، وتظاهر بالتفكير، وقال لها: «سأعطيكِ عشرين ريالاً، ولكن بشرط».
كان جوابه صادماً. اتسعت حدقتا عينيها، قالت بتردد واستغراب: «شرط؟! ما هو؟».
خرج بكامل جسمه من الباب. أصابها الخوف عند تفحصها لطول قامته، وامتلاء وبياض وجهه. قال لها: «أرغب في تصويرك.. شرط أن تخلعي هذا النقاب».
ترددت. حدقت في الفضاء. ثم قالت: «ما هذا الشرط؟ أرجوك أعطني أي شيء ودعني أذهب إلى أولادي».
قال بغضب: «لا توجد مساعدة.. هيا اذهبي من هنا ولا ترجعي».
صمتت. بان الحزن عليها. همت بالمغادرة. خطت خطوتين. كان لا يزال واقفا يرقب ذهابها وكأنه واثق بأنها سترجع. وقفت واستدارت. ثم رجعت. وقالت له: «طيب. أنا موافقة، لكن أرجوك أن تزيد المبلغ.. الله يحميك».
قال بارتياح: «طيب.. سأعطيك ثلاثين ريالاً».
ثم أمرها وقال: «تعالي.. أدخلي».
ترددت مرة أخرى. ثم دخلت. أحست بثقل في قدميها. هناك قوة تشدها إلى الخارج. وقوة أخرى أقل تشدها إلى الداخل. الأسئلة تختلط بالنبضات المتسارعة لقلبها وتنهشها. نظرت في اللوحات المعلقة على الجدران، وقد تحولت إلى وحوش. كأنها دخلت في فيلم رعب. ثم تحولت اللوحات إلى صقور مفترسة انقضت عليها. أصابها دوار. كادت تسقط. تداركت الوضع. انتبهت الى كل شيء حولها. تذكرت أولادها. تذكرت هدف دخولها الى هذا البيت الفاخر. سمعت صوت الرجل يناديها أن تأتي باتجاه الكرسي. كان جسمها يرتعش وكأن حمى غرزت أظافرها في لحمها.
ببرود تناول هاتفه وأغلقه. رماه في الدرج، ثم قال لها محاولا أن يبث الطمأنينة فيها: «لا تخافي.. أنا فقط سآخذ لك بعض الصور».
رفع رأسه وأردف: «أنا فنان».
رآها متجمدة وواقفة في مكانها، فقرر أن يصرخ: «اجلسي على هذا الكرسي».
صوته أمسكها من عنقها ورفعها إلى الأعلى. تقدمت بسرعة وجلست على الكرسي. قالت له: «أعطني أولاً حقي».
بدون تردد مشى باتجاه طاولة وأخرج منها محفظة. عاد إليها وأعطاها النقود. كانت يدها ترتجف حينما أمسكت النقود الورقية.
تناول بعد ذلك وسادة من أريكة مجاورة. توجه إلى الفتاة وهي مشغولة بِعد النقود. وبشيء من السرعة والقوة غطى وجهها بالوسادة. بدأت تتحرك بقوة وتقاوم. لكنه كان قويا جدا. وبعد ضغط مستمر جمدت المرأة. جلس على الأرض وأخذ قسطا من الراحة. بعد ذلك انتصب واقفا مثل المسمار. رفع عن رأسها النقاب. انكشف وجهها. تأمله قليلا. ذهب إلى خزانة خشبية وفتح أحد أدراجها وأخذ منه حبلا متينا كان مجهزا كمشنقة.
عاد إلى المرأة. ضبط مقاس الحبل، ثم لفه حول رقبتها. فتح فمها وسحب لسانها إلى الخارج. وجه الكاميرا باتجاه مشهد رأسها. ثم ذهب إلى خلف الكاميرا وبدأ في التصوير. فلاشات متكررة ومتسارعة. وصوت الكاميرا كان يكسر الصمت. كان هو يسبح في بحر متعته.
(2)
وصل بسيارته الفاخرة إلى مدينة مطرح. توغل في الأزقة المتهالكة. على الكرسي الذي بجانبه وضع كاميرا تصوير كبيرة. وكمن يبحث عن شبح، حدق في المارة من خلف نظارة سوداء. أطال النظر في وجوه أطفال يلعبون، وحدق في بؤس متسولين وبائعين ونساء. كلما كان ينجز هذه الجولة كان يتذكر رحلات السفاري في البلدان التي سافر إليها، ويطفح سعادةً وزهواً، ويرى نفسه ماردا مختفيا لا يراه الآخرون. هو فقط من يراهم ويتحكم فيهم. يظل ينتفخ وينتفخ حتى يفقد وعيه. ثم يدرك بأنه يقود سيارة، وأنه هائم بين بنايات قديمة أكل منها الدهر أجزاء من حياتها، وأخذ يحاول استبعاد فكرة أنه لا يزال إنسانا ضئيلا.
ل يجوب الأزقة لأكثر من نصف ساعة، وبعد ذلك توجه بسيارته ناحية السوق. وصل عند بوابته وأوقف سيارته، لكنه لم ينزل منها. ظل يحدق في وجوه وتعابير الناس. نساء عمانيات يمشين بعباءاتهن السود، العرق ينز من وجوههن، وبعضهن يحمل أكياساً وأطفالاً، باعة جوالون افترشوا الأرض يبيعون بعض الحلويات والأجبان البيضاء الكروية التي صنعوها في بيوتهم. داهمه رجل كبير في السن مشعث الشعر، دشداشته ممزقة وملطخة بالسواد كأنه رماها في صندوق فحم قبل أن يلبسها. تقدم الرجل تجاه السيارة وطرق زجاج نافذة سيارته، لكن صاحب السيارة لم يعره أدنى اهتمام، بل قاد سيارته ورحل غاضباً.
***
جدران بيته مطرزة باللوحات، مشاهد طبيعية، وجوه وأماكن نادرة. جلس مزهوا على كرسي هزاز يدخن بشراهة. دخان السيجارة يتلوى بطيئا ليغطي لوحات قريبة إلى قلبه، لوحات يعتبرها من أجمل ما أبدع؛ لوحة بورتريه لفتاة تصرخ بألم. لوحة بورتوريه لصبي يتدفق الدم من رأسه. لوحة لرجل يلبس نظارة سوداء إحدى عدستيها مكسورة. صورة لفتاة وسكين مغروزة في رأسها. ولوحات أخرى كثيرة معلقة في الغرف. واللوحات ليست وحدها من تبقع الجدران، بل هناك أسلحة مثل سيوف وخناجر وبنادق. كما أن هناك كتبا مبعثرة على الأرضية وعلى طاولة وضعت في زاوية الصالة، ويبدو أن الكتب ما تزال جديدة لم تقرأ بعد.
كان يمسك ولاعة فاخرة ويلعب بها. يستمتع بإشعالها وإطفائها. ينظر إلى السقف تارة وإلى اللوحات تارة أخرى ويتنهد براحة وسعادة. في نهاية الصالة طاولة رص عليها -بدون تنظيم- دروعاً وميداليات وجوائز وشهادات تقدير ونسخاً من جرائد نشرت مقالات عن تكريمه في مناسبات عديدة. في ركن آخر من الصالة أستوديو تصوير مصغر يحتوي على كاميرا تصوير فاخرة وضعت على حامل مصنوع من الألمنيوم، أمامها كرسي فاخر خلفه ستارة سوداء.
رن هاتفه النقال. رمى بالولاعة على الطاولة وتناول الهاتف وحدق في الشاشة المضيئة، وبشيء من الإرتباك والسرعة، ضغط على زر الرد، وقال: «ألو.. مساء الخير طال عمرك.. كيف الحال؟».
ثم قال: «نعم.. بالنسبة لموضوع الموظف مسعود.. عملت اللازم.. رسالة نقله ستكون أمام مكتبك غدا.. لا تقلق طال عمرك».
«………………………»
«صحيح؟ إنه لا يعرف الخجل هذا التعيس.. لسانه طويل.. حتى أنا وصفني بالديكتاتور.. الله يهديه.. مع أنه يعرف بأنني فنان ومصور وخدمت البلد.. لكن لسانه طويل».
«………………………»
« أرجوك طال عمرك.. أمسحها فيّ.. عموما يستاهل النفي».
«………………………»
«حياك طال عمرك.. والله يخليك ذخر لنا».
«………………………»
«سأنتظر.. سأنتظر طال عمرك.. مع السلامة».
أغلق الهاتف. رمى به بغضب على الكرسي. بصق في الأرض، وصرخ قائلا: «تفو.. تضحكوا علينا.. انتظر وانتظر.. خمس سنوات وأنا أنتظر».
ينهض. يمشي. يواصل غضبه ويقول: «خدمنا البلد أكثر منهم».
(3)
انتبه فجأة إلى صوتها تناديه: «لو سمحت، أنا تأخرت على أولادي».
بعد أن لمح الوسادة، شعر بأن ما تخيله كان لذيذا، كانت لديه رغبة جامحة في تنفيذه، لكنه خاف على مجده وشهرته ومنصبه الحساس، ويكفي أن يصورها في مشهد تمثيلي. تذكر رئيسه في العمل، وانتابه غضب، ورجع إليها، ونهرها قائلا: «يعني بعد أن أخذتِ النقود، تريدين أن تخرجي دون أن تنفذي الاتفاق».
أصابها الهلع، ودمعت عيناها وقالت بتوتر: «أأ..أنت تـ تـ تأخرت علي».
كان يرمقها بغضب، تحولت إلى ورقة ذابلة، أجهشت بالبكاء، وبالكاد استطاعت أن تقول: «أولادي.. ينتظرونني، أرجوك دعني أنتهي من هذا.. وأذهب في حال سبيلي، أرجوك».
أحس وكأنه تعرض للإهانة، ولكنه كظم غيظه وقال: «استمعي.. أنت أخذت أكثر مما تستحقين، وعليك أن تنفذي ما قلته لك».
أزاحت النقاب عن وجهها. وكما أمرها، أخذت الحبل المتين ووضعته حول عنقها. أمسك رأسها وسحب لسانها إلى خارج فمها. شعرت بأن جسدها يحترق، وأن أطفالها يحاولون الركض باتجاهها لكنهم لا يستطيعون.
_________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *