أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله.. في مصارعة الديكة


القاهرة- أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وجهان، جاءا من الصعيد إلى القاهرة، أقاما فيها عمراً قصيراً، وباغتهما الموت بمنجله القاسي، بعد أن تركا في الشوارع حكايات، يرددها الآتون من بعدهما، وبعد أن تركا منجزاً إبداعياً كبيراً بالقيمة، لا بغزارة الإنتاج، كلاهما فارق الحياة عن 43 عاماً، فالأول (الشاعر أمل دنقل) ولد في العام 1940 ورحل عن العالم في 21 مايو/أيار 1983، أما الثاني (القاص يحيى الطاهر عبد الله) فقد ولد في 30 إبريل/نيسان 1938 وتوفي في حادث سيارة على طريق الواحات في 9 إبريل/نيسان 1981.

كانا يعيشان في زمن الكبار، حين يقدم يوسف إدريس، يحيى الطاهر عبد الله بمقال، ويودعه بآخر يقول فيه: «كان ابن موت، الموت ذلك القضاء الحق، مات يحيى، هكذا نعاه لي الأبنودي في منتصف الليل، ووجدت نفسي كالأطفال أبكي عجزاً»، هو يوسف إدريس نفسه الذي كتب بعد رحيل أمل دنقل: «لن أطلب منكم الوقوف حداداً فنحن إذا وقفنا حداداً، سيكون الحداد على العصر الذي سيمضي، حتى يشب فيه رجال لهم شيم الرجال، الذين كان يراهم أمل دنقل، وشرف ونبل وإنسانية وشجاعة ورقة الرجال، الذين استشهد أمل دنقل وهو يراهم، هم البشر، ويحلم برؤيتهم».
عبد الرحمن الأبنودي كان طرفاً أصيلاً وشاهداً على العلاقة بين يحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل، فكيف تعارفا؟، يقول الأبنودي في أحد مقالاته أنه ذات صباح شتائي دخل إلى مكتبه بمحكمة قنا الشرعية شاب نحيل الجسم جداً ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مساً وقال في عظمة: هل أنت عبد الرحمن الأبنودي؟ أنا يحيي الطاهر عبد الله من كرنك الأقصر، جئت للتعرف إليكما، أنت وأمل دنقل.
يقول الأبنودي: «فوجئنا- أمل دنقل وأنا- أن يحيى شديد النهم للقراءة وأن اطلاعاته الأدبية تفوقنا بكثير، ولأول مرة في حياتنا نكتشف إنساناً، ينتمي حقيقة إلى الثقافة، يدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق، ما يدل على أنه اتخذ الثقافة أهلاً ومنهج حياة وداراً وعائلة، ويتحزب تحزباً مصيرياً لما يعتقده».
لم يكن أمل دنقل رقيقاً مع يحيى- كما يكتب الأبنودي- وإنما كثيراً ما كان يترجم حبه له في شكل شجارات ومعارك، كانت تكشف عن مساحات رائعة في ثقافة يحيى وخيالاته الجنونية الجامحة، التي لا حد لحريتها، وفي كتاب عبلة الرويني «الجنوبي» إضاءة أكثر وضوحاً لطبيعة العلاقة بين يحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل: «كان (الطاهر) واحداً من أقرب الأصدقاء إلى قلب أمل ووجدانه، رغم ما احتوته علاقتهما من اشتباك متواصل، يتخللها فترات هدنة قصيرة للغاية، كان يوحدهما هذا الإخلاص الشديد لإبداعهما، وتلك القدرة الثاقبة على التقاط أدق الأشياء، وتلك القدرة الواعية الكاشفة، مع الحرص على أن يكون كل منهما نفسه».
تواصل الرويني: «سكن معه شهراً واحداً بفندق الخليج بشارع طلعت حرب، سماه أمل شهر العذاب، فلم يكن يحيى يسمح لأمل بالهدوء لحظة واحدة، ويحول دون الصمت الذي يعشقه أمل، وفر كلاهما من السكن، ورغم هذا الاشتباك المستمر، فلم يكن أحد يجرؤ على الإطلاق بالخوض في سيرة يحيى أمام أمل، وإلا انفجر غاضباً وعنيفاً، كما كان يحيى في ثوراته الشديدة يلعن أمل، فإذا لعنه الآخرون وهم معه، فيغضب منهم، معلناً أنه الوحيد على هذه الأرض، صاحب الحق في سب أمل دنقل».
عندما أجرى أمل الجراحة الأولى بعد إصابته بالسرطان، زاره يحيى وقال: «لماذا ينبغي أن يموت أمل بينما يظل أولاد…. أحياء؟ وبكى، ولم يزره مرة ثانية، إلى أن مات في حادث سيارة ورفض أمل الاشتراك في كل مراسم غيابه.
تقول الرويني: «لم يتكلم في تفصيلات الموت، لم يثرثر بشكل عاطفي، حول يحيى، كما كنا نفعل جميعاً (إن يحيى خاص بي وحدي) قالها وبكى، كانت هي المرة الأولى التي أرى فيها دموع أمل».
عندما كتب أمل آخر قصائده «الجنوبي» كان يحيى الطاهر عبد الله أحد وجوه القصيدة، وكما تؤكد الرويني: «لطالما عذبت أمل كثيراً محاولة استحضار يحيى داخل القصيدة، ففي كل مرة يحاول أمل استحضاره شعرياً يهرب يحيى وتهرب القصيدة، ويظل أمل يواصل نداءه فلا يستجيب يحيى، هل كان إلحاح أمل على القصيدة يستفز يحيى الذي لم يكن يشأ أن يكون مجرد قصيدة يكتبها أمل فيكف عن النداء أم كان يريد نداء أبدياً لا ينتهي حتى يتلاقى وأمل؟
وكانت القصيدة: «ليت أسماء تعرف أن أباها صعد/‏ لم يمت/‏ هل يموت الذي كان يحيا/‏ كأن الحياة أبد/‏ وكأن الشراب نفد/‏ وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد/‏ عاش منتصباً بينما/‏ ينحني القلب يبحث عما فقد».
___________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *