حميد زناز
ما هي الأسباب التي عطلت لغة الكلام والثرثرة المعتادة لدى أغلبية المثقفين الفرنسيين أمام ظاهرة داعش؟ لماذا هذا الصمت المدوّي أمام هذا الكيان الإرهابي المؤسس، ليس على احتراف سفك دماء غير المسلمين والمسلمين المخالفين لأيديولوجيته القروسطية فحسب، بل لا يخفي نيته في التخطيط لتقويض صرح الحضارة الغربية ذاتها؟
كان من المنتظر أن يتحرك المجتمع المدني الفرنسي وينبري المثقفون للوقوف أمام هذا الخطر غير المسبوق الذي بات يهدد حياتهم وقيمهم في عقر ديارهم.
هم الذين لا يتركون لا كبيرة ولا صغيرة إلا وقتلوها نقاشا، هم الذين يتبجحون بأن فرنسا هي بلد التفكير والجدل بلا منازع، نجد أغلبهم اليوم كصمّ بكم كأنهم لا يسمعون دويّ طلقات الكلاشنكوف والتفجيرات في شوارع مدينة الجنّ والملائكة، باريس! وقد غدت أقلية منهم لا تفارق بلاتوهات القنوات التلفزيونية حتى أصبح يخيّل لمستهلكي البرامج الإخبارية المتواصلة المملة أن بعض المفكرين قد تحولوا إلى منشطين على بعض القنوات، يكررون ما يطرب المشاهدين.
بالأمس غير البعيد، حينما كان النظام الإسلاموي السوداني يجوّع ويقتل في دارفور ويرتكب الموبقات في حق سكان الإقليم، أسس مثقفون “لجنة طوارئ من أجل دارفور”، أشركوا فيها حتى المتأهلين للدور الأخير من الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2007، نيكولا ساركوزي وسيغولين روايال. وقبلها، حينما كانت سراييفو محاصرة، تحت رحمة الصرب، انتفض مثقفون فرنسيون من الوزن الإعلامي الثقيل، من بينهم باسكال بروكنر وآلان فيلكنكروت وغيرهما وأسسوا لجنة “فوكوفار سراييفو” التي لعبت دورا كبيرا في التأثير على الأحداث آنذاك بتجنيد قوى سياسية وثقافية كبيرة من أجل رفع الحصار على أهل المدينة وتحريرهم من قبضة المتطرفين الصرب.. ولم تتوان الطبقة المفكرة في هذا البلد عن التدخل تفكيرا وممارسة في كل القضايا المصيرية إلى ماض قريب.
لقد تدخل المثقف الفرنسي دائما وبفعالية في “ما لا يعنيه” كما كان يقول الفيلسوف سارتر، بل هكذا كان يُعرّف المثقف… ولكن وصلنا إلى زمن لم يعد هذا المثقف يتدخل حتى في الشأن الذي يمسّه في حياته اليومية. فلماذا هذا التردد كيلا أقول الانسحاب أمام هذا الغول الأصولي الزاحف؟
أعتقد أن مردّ الارتباك الذي يعيشه المثقفون في فرنسا هو ذلك التخوف المزمن من أن يفهم خطابهم المعادي للأصولية الإسلامية على أنه خطاب ضد الدين الإسلامي ذاته، وهذا قد يلصق بهم تهمة العنصرية والاصطفاف وراء أطروحات الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان. وهو شعور عززه الإسلامويون بغية تأثيم كل من ينتقدهم من أجل إسكاته. وهكذا بات ينظر إلى كل من يدافع عن العلمانية في فرنسا اليوم على أنه من أنصار نظرية “صدام الحضارات” ومن المروّجين للإسلاموفوبيا، الخوف اللاعقلاني من الإسلام.
وتفاديا للسقوط في هذه الحفرة التي لا يمكن الخروج منها إن سقط فيها أحدهم، التزمت الأغلبية المفكرة إمّا الحذر و إما الحياد وامتنعت عن التفكير في الموضوع بل وتركته لعبث الخبراء، أمنيين واستراتيجيين ونفسانيين وغيرهم من الذين ينظرون إلى الأصولية من الجانب المختصين فيه فقط. وهكذا وجد المفكرون أنفسهم مكبلين داخل أسوار براديغم طريف هو “حذار من الشبهة” أو “لا للخلط” بين الإسلاميين والمسلمين.
وقد وصل الأمر يبعضهم إلى الاكتفاء بالدفاع عن فكرة واحدة لا تقدم أيّ تفسير أو فهم أو سبل مجابهة للأصولية عموما وداعش بشكل خاص، هي تلك القائلة بعدم وجود أدنى علاقة بين الإسلام والتطرف. وحتى وإن كانوا في قرارة أنفسهم يربطون بين العنف الذي يمارسه الإرهابيون والتطرف الديني، فيبقى التفكير في هذا العنف محاطا بكثير من الموانع والمحرمات والجهل، لأنه لا يدخل ضمن إطار قراءاتهم المعتادة حيث لم تعد فكرة الدين التي يحملون محمّلة بمضامين اجتماعية أو ثقافية بسبب العلمانية التي جعلت من الدين قضية شخصية فردية.
فالجهاديون مثلا ليسوا بــ”الجانحين” إذ لا يخافون من الموت، بل يطلبونه فهو قد يرفع من شأنهم في نظر إخوانهم، بينما يهابه الجانح العادي، فاللص يريد التمتع بما سرق والمغتصب يريد أن يستمر في أفعاله… وهي جرائم ومخالفات يحاربها المجتمع بتهديد مرتكبيها بعقوبات تمنعهم من الاستمرار في ارتكابها وكل النظام القضائي الحديث مبني على منطق أن عقوبة الإعدام هي أقصى عقوبة يمكن أن تثني المجرمين عن تنفيذ مشاريعهم الإجرامية. ولكن حينما نكون إزاء أفراد لا يكترثون ويحضّرون أنفسهم للموت عن طريق أحزمة متفجرة، فكل المنظومة الردعية تتهاوى وتصبح غير ذات جدوى.
كما أن الجهادييين ليسوا بـ”المقاتلين” الكلاسيكيين، لأن هذه المقولة القانونية مرتبطة بمواثيق دولية تنظم الحرب، وإن سمحت للبعض أن يقتلوا في ظروف معينة، فهي تلزمهم باحترام مبدأ الاستقامة العسكرية والمتلخّص في عدم الاعتداء على غير المسلحين، وغير العسكريين، وعدم استعمال الأسلحة المحرمة، والامتناع عن المبالغة في استعمال العنف، واحترام الأسرى وعدم تعذيبهم أو قتلهم. باختصار، وجوب الاعتراف بالمقاتل في الجهة الأخرى على أنه مجرد عدو فقط. ومن هنا فلا علاقة للمقاتل الجهادي بكل هذا، هو الذي يطلق النار على المدنيين، غير المسلحين أصلا. والذي ينهي حياتهم وهم على الأرض جرحى يستجدّون عطفه، والذي لا يتوانى في تفجير نفسه ساعة المواجهة مع قوات الأمن.
كيف يمكن فهم من يعتبر نفسه مخلصا للإنسانية من ضلالها من قبل من غابت عن أذهانهم فكرة الخلاص أصلا؟ كيف يمكن كنه نفسية من يعتبر نفسه خليفة الله في الأرض من طرف مفكرين أبعدوا فكرة الله نهائيا من قراءاتهم للواقع؟ كيف يمكن لمن لا يؤمن بالغيب جملة وتفصيلا استنطاق عقل تحرّكه فكرة النجاة وتسيل لعابه فكرة الجنة والحوريات؟ وكيف له أن يتمثل خصوصية الإرهاب الجهادي؟
من هنا أصبح من الصعب عليهم أن يفكّروا في عنف قد يكون مصدره الدين ولذلك تراهم يبحثون له عن أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية وغيرها.. ولا يمكن لهم فهم داعش وما تفعله قبل أن يغيّروا نظرتهم جذريا عمّا تعني كلمة “دين” في لغتهم وتصوراتهم وعمّا يمكن أن يحدثه التطرف الديني الإسلامي من كوارث نظرا لخصوصيته، التي يعجزون عن تمثلها نظرا لخروجهم من التدين الشامل منذ قرنين ونيف، كما جاء سالفا. المثقف الفرنسي هو اليوم ضحية مقولات ومفاهيم نفسية وقانونية راسخة منذ زمن بعيد لم تعد كافية لفهم الواقع المتجدد الوافد من ثقافات أخرى غير غربية.
أليس من المضحك حقا أن يصرّح أحد أهم الفلاسفة في فرنسا اليوم وصاحب نظرية “المسيحية دين الخروج من الدين”، مارسل غوشي، بعد اعتداءات باريس مباشرة لجريدة لوموند أن إعادة إحياء الأصولية الإسلامية، هو بشكل مفارق، علامة من علامات بداية “خروج من الدين”، غير منفصل عن العولمة التي ستوقف انتشاره؟
_____
*العرب