*إبراهيم غرايبة
في بحثهما عن المعنى، يقدم الدين والفن كلا منهما إلى الآخر معان ووظائف وآفاقا يستدل بها على الصواب والجمال بما هو ارتقاء في الروح، وإدراك للقبيح والحسن والتمييز بينهما، وفي ذلك نجزم أن غياب الفنون التشكيلية والموسيقى والنحت والشعر والقصّ عن عالم الدين سيجعل فهمه قاصرا، بل ويمضي به أتباعه إلى التطرف والقتل والكراهية وأقلّ خطر يمكن أن ينزلق إليه التدين هو القصور والعجز، وأن يكون عبئا على أصحابه! فالفن بما هو يلطف النفس البشرية ويرقى بها، يرقى أيضا بفهم الدين ويرتقي به، ويدفع بالمتدينين ليمنحوا الفن أيضا مجالات وآفاقا جديدة، تقلل من عجزه عن إدراك الفكرة والمعنى والحقيقة..
يستعين الإنسان بالدين والفن لأجل الوصول إلى الصواب، وبإدراكه أن ذلك مثال يكاد يستحيل الوصول إليه، يظلّ محكوما بهاجس أنه يتخذ الأدوات الصحيحة ليصل إلى الصواب، .. والحال أن هذه القدرة هي التي تمنح الإنسان المعنى والارتقاء وليس الصواب بذاته، وبغير ذلك فإن الشخصية الإنسانية تغرق في التفاهة والوصاية، وهذه ببساطة أزمة الإعلام والسياسة والثقافة، فبغير ارتقاء الإنسان بنفسه ستبقى المجتمعات والأفراد ضحية السلع والخدمات والسياسات والأفكار التافهة، فإذا كنا نتحدث عن العجز الثقافي والإعلامي والسياسي عن تلبية احتياجات الناس والارتقاء بها، فإننا في الحقيقة نتحدث عن عجز الأفراد أنفسهم عن الحكم على الواقع وتحديد احتياجاتهم وأولوياتهم، الفن يمنحنا ذلك الحدس الذي يحمينا من التفاهة وبإحلال الفن في التدين؛ فإننا نمضي به إلى المناعة من الخواء والخوف والرغبات والكراهية والغضب ونقص المعرفة.
نحتاج أولا أن نرى الأشياء والأفكار كما هي، وتبدأ الكارثة عندما نعجز عن رؤية الأشياء وفهمها، تماما كمن يحسب السم ماء أو دواء فيشربه، كيف نميز بين الصديق والعدو؟ كيف نقيس نضج الأفكار ومستواها؟ كيف نحكم على السلع والمنتجات والأفكار؟ تلك هي ملكة الحكم التي تنقذنا، والتي للأسف الشديد، لا تمنحنا إياها بنضج وكفاية البيئة المحيطة بنا من التعليم ووسائل الإعلام والحياة اليومية والعمل والعلاقات، بل تزيدها لبسا.
يفترض أن الإنسان لديه ملكة ذاتية في رؤية الواقع والخبرة به، وكلما فسدت هذه الملكة أو ضمرت فسدت الحياة برمتها؛ فالبيوت والمهارات والأطعمة والسلع والعلوم والمعارف والتقنيات والانتخابات والسياسة والإدارة تتكيف مع قدرة الناس على الرؤية والتقييم، فتزداد السلع والخدمات والأعمال في مستواها وجمالها بمقدار فهم الناس أو تفاهتهم، لماذا يشغل تاجر أو مورد نفسه بتقديم أفضل السلع إذا كان الناس لا يميزون بين الفاسد والصالح منها؟ لماذا يشغل صاحب مطعم نفسه بنظافة مطعمه إذا كان الناس غير معنيين بالصحة والنظافة؟ لماذا يؤدي وزير أو موظف عمله على أكمل وجه، إذا كان يستطيع ألا يفعل شيئا من دون أن يغضب أحدا أو يحاسبه أحد أو يعرف أحد ما الصواب والخطأ في عمله وما يجب أن يعمل وما لا يجب.
الفن يمنح الناس المهارات والمواهب والملكات لرؤية الأشياء ووصفها والتعبير عنها؛ فالفن بما هو تشخيص الفكرة المعنوية أو تحويلها إلى واقع محسوس، ويقال على سبيل الطرفة كيف يصف الناس مشهدا أو حادثا، كل من وجهة نظره وطبيعة عمله وشخصيته، فيرون أو لا يرون المشاهد، بالرغم من وجودها ماثلة للعيان والمشاهدة، وتدهشنا قدرة الفنان على ملاحظة التفاصيل وعرضها في لوحة فنية أو عزف موسيقي أو في العمارة أو القصة والشعر، وبسبب غياب الذائقة التي يمنحها الفنّ ويدرب الناس عليها فقد كثير من الناس قدرتهم على رؤية الأحداث والأفكار والأشياء إلا كما توصف أو تسوق، والحال أنه مرض خطير يحتاج إلى علاج وتأهيل، يوقع الناس في الخطأ والتضليل والتبعية وعدم القدرة على التمييز والتقييم، وكما يحتاج الأطفال مثلا لمعرفة خطورة النار والكهرباء لحمايتهم، تحتاج المجتمعات لتدرك الغث والسمين والفاسد والصالح والجميل والقبيح، ولشديد الأسف فإن الحكومات والشركات ليس لها مصلحة في ذلك!
الذائقة بما هي ملكة في الحكم على الأشياء والأفكار تكاد تنحصر كمهارة يتعلمها الإنسان في الفن والجمال، وعندما يفقد المتدينون “الذائقة”، فإن تدينهم وحكمهم على المسائل والأشخاص يكون خاليا من القدرة على ملاحظة الخير والجمال لدى الناس، لا يعود إلا “نحن” و”الآخر”، ويضيق الـ “نحن” من دائرة الدين إلى الطائفة إلى الجماعة إلى المجموعة حتى يكاد يقتصر على الذات، ويتسع الآخر بما هو كافر حلال الدم، ليبدأ بمن هو ليس من الـ “نحن” حتى يكاد يكون كل إنسان آخر.
وفي غياب المعنى وعدم القدرة على تتبعه، يغيب الهدف الواضح في الحياة أو التصور العملي والواقعي للنمو والنجاح، وغياب المشاركة العامة والانتماء، فيكون “الخواء”، أن يكون وجودنا أو عدم وجودنا سواء، ماذا نعمل؟ وماذا ينقص لو لم نؤد عملنا؟ ما أهمية عملنا ووجودنا لأنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا ودولنا؟
يتشكل الخواء عندما يكتشف الإنسان عجزه عن إدراكه الحقيقة أو الصواب، ولما كان ذلك أمرا حتميا أو تلقائيا، فالحقيقة إن كانت موجودة يكاد يستحيل الإحاطة بها أو معرفتها أو امتلاكها، والواقع أن النجاح والارتقاء هو إدارة الجهل أو نقص المعرفة أو العجز عن إدراك الحقيقة.. وربما تحويل هذا الجهل أو العجز إلى إبداع وارتقاء بالروح والنفس، وهنا يكون الفنّ ضرورة كبرى للدين، لا يمكن للمتدينين أن يستغنوا عنها، فالمتدين باعتقاده أنه يتبع الحق الذي نزل من السماء يظن نفسه يمتلك الصواب والحق، وفي يقينه هذا يقع في الوهم، .. والكارثة أيضا عندما يبدأ يطبق وهمه على أنه صواب ويقين… وفي اكتشافه للخطأ يقع في كارثة أخرى وصدمة مريعة.. فليس بعد الحق إلا الضلال المبين!، ولكن بما أن الحقيقة الوحيدة هي أن الإنسان لا يعرف، هو يحاول أن يدير جهله وعجزه، .. يمنحه الفن فردانية في العلاقة مع الخالق والكون والحياة، .. وفي غياب هذه الفردانية يلجأ إلى المجموع ليحمي نفسه، ولكن المجموع ليس سوى أفراد جاهلين مثله، يحتمون باليقين الذي ليس سوى وهم، لا يحميه ولا يحميهم سوى التواطؤ على الوهم، فيزيده المجموع خواء وضعفا وهشاشة.. ثم تتحول الهشاشة إلى شعور وهمي أو خاطئ بالصواب والنظر إلى الصواب على أنه خطأ، “الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”، فتواصل متوالية الخواء تشكيل أتباعها في مزيد من الضعف.. وأحيانا ندرك أن هذا الضعف اسمه تطرف وتعصب وكراهية! الفن يساعدنا على ذلك بما يمنحنا من فردية نداري بها عجزنا وإدراك عجزنا، .. لامجال إذن سوى فردية تملك بذاتها منعتها وتماسكها، فينشئ الفرد وحده طريقه التي تحميه مدركا أنه يلاقي الله يوم القيامة فردا..
فالمرء يتشكل وعيه لنفسه على نحو صحيح انطلاقا من الفردية، فيعرف ماذا يريد وكيف يحقق ما يريد، وفي غياب هذه الحالة، فإننا (وهذا هو الحاصل غالبا) نسير في طريق لا نعرفه ولا نعرف عنه سوى “الأنس” الذي يمنحه السالكون فيه.
ويمتد الخواء نفسه إلى القيم والعمل والحياة والعمارة واللباس والطعام، فتكون حياتنا تصوغها اعتبارات “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون”، بالرغم من أن الموارد والأعمال والأسواق والمتطلبات والمناهج والأفكار تتغير كل يوم.
الفنّ يعوض الإنسان الوحشة والصعوبة في عالمه الذي خلق صعبا، وخلق على نحو كما يقول هايزنبرغ مبدع نظرية عدم اليقين، والتي منح بناء عليها جائزة نوبل في الفيزياء يستحيل فهمه، لأنه يتغير على نحو يفوق قدرتنا على معرفته، كما أن ملاحظتنا له تغيره.. يعلمنا كيف نتدين في عالم نسبي وغير يقيني، كيف نحول الإيمان إلى مورد نسبي وغير يقيني، لأننا نجتهد بالفنّ لأجل تقليل المسافة بين الفكرة والتعبير عنها، ويكون كل ما نعرفه هو ثمة فرق بين الحقيقة وما نعرفه، فيكون عدم المعرفة دليلا للدأب والتفرد، وحماية الذات من ثقل اليقين وفجاجة عدم اليقين، إذ بينهما يشق الإنسان طريقه مستدلا بالفنّ حين تعجز المنظومات المعرفية الأخرى إدراك حقائق الأشياء!
ويمثل عدم اليقين أساس التقدم العلمي والتقني اليوم في عصر المعرفة، تتقدم علوم الإحصاء والاحتمالات وعلم النفس وفقه اللغة بما هي تعبر عن السعي إلى ترميز المعرفة والخبرات.. وفي ذلك، فإن التدين “المعرفي” هو أيضا نسبي وعدم يقيني يستلهم الإيمان بما هو لا يعرف، وينشئ من الذاكرة والخيال عالما من الإيمان والتقدم.. لا نملك سوى الخيال والرموز والذاكرة، فإذا لم ننشئ حولها تدينا يرقى بنا، فإننا نحطم أنفسنا، أو نكفر أو نمضي في التوحش… لم يعد مجديا التدين المنظومي على النحو الذي يقدم للناس الطاعة واليقين وخريطة الطريق جاهزة واضحة، لقد اختفى مع اختفاء عصر الدولة والطبقة السائدة التي كانت تقول للناس كيف يفكرون يفهمون وماذا يقرأون وماذا يسمعون أو يرون.. ففي عالم الإتاحة والإغراق بالمرئي والمسموع والمقروء لم تعد الحوزات والجامعات والمؤسسات الدينية والعلمية والجامعية والكتب والمصادر الدينية والتراثية والتاريخية سوى قطرة في محيط المعرفة المتدفق الهادر المتجدد المتغير المغوي الزاهي المبهر.. وحتى لو بقينا نتبعها أو نثق بها فيمكن لأحدنا أن يضعها جميعها على شريحة ضئيلة نلحقها بمجموعة المفاتيح ونشبكها بالموبايل أو اللابتوب بلا حاجة لوساطة من أحد أو مؤسسة أو عالم أو مذهب أو فقيه أو دولة.. لم يعد ذلك يساوي شيئا ولا يملك سلطة أو قدرة أو تأثيرا على الفرد… ولم يعد له سوى ما يمنحه الفن من حصانة أو منعة أو ذائقة أو قدرة.
وكما يلهم الفن الحياة والفكر، فإنه أيضا يلهم المتدينين في فهم الدين وتطبيقه على نحو غير مباشر، فليس بالضرورة أن يكون ثمة موسيقى أو فنون “دينية”، وإن كان الدين يمكن أن يكون ملهما ومصدرا للفنون والجمال، ولكن تذوق الفنون بعامة وأن تكون جزءا من حياة المتدين، يمكن إضافة إلى أنها تهذب النفس وتخفف من التوحش وتنمي الذائقة والمهارات والمواهب الجمالية، أن تلهم على نحو مباشر أو غير مباشر عزيمة وأفكارا ومعرفة كما لو كنت تقرأ في كتاب عظيم، فتزيد فهما للدين والحياة والطريق، .. نحتاج إلى دين وفن يعملان معا نستوعب بهما حياتنا اليومية الجديدة والمتغيرة والمختلفة عن الماضي وهمومها وتعقيداتها، وفي ضوء هذا الاستيعاب نفهم الدين ونطبقه، العمل والمهن والطقس والحياة اليومية والسمر والليل والنهار والسؤال والموت والخلود والمصير والثلج والبرد والماء والعولمة والحنين والهجرة والعودة وصراع الأجيال والمدارس والجامعات والجبال والأنهار والصحراء والسهول والكدح والعدل والمساواة والمبادرة والخوف والتنافس والمدن والبلدات والطاقة والغذاء واللباس والانتظار والشوق والنسيان والذاكرة والطرق والمنجزات والاخفاقات والذكريات والآلام والفرح والحزن والزمن والأرصفة والأشجار والمقاهي والكتب والجيران والنوافذ والأبواب والشرفات والسطوح والندى والغيوم والضباب والمقاعد والحدائق والمكتبات والأعشاب والزهور والفصول الأربعة والأمل واليأس والأطعمة والطهو والانتماء والمشاركة والأمن والدفاع عن الأوطان والتاريخ والسلوك الراقي الجميل والعلاقات وأسلوب الحياة. والحب، .. أن نجد أنفسنا في الموسيقى والفنون؟؛ ما نبحث عنه ويبحث عنا.. فنقترب من الصواب أو نفهم الدين فهما جميلا أو أقرب إلى الجمال..
_______
*مؤمنون بلا حدود