شوارع الأمس


د. محمد ياسين صبيح


خاص ( ثقافات )

لا تخف.. مهما كنت مدفوعًا بقبح المدن، ستحضنك الشوارع، كما ذاك الذي يمشي تحت مظلة من الصمت تقيه حر الشمس وثرثرة أمثالك، وكما هذا المشرد الذي يرتاح على رصيف حياته بعد ثواني الحصاد الفائت، والممزوج بالكثير من المحاولات الثقيلة الدم، الذي رطب شفاهه العطشى.. وكما تلك العاشقة السمراء، التي تنتظر تحت ظل النخلة، تحلم بثمار ترطب شفتيها الناعستين.. وكما ذاك الطفل الذي يلعب بكرة من أوراق وظائفه اليومية، ثم يرميها إلى مرمى الشهادة التي يحلم بها..

لا تخف يا صديقي، فلن تبقى وحيدًا هنا في الشارع، سيواسيك النمل المختبئ من مطر العمارات الشاهقة الارتفاع والتميز، تحت أرصفة الجفاف المنهك، يهيئ وليمة من حبة القمح، التي سقطت من حقل ثري لا يحب الحقول.. وهنا في الشارع الكثير من الصراصير التي تنتظر البقايا التي يرميها البعض غبر زجاج سياراتهم الفارهة، لتلتهم آخر وليمة لها، قبل أن تسقط تحت عجلة بائع متجول بأكمامه المشمرة، وهو يصيح على بعض خضاره المنكمش..

في الشارع أيضًا، ستواسيك العصافير ببعض زرق رطب على قميصك الباهت، الذي أنهكه تسكعك في أزقة الزمن، وبالكثير الكثير من الغناء الحر.. الفرح.. الحزن المرتبك والآتي من حقد بعض الصيادين.. فلن تبقى وحيدًا أبدًا، رغم طرد الزقاق لك، ورغم طردك من قبل زوجتك المبرمجة على أصول التحرك والذهاب والمجيء، والطعام، والأهم دقة توفير الحاجات التي أتلفت جيبك ودماغك.. وجعلتك تنزف أحلامك خطوةٍ خطوة، على رصيف المدينة اللامتناهي، فلا تقف في آخر الشارع محتارًا من تعدد الأزقة، وستجد بوابة البحر، والزوارق التي تتمايل كأغصان أشجار الحياة وهي تصارع المد والريح، وستجد بوابة حانة، يعلوها قوس من المتعة والنسيان، فيها يمكنك أن تحتسي كوبًا من الشوق أو أكوابًا من الأحلام التي قد تتذكرها هنا وهنا فقط..

في الشوارع أيضًا ستجد صبية بعيون واسعة، قد تبتسم لك لتدلق فنجان قهوتك على ثيابك، وأنت تحاول الابتسام، لكن فمك مقفل ببعض حزن، وبعض خوف من أن تزرع في أعماقك خيبة جديدة.. أعرف يا صديقي أنك تحب الكتابة في الليل، عن بعض مساءات أمطرت السماء فيها إفلاساً، وربما مشاعر نادرة، كما تحب الكتابة عن خاصرة المدينة الممتلئة بالمنتظرين على مرافئ الصيد الفارغة..

لا تخف، لن يؤذيك ذاك الشرطي الذي يقف على زاوية عقلك، هو فقط لا يريد لك أن تشغل نفسك بأمور فلسفة البدء والتكوين والنهاية، وكل خيالات السيارات الكبيرة التي تمشي ليلاً دون أن تراها، أنت أو باقي الناس الذين يلتفتون إلى الضحك من برامج التلفزيون السخيفة، المتعلقة بالطبخ والرقص والثأر والدين وكل شيء إلا حالك أنت..

لا تخف.. من هذه العاصفة الهوجاء، فإن غرقت، ستصبح شهيد الواجب والشارع والمدينة، وربما يصبح مكانك الجديد شارع جديد.. ليبدأ غيرك رحلته عليه..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *