الصوفية.. لماذا وكيف عادت؟ الأردن أنموذجا



علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )
عودة الصوفية والاستلهام
يلاحظ المثقف العربي اقبالاً ملفتاً على التصوف والصوفيَّة وحبّ المتصوفة والسعي للتعرف بصفوة عشاق هذه الرياضة الروحية والفكرية وما كتب من شعر ونثر ومعارج وفلسفة صوفية صرفة في بطون الكتب وعلى امتداد التصوف الذي بدأت ملامحه بالاكتمال منذ القرن الثالث الهجري، بظهور طبقات وأعلام الصوفية الذين أثروا العلوم الإنسانية يدفق نوراني كبير ظل خالداً حتى أيامنا هذه وعاد كتابنا لسبر أغواره وتقفي أثر أهله.
وحول أسباب الاهتمام بالتصوف يرى كثر أن هذه العودة بمثابة ردة فعل صارخة بوجه المادة والصدأ الذي هيمَّن على قلوب الناس في زمن الحرب والآلة التي خدشت آدميتنا وحارب مرارها حلاوة السجيّة ونفحات الملائكية البِكر في نفوس أفراد المؤسسة البشرية، ورغم انطفاء شعلة التصوف بغياب أقطابها وانهيار وتلاشي عصرها الذهبي، فكان من المثقف العربي أن انتبّه لهذا الإرث الإنساني من جديد، ليحاول أن يستعيد بعضاً من ملائكية الإنسان التي خدشها جنون العالم وظهور الظلاميين، طمعاً بعودة المعاني الإنسانية النبيلة وإعمار النفوس بالعشق العرفاني.
هذا العشق -المفاجئ- لمولانا جلال الدين الرومي والعطار النيشابوري وحافظ الشيرازي وابن عربي والحلاج .. وغيرهم، جوع عاطفي للسلام والنورانية، ونزوح وتكهف وانكفاء محبب وهدأة منشودة يسعى لها كل حيٍّ نبيه في عالمنا المعقد، ومن هذا ما أعلنته الولايات المتحدة الأميركية قبل سنوات ، عندما أعلنت مؤلفات مولانا جلال الدين الرومي الأكثر مبيعاً في أميركا. مولانا المعروف كواحد من أعلام الطبقات الصوفية وصاحب المعارف التي غيرت منحى التصوف وربّت جيلاً كبيراً من عشاق ودارسي التصوف منذ قرون.
الصوفية ملاذ، يبرهن أننا في مرحلة إحياء القلوب التي قتلها العصر الحديث، تماماً كأننا نستقبل الشاعر والعارف الكبير حافظ الشيرازي (٧٢٥-٧٩٢هـ) الذي حلّ ضيفاً على عصرٍ قال فيه المؤرخون العرب والفرس أنه “عصر موت القلوب”، لتحيا القلوب بقوله وهو يخاطب القلب ويشحذ همم العشق والمفردة اللطيفة ، بعد ردحٍ من القتل وسفك الدماء عندما خدش المغول عذريّة السلام الإنساني.
الصوفيّة: صافى الله فصافاه، وصوفٌ وتقشفٌ وصفوَّة وصوفةٌ مطروحةٌ في حضرّة المعشوق الكبير، وبعضُهم ذهب إلى الاصطفاف والصفِ والصفَة، لكنها واحدةٌ منذ الثالث لهجرة العظيم ومروراً بأهل الخلوة والحدس والنقاء والفناء والسُكْر برسم الصحو وامتثال اللامتماثل ومخاطبة الهباء باعتباره أصلٌ في التكوين، وطعماً بالولوج إلى الصوفية تضافرت جهود المترجمين العرب والغرب (العرب ندرَّة بسبب مواقف سياسية ومذهبيَّة) ليتلألأ التصوف الإسلامي في صدور المكتبات الغربية، حتى ان بعض جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تدرس التصوف وتأخذ الشعراء بأسمائهم بصورة مساقات جامعيَّة ليتوقف عليها الدارسون بالبحث والدراسة.
ويشي لنا التصوف بأن الاستلهام منه يعني أن تذوب في تفاصيل الحالة الصوفية، ثم تتصالح مع أشراطها وتقرأ العرفان بهدف التسامي -لا المعرفة-، فلا يًطْلب من المستلهم خرقة وكشكولاً وجلسة أمام الزوايا والتكايا -أبداً لا- بل أن يسعى ليكون نقياً وينتهي الأمر، دون كبر وغِل وجشّع. وإلا سنكون أمام إدعاء وحبّل كاذب، فعليه أن يقرأ المقامات والأحوال وأن يتخذ لنفسه شيخاً من الأعلام وينهل من الطبقات وينتشي بالمعارج والهواتف شعراً ونثراً، لنكون أمام مشروع عرفاني إنساني نبيل. وثمة أنسام صوفية محترفة، تجلت في أعمال أدباء أجلاء أمثال نجيب محفوظ والغيطاني والخراط ويوسف زيدان وعبد الحكيم قاسم وعبد الإله بن عرفة الذي احترف البحث والاستلهام وفريد الأنصاري وخالد حاجي، وعبد الخالق الركابي وغيرهم. 
التصوف في الأردن
التصوف والأردن قصة ليست بجديدة، فمنها الشيخ الكردي في قرية الصريح والشيخ ارشيد في الرمثا والشيخ الحوراني علي عماد الدين الزّعبي الجیلاني الحسني الملقّب بـ”الشّيخ المقرفص” الذي كان اتباعه في حوران وأطراف الأردن، وغيرهم من أصحاب الكرامات في مختلف قرى وبوادي وأرياف الأردن التي بنيّت حديثاً وكان التوثيق غائباً قبل الانتقال إلى مرحلة الوطن، ووفق الروايات والمقامات الماثلة حتى يومنا هذا وتسميّة المساجد ببعض أصحاب الكرامات الأردنيين الأوائل كما يقال لهم في الدارجة الأردنية “لِفْقَرَى”، نرى الأردن ضمن امتداد التصوف منذ عصوره الذهبية (بين القرن الرابع والقرن الثامن) حتى نهايات القرن الماضي.
وتعد السلط أول بقعة أردنية استقبلت صوفياً غريباً ونشر فيها طريقته في العصر الحديث، وكان هذا مطلع القرن العشرين على يد الشيخ محمد القذف الموريتاني الذي نشر الطريقة الشاذلية هناك، وبعدها تفرعت إلى الطريقة الشاذلية الغظفية القادرية التي تعد من أقدم الطرق التي دخلت إلى الأردن في عشرينيات القرن الماضي وأقامت زاوية قرب العاصمة عمان على يد الشريف محمد الأمين، وقد حلّ ناظم حقاني شيخ الطريقة النقشبندية ضيفاً على الأردن بأمر شيخه الداغستاني الذي أمره بالخلوة الأولى عام 1955 في الأردن وأقام في صويلح والرمثا. وكذلك إقامة الشيخ السوداني النيل ابو لقرون في الأردن وهو قطب عارف وصاحب طريقة وله العديد من الكتب في النقد الديني والعرفان ويقيم في العاصمة عمان حتى الآن.
ودخلت العديد من الطرق الصوفية إلى الأردن منذ مطلع القرن الماضي قادمةً من مختلف بلاد الشام والمغرب العربي ، ففي الأردن تجد الطريقة الرفاعية التي بدأت في أحد مخيمات الأردن وهناك يضربون الشيش ويقومون بطقوسهم بكل أريحيّة فهي من الطرق المشهورة بالأردن بشيخها عمر الصرفندي الذي يعقد جلسات المريدين في مختلف مناطق المملكة بين جرش والمفرق وعمان، وكذلك الطريقة الشاذلية اليشرطية -المُطورّة-، وكذلك الشاذلية الدرقاوية الهاشمية بشيخها حازم أبو غزالة، وغيرها من فروع الطريقة الشاذلية المنتشرة بين الأغوار والعاصمة عمان، وفي الأردن أيضاً الطريقة الطريقة التيجانية والنقشبندية بشقيها “كيلانية وحقانية” والطريقة الخلواتية التي هي أصغر الطرق في الأردن.
ثمة أتبّاع للعديد من الطرق الصوفيّة في الأردن بشكل فردي أو بصورة اجتماعات مصغرة للمريدين بشكل متواضع، ويسمح لهم ممارسة طقوسهم والاحتفال بأعيادهم بكل أريحية وتتخذ هذه الطرق المساجد مقراً لها، إذ يخصص للمريدين يوماً في الأسبوع أو الشهر للقاء وممارسة طقوسهم وأذكارهم وأورادهم وأغانيهم ورقصاتهم وجلسات سمعهم، رغم افتقار أكثر شيوخ هذه الطرق للمؤلفات الصوفية أو حتى الإلمام بالتصوف بشكل كامل، حتى أن بعضهم يرث مشيخة الطريقة عن أبيه من جده ويمارس دور الشيخ بشيء من العادة، إلا أن الأردن ليس خالياً من المشهد الصوفي ولو كان ضيقاً متواضعا تناسباً مع عمر الدولة والتوثيق.
وعلى صعيد التأثر بالصوفية في الأدب الأردني المعاصر ثمة نزعة صوفية عند العديد من الكتاب الأردنيين، تتجلى عند مها العتوم (دوائر الطين/العزلة والرياضة ومزج الحواس) ومفلح العدوان (موت عزرائيل/الحيرة والكشف) وايمن العتوم (صاحبي السجن وذائقة الموت/الفقر والغنا) ويحيى القيسي(ابناء السماء /السعي والطريق) وزياد محافظة (نزلاء العتمة/ تعطيل الحواس) وسميحة المصري (ملحمة العطش / المقامات والأحوال)، وكلها كفيلة بأن يبحث الباحث في أدق تفاصيلها بمقاربة ومقارنة مع التراث الصوفي الضخم. وكذلك الأديب والأكاديمي أمين يوسف عودة صاحب تأويل الشعر والفلسفة عند الصوفية – ابن عربي نموذجًا، وتجليات الشعر الصوفي –قراءة في الأحوال والمقامات، والتصوف شهواً وحباً وخطاباً والقعود في ثقب الإبرة، وغيرها من الدراسات والمقالات والاضاءات النقدية، والباحث حسن أبو هنيّة صاحب كتاب “الطرق الصوفية، دروب الله الروحية.. التكيف والتجديد في سياق التحديث”، وغيرها من البحوث الأكاديمية في الجامعات.
وجهات نظر
قال الموسيقار العراقي نصير شمّة إن الاستلهام من التصوف لا يعلن أبداً أذا كان المستلهم صوفياً حقيقياً وإلا سقطت عنه الصوفية كأسلوب حياة وتخلي وزهد بالإعلان عنها، وفي جوانب معينة من هذه الحالة نكون أمام مبدأ “فتشبهوا بالكرام إن لم تكونوا مثلهم “. وعلى صعيد الموسيقى لا توجد موسيقى صوفية عربية بل هناك من يغني شعراً لصوفي وهذا لن يرتقي للصوفية، أما الشعراء فالبعض منهم يتمنى أن يكتب شعراً يتقرب فيه لشعراء الصوفية لكن لن يكون كذلك أبداً وإن بدا كذلك.
الأديب السوداني أمير تاج السر يرى أن المبدعين يلجأون في أي وقت إلى محاولات توظيف تراث ما أو تاريخ ما، وسرعان ما تصبح المسألة عدوى أو تقليدا ينبغى اتباعه لأبناء الجيل، وأذكر المرايا والمخاطبات للنفري الذي كان منبعا ينبغي الغرف منه لكل أبناء الجيل، وكذلك محي الدين ابن عربي. فليس كل الكتاب يعرفون الكثير عن الصوفية، وإن كان بعضهم يعرف بالتأكيد. وشخصيا أوظف ما أعرفه جيدا في كتابتي.
والشاعر والمترجم المصري محمد عيد ابراهيم يرى أن الترجمة صاحبة يد طولى للعودة إلى التجارب الروحانية الكبرى وقد ترجم للمكتبة العربية (رباعيات مولانا جلال الدين الرومي، رواية بنت مولانا، شعر الهايكو ورحلة حجّ بوذية،) وبهذا نتعرف على أصحاب هذه المشاريع الروحية التي قدمها أدباء مهمّشون خدموا النص الصوفي وعرف العرب تصوفهم، وبالتالي سيكون الاستلهام أقوى لأن النص الأصل بيّنٌ في المكتبة العربية، خصوصاً بعد أن أدرك العرب قيمة التصوف وانشغلوا به في العقدين الأخيرين.
المترجمة والباحثة في التصوف المغربية عائشة موماد ترى التصوف باب من أبواب الرحمة ونافذة رحبة للولوج إلى عالم الإسلام، من خلال فهم يتسع ويتجدد بتجدد الإنسان كل يوم، فهمٌ يُراعي ما للإنسان من احتياجات ولا يقطع صلته بالبشر ويحض على الدخول في عباد الله الأنقياء، ويبسط العبد فيه كفه بالليل والنهار لخالق رحيم رؤوف راع يراه أحنّ وأقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه.
التصوف وإن ارتفعت الأصوات بالحديث به اليوم لا أنشغل بكونه أضحى موضة في الأزياء أو الاكسسوارات أو الفنون أو جرى الحديث عنه إعلاميًا بشكل مختزل في لون من الألوان الذائعة، بل في وسط هذه التنوعات أجد من بذور التصوف ما أوراق وأزهار في قلب شخص متوتر أو إنسانة تائهة جمعها بذاتها ونأى بها عن التشتت في عالم لا يعرف اليوم سوى الصراع والصخب.
الشاعرة الأردنية مها العتوم تفترض الصوفية بمعناها الواسع، فهي لحظة الحقيقة التي يبحث عنها الشعر ويلتصق بها الإبداع بشكل عام، لتقول: لا أعرف إن كان الشعر الآن أكثر صوفية مما مضى، ولكن برأيي الشعر الحقيقي هو صوفي دائما لأنه يسعى باتجاه الأصدق والنقطة الأقرب من نبض الحياة والحب والجمال. ولعل المجتمعات العربية اليوم تحتاج إلى هذا أكثر من أي وقت مضى، ولعل هذا يكون نبوءة بالصعود من هذا الدرك الأسفل من الموت والخراب والدمار والهزيمة على كافة المستويات، وأملا في الصعود بشعر عال وبثقافة جديدة مغايرة للسائد. ولذلك الصوفية ليست موضة، وإنما علامة على الشعر الجيد إن كان المقصود ليس مجرد توظيف لغتها ومفرداتها وأسلوبها، وإنما عدّها النقطة السامية التي يطمح إليها الشعر والإبداع من التماهي مع الحقيقة وبلوغ الدرجة الأعلى من الصدق الفني والجمالي.
أما الشاعر الفلسطيني غازي الذيبة فلا يجد نصاً صوفياً خالصاً في شعرنا الحديث، والسبب أن كتابنا قرأوا كتاب الصوفية والسوريالية لأدونيس .. وبعده فهموا الصوفية على أنها أداة من أدوات الشعر وهي ليست إلا حالة تأملية قصوى تذهب بحالة تسامي الروح والجسد، وليس كما قال أدونيس واستدرج الكثيرين ليعبدوا فكرة التصوف.
ويقول المترجم والباحث في التصوف العراقي غسان حمدان: للتصوف مخاطبوه الخاصون، صحيح أن الأدب الصوفي أو الرواية الصوفية انتشرت مؤخراً بشكل ملفت ولكن لن يستمر الوضع هذا إلى فترة طويلة؛ لا يعني كلامي هذا أن التصوف موضة عابرة، ولكنه أسمى من أن يدعيه الكل. هناك الكثير من النصوص الصوفية لم تترجم عن الفارسية، لغة الصوفيين الرسمية، وكذلك التركية، وما لدينا حتى الآن هو مجرد شذرات ومقتطفات لابن عربي والنفري يتم تداولها هنا وهناك. لهذا أقول أن أغلب ما نراه من النصوص القريبة إلى الصوفية، هو قراءات سطحية، فالتصوف آيدلوجيا وأسلوب حياة، وليس مجرد نصوص موزونة رائعة أو مسجعة. ولكن أضيف بأن اللجوء إلى الأدب الصوفي هو نوع من الاحتجاج أيضاً، الاحتجاج على السياسة والدمار والخراب والتطرف والاهتمام بالإنسانية الأسمى واكتشاف أكثر الأعماق غموضاً، أي الذات الإنسانية الأصيلة.. فالطريق إلى التصوف تنتهي إلى السلام والمحبة، لا أكثر. كما أن هناك أمر علينا ألا نغفله، لم يعد الخطاب الديني مؤثراً كما كان، لذلك الأدب الصوفي يعد ملاذاً مؤقتاً لجيلنا الحالي، ومع هذا أرفض تسميته بالموضة العابرة لأنه موجود منذ قرون وسوف يستمر.
وبعد حوار مع العديد الكُتَّاب والكاتبات العرب (مبدعون وأكاديمون وباحثون) ذكرنا بعضهم في هذه المادة، اختلفت الآراء بين ناكر لوجود روح المتصوفة في أدب اليوم –بشكل مطلق- ومحتفٍ بالتصوف لأن هذا التيار موطن استلهام ولا يجب أن يكون المبدع صاحب طريقة ليكتب فيه، وبين هذا وذاك يبقى التصوف مشرباً فكرياً من جهة وحالة تصالح سامية مزج بها الأوائل حبهم للنور واستجلابهم للسلام على مر العصور ولا يوجد أي جهة (إبداعية او نقدية أو متلذذة) لها أن تحكم وتفصل في أمر الاستلهام من التصوف، فلكل مبدع حقه المصان بالاسلهام والتأثر والتأثير بما أحب، وتبقى المقارنات سبيلاً للمنافسة النقيّة بين من يجيدون سبر أغوار التصوف وغيرهم ممن أحبوا هذه الحالة الطاهرة ويحاولون الولوج إلى عالمها، وكلاهما فائز. 
________
*شاعر ومترجم أردني.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *