الحب جالس في مقهى الماضي عَشرُ متاهات للعثور على شبح


طارق إمام

لسببٍ ما، قررت الشاعرة اللبنانية «سوزان عليوان» أن تُرفِق بكل نسخة من مجموعتها الشعرية الجديدة «الحب جالس في مقهى الماضي»، (بيروت 2015)، عدداً من البطاقات الصغيرة، من ورق مقوى مصنوع من مادة الغلاف نفسها. على ظهر كل بطاقة، ينهض مقتبس من إحدى القصائد، بينما يتكرر على وجوه البطاقات، رسم الغلاف نفسه: وجه ملاك، بجناح واحد ضئيل لا يتناسب وحجم وجهه الوديع الشاسع الذي يملأ الغلاف، ولا يبدو أنه قادر على التحليق به. رسمته الشاعرة «من وحي وجه مرسوم بالطباشير على أحد جدران باريس، بقى صانعه مجهولاً»، مثلما أعلنت في إحدى الصفحة الداخلية الأولى.

ثمة من بين البطاقات المصاحبة للكتاب بطاقةٌ واحدة فارغة الظهر، يحتل صفحتها ملاك آخر، مغمض بابتسامة خجلة ومفرود الجناحين كأنه يهم بمغادرة أفقه الصغير، خصصته الشاعرة لإهداءاتها الشخصية للأصدقاء، كأنها تأبى أن تخدش فضاء الديوان بخط يدها. سيل ملائكةٍ، لن يتوقف حضوره على الغلاف والبطاقات المصاحبة، لكنه سيتناسل في الداخل، فلن تخلو قصيدة من حضورٍ ملاكٍ أو أكثر، سواء حضر محفوراً في حجر أو مرسوماً على حائط أو مبثوثاً في هواء المدن التي تتنقل بينها الذات الشاعرة في القصائد.. ووصولاً لذات شاعرة تتحول هي نفسها في السطر النهائي من الكتاب إلى «ملاك فضي رصين» ربما يكون الصورة الأكثر تجسداً لملاك الغلاف المُختصر في حفنة خطوط.
تنشر الشاعرة اللبنانية الشابة مجموعاتها الشعرية على نفقتها الخاصة، تحدد بنفسها قطعها، (قطع يختلف من كتاب لآخر، فبينما جاء الديوان السابق «معطف علق حياته عليك» في حجم كف، حضر الديوان الجديد في القطع الكبير الذي لم نتعوده فضاءً للشعر). تختار نوعية الورق وتُشرف على الإخراج الفني وترسم الغلاف وتصممه. يجعل ذلك من الكتاب تعبيراً خالصاً عن صاحبته. بالأحرى يجعل من «صناعة الكتاب الشعري» عملية لا تنفصم عن «صنعة الشعر».
***
عشر قصائد يغلب عليها الطول تضمها المجموعة الشعرية، تحمل سماتٍ مهيمنة يمكن الوقوف عليها بامتداد القصائد. هناك منذ اللحظة الأولى المدينة الطاردة والمتعقِّبة للذات في خطوها، سواء كانت باريس أو بيروت أو القاهرة أو مدن الشعر الأخرى غير المسماة، حيث الأمكنة دائماً «مثل ماءٍ في الكفين». حضور المدينة في هذه التجربة فادح، وهي دائماً مدينة تفشل في عقد مصالحة مع الذات التي تعبرها أو تقطنها: «باريس مطر يتساقط./ ليل موحل، شوارع ممحوّة/ شجر فاحم لفرط وحشته/ بلُعب الورق يتسلى»، (الزاهرات العواتم)، «بيروت بعد المطر/ شوارع بعيون غرقى/…../ لطالما طاردتني/ في البلاد التي لم تبادلني وردةَ أو كلاماً/ هذه الشوارع الممطرة». (كلَما أهديتك كوكباً)، «سال في شوارعنا دم/ ورسمتُ حمامة تحط/ على رأس بنت سمراء/ ثم سال في شوارعنا دم/ وشجرة أكثر من أمهاتنا أحببناها/ اشتعلت شمعة على شاشة/ ثم سال دمٌ كثير/ ونأيت بنفسي/ بحض فارغ من ظلَي» (ورد بلدي لشارع حزين). من خلف المدينة، ينهض سؤال «الوطن»، ودائماً، في تغنٍ لا يحتاج إلى جهد تأويلي، هناك ذلك الصوت الرثائي للـ»بلاد»: «هاهي البلاد تتفتت/أرغفةً يابسةً تحت المطر»، «البلاد التي لم تبادلني وردةً أو كلاماً»، «ليس الوطن بألوان بطاقةٍ بريدية».
تقدم الذات الشاعرة نفسها كنقيض مباشر للمدينة، فهي ليست مصنوعة من مادتها: «لستُ مدينةً لأَدين لأحجار./ أنا البحر المغادر في كلّ لحظة،/ الأزرق الغادر/ لولا دموعي». بحرٌ يقطن حجر، إنها علاقة لا يمكن أن تستقيم، إذا ما وضعنا في اعتبارنا فضلاً عن ذلك أن البحر عدو الحدود، بعكس المدينة، التي تشكل التمثيل الأفدح للهوية.
قبالة البعد «الأرضي» للمدينة، ينهض على الدوام البعد السماوي، معبأً بدال «المطر» الذي يصنع المناخ العام ويعود للأرض متحولاً لدال آخر هو «الغرق». السماء أيضاً هي في مستوى آخر مكمن «القناصة»، القادرون دائماً على انتقاء الضحية. غير أن البعد السماوي/ الفوقي، هو أيضاً المستوى الميتافيزيقي الذي لا ينفصم عن التلقي العام لهذه التجربة في ظني. فعبر السماء يغشى وجودٌ مفارقٌ الوجودَ الواقعي بحيث يتحول العالم في نهاية المطاف لمزيج من اليقظة والحلم، النظر تحت الأقدام والتطلع لما فوق الجبهة، وليتحقق في الأخير عالم هذه المجموعة المفتون بكائنات مفارقة لا يمكن الوقوف على ملامحها الغرائبية (التي تتحول لوحشية، دموية عما قليل) خارج الشرط الشعري: «الفأس أوّلاً، ثم يأتي الملاك./ عصفور من الغابة/ من النهر/ من المدى،/ من نافذة المقهى المفتوحة/ في مدينة المطر المتواصل./ هذه التي لنوافذها/ لون نهر مضى./ الجنود دُمىً من رصاص،/ والرصاصُ رصاصٌ/ والدمُ دمٌ».
هناك في الخلفية، دائماً، ذلك الحضور الخفي لأم كلثوم أو «الستّ»، سواء بنتفات أغانيها الملتبسة بالفضاء الشعري، أو بمفردات عالمها. تتسلل عناوين مثل «رق الحبيب»، أو عبارات مثل «من كتر شوقي سبقت عمري»، «مع استدعاءات للفضاء الكلثومي: «لشبح القصبجي مقعد شاغر/ عروش في روحي/ لرامي الذي عاش عاشقاً ذليلاً»، «بمنديل الستّ لوحنا للحب». يبدو فعل الغناء فعل إنتاج واستقبال دائم في هذه المجموعة، فالذات تؤكد غير مرة أنها «تغني»، وهو نزوع شعري رومانسي أصَّلته القصيدة الغنائية، قصيدة البطولة المطلقة للذات، والصوت الذي يستحضر الوجود ويختصره في علاقة دون وسيط.
***
هل نحن أمام تجربة في الغرام؟ بالتأكيد تحضر العلاقة المبتورة بين الذات الشاعرة والآخر الحاضر/ الغائب والذي يمسك دائماً بأهداب النص ويتبخر كلما تقدم الفعل الفعل الشعري إلى أن ينتهي دائماً بالزوال أو الاختفاء. غير أن الذات الشاعرة تحول المرثيات الجاهزة للفقدان إلى مساحات مُستصلحة للتأمل، وكأن الفقدَ حادثٌ من قبل أن تولد: «أغني لعلني أولد/ أغني لأنني أموت./ أغني كأنني لم أولد/ أغني وكأننا لا نموت/ في القارة الأقصى/ صوتك أقل/ كل ما يعصف بأغصانك عقابي:/ الرجل الناقص/ صغار العيون الغائرة/ وصديقتك التي مثل فأس على كأسنا». دائماً، تأتي نهاية القصيدة تأكيداً على الهجر والخسران: «لأشياء لا تعرفني أغني/ لعلني أعرف كيف ينهض طائر من رمادك» (رسالة عيد الميلاد)، «كل هذا الليل عيناك/ وهذه حصّتي من حصّالة القمر:/ قصيدة بصوتك المتّقد المتردد/ أعلم أنك كتبتها لسواي» (الزاهرات العواتم)، «كل الحكاية/ وجهك الذي لا يرويه نهر/ وضحكته مدينة/ لا تتذكر أحداً» (كلما أهديتك كوكباً)، «شتاء واحد/ كفيل بأن ينبت لي يدين لا تعرفانك/ وحدها نفسي التي تجمعنا معضلتي،/ وهذه الأرض» (عشرة عصافير في اليد)، «أحبك وأنت لا تعرف شيئاً عن عذابي» (مدينة المطر المتواصل). إنه الحب الجالس في مقهي الماضي، مثلما يعلن العنوان الكبير والنهائي، وقد صارت الذاكرة بطلاً مطلقاً، تعيد «مشهدة» الماضي وكأنه يتحقق في لحظة الكتابة، وكأن كل قصيدة متاهة تبحث فيها الذات عن شبح، تخرج منها بالكاد لتعيد الكَرّة في متاهة جديدة.
ثمة هيمنة لضمير المُخاطب، الذي يكاد يظلل القصائد جميعاً، فبين الأنا والأنت تترى الصور، في انتقالات سريعة كخبطات فرشاة، بين التأمل الذاتي للذات في بعدها الداخلي، والتعميق المشهدي لعلاقتها الجدلية بالخارج، والتساؤل العميق عن جدوى العالم وقد تحول إلى ذاتين تفشلان مرة بعد أخرى في التحول لذات واحدة، بينما تتسع الهوة بين المدينة/ الشوارع من ناحية والغرفة/ المقهى/ البيت من ناحية أخرى: «بوسعي أن أحدّثك عن الكراهية/ كمن تملأ قلبه مدينة سوداء./ إلى أسئلته الأولى/ يعود العالم،/ وحيداً خائفاً من يديه./ ليس ذلك الذي بادر بوردة».
في هذه التجربة، تؤكد سوزان عليوان على تصورها الخاص لقصيدة النثر. ثمة الخبرة التجريبية وقد اكتست مسحة سوريالية يوقظها تخييل نابع من أحلام يقظة مشحوذة، باستعارات متلاحقة تدعمها لغة ملتفتة للمجازات بتكثيف. تحفل القصيدة في هذه المجموعة بتلك الاستعارات المنسالة كزخات، بعضها قادم من تأملات المشهدية اليومية بل والتخييل الطفولي لكنها ما تلبث أن تتحول لأسئلة استعارية: «لولا العصافير على أكتافها/ من يُحدّث التماثيل؟».
كأن العالم، عندما يسحبه الشعر إلى منطقه الخاص، ينبغي أن يكشف عن باطنه بسيل صوره النابعة من حدس الذات بالوجود. المشهدية الفادحة التي تميز قصيدة سوزان عليوان (وتظهر جلية هنا) ليست انعكاساً مباشراً للرؤية العينية، لكنها نتاج الاستبطان للوجود الظاهراتي، ما يجعلنا في أحيان كثيرة أمام مشاهد حلمية لا سببية بالمنطق الاعتيادي. لذلك السبب، فقصيدة سوزان عليوان هي استعارة كبرى، تكاد كل تفصيلة فيها (كما في جدارية) تكون صالحة، إن التُقطت بغية تحليلها، أن تكشف (كعيِّنة)، عن عديد الخصائص التي تتوفر عليها الجدارية النهائية في أفقها الواسع. إنه توفر الجزء على الخصائص الكلية، وهي سمة تشكيلية بامتياز. ليست اللغة هنا محض أداة بين الدوال ودلالاتها، ولا بين العلامة والعالم، لكننا أمام لغة تلتفت لنفسها، لتنهض في الأخير كثيفة ومفتوحة على التأويل، وحيث العالم بأكمله، في الأخير، محض استعارة.
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *