*عبدالله الساورة
إلى أي حَدٍ تصدق مقولة المخرج العالمي الصيني جيا زوانغ- كِي «كلما كان الانفتاح والعصرنة كبيرين، فثمة استلاب أكبر».احتفى مهرجان «كان» السينمائي في نسخته الأخيرة (الدورة 68/ 2015) بالفيلم الصيني «حينما تختفي الجبال» للمخرج جيا زوانغ – كِي من رُوّاد السينما العالمية والسينما المستقلّة في الصين. والذي شارك في مهرجان «كان» السينمائي أربع مرّات، حيث فاز فيلمه «لمسة الخطيئة» (2013) بجائزة أحسن قصة. كما كان المخرج ضمن قائمة لجنة التحكيم في النسخة 67 للمهرجان.
فيلم «حينما تختفي الجبال» (120/دقيقة/2015/ السيناريو والحوار والإخراج من إنجاز المخرج)، تنقسم حكاية الفيلم إلى ثلاثة أقسام: يدور الجزء الأول سنة 1999 في مدينة شمال الصين (وهي مسقط رأس المخرج)، حيث الشابة الجميلة «تو» محاطة بحب رجلين، الشاب (لايزني) يشتغل في مناجم الفحم والثاني زوانغ رجل أعمال. فينصبّ اختيار الشابة على الرجل الثاني مما أحدث شرخاً في علاقة هذا الثلاثي الذي عاش نفس أجواء الطفولة وبنفس المدينة. على إثر هذا الحدث سيرحل المدعو لايزني إلى منطقة أخرى، بحيث لم يحتمل الصدمة العاطفية والصدّ القاسي من قِبَلِ الشابة التي ستتزوج من صديقه الغني والمالك للثروة.
اللحظة الثانية في الفيلم، وهي محطة جديدة سنة 2014 ستتوّج بعودة الشاب الفقير المُسمَى «لايزني» الذي تزوج وأُصيب بمرض السرطان القاتل وسيصبح أباً لطفل. سيجد كذلك «تو» مطلقة عن زوجها الثري الذي أصبح يملك ثروة كبيرة وأنجبت منه طفلاً اسمه «دولار»، وهنا دلالة الاسم في زمن العولمة.
اللحظة الثالثة في الفيلم، تدور أحداثها خارج الصين وبالضبط بأستراليا غداة 2025، حيث سيُصبِح الطفل «دولار» راشداً، وسيلتقي بوالده الثري، حيث يلتقيان وجهاً لوجه ولا يتكلمان نفس اللغة، لقد أصبحا أدبياً مهاجرين وغريبين الواحد عن الآخر.
يحكي الفيلم عن قصتين متوازيتين من خلال السرد الفيلمي البطيء والمتسم بنوع من البرودة والجفاء، من بطولة امرأة تتنازعها مشاعر رجلين ينتميان لطبقتين مختلفتين وما ينطوي عليه ذلك من أبعاد اجتماعية وسياسية. «ما رغبت فيه هو إبراز تعقيدات الوضعية» كما يؤكد المخرج. سعياً منه للبرهنة عن أفعال شخصياته كيف أن قداسة الإنسان أكبر من قداسة حالاته ووضعياته ومواقفه. ثلاثة مشاهد مختلفة تتسم بالانغلاق والبرودة تُعبّر عن هذه المواقف والوضعيات، المشهد الأول مشهد الأم مع الطفل دولار في المحطة، حيث الأم والابن في محطة كبيرة لا يتواجد فيها غيرهما تأخذ الكاميرا وضعية بانورامية لتبرز حالة الفراغ. المشهد الثاني مشهد الأم والطفل داخل عربة القطار وهما ينصتان لأغنية، وتمنحه مفتاحين وتقول إن المفتاح الأول لبوابة المنزل والمفتاح الثاني للباب، ومن هناك عليه الانطلاق نحو المستقبل. المشهد الثالث مشهد الأم والطفل كذلك داخل السيارة وحديثها القصير مع طفلها، في هذه المشاهد وهذه الفضاءات تتسم العلاقة بنوعٍ من الُبعد، بحيث تأخذ مسافة منه كأنها تُعدّه للسفر خارج البلد حينما يبلغ أشدّه.
سينما المخرج العالمي جيا زوانغ- كِي هي أبعد من السرد، فالفيلم يُفتتَح بأغنية بعنوان «الذهاب إلى الغرب» سنة 1999 مثل حلم كبير أقلّ ضبابية للانفتاح على العالم الغربي وقيمه. «حينما تختفي الجبال» وهذا ما يوحي به عنوان الفيلم في الترجمة العربية يُعبّر عن قدر الشخصيات الثلاث، وكذلك عن مراهق وجيله. المخرج يصف الصين في تحوّلاتها الرأسمالية والتكنولوجية حتى امتدادها الأسترالي. يصف الأبطال ووجهات نظرهم، وهم يقطعون مع ذاكرتهم في نقطة تحوُّل أن يصبحوا مختلفين عن بعضهم البعض. فالمخرج ينتمي للجيل السادس من المخرجين الصينيين، حيث وُلِدَ في عقد السبعينيات من القرن الماضي، في فترة التحوُّلات الكبرى للمجتمع الصيني، حيث كانت تحوُّلات سريعة ولم تُتح للكثيرين فرصة تأملها وقراءتها تاريخياً من جوانبها المتعدّدة. قاسم مشترك بين هؤلاء المخرجين الشباب هو التغيرات الاجتماعية ورواية قصص من الماضي لإبراز واقع الحاضر. بعيون السينما الصينية المستقلّة وطرائق إخراجها وروايتها للأحداث والوقائع حيث يختلط الفيلم الوثائقي بالفيلم الروائي كما يصرح المخرج بذلك أكثر من مرةٍ «الكثير من الناس يقولون إن أفلامي تبدو أفلاماً وثائقية، وأفلامي الوثائقية روائية. بالنسبة لكلا الحقلين هناك مساحات كبيرة لجري الأحداث». والواقع أن الأبطال الذين لهم أعمار متوسطة تسمح له بالحديث عن قضايا التغيير التي تقع داخل المجتمع الصيني المعاصر.
في الواقع يتقاسم الفيلم نفس الأمكنة والسِّير الذاتية، فمدينة «فيلمونغ»، هي المدينة الأصلية للمخرج وزوجته الممثلة بطلة العديد من أفلامه وكذا فيلمه الأخير، الممثلة زُوهُو تاوو، حيث تبرز حالة استلاب الشباب في فيلمه «رغبات مجهولة» (2002). كما نجد نفس الإرادة المرتبطة بالتحوُّل الاجتماعي والاقتصادي الصيني المرتهن بالعولمة كما في فيلم «العالم» (2006). نفس وضعية اختفاء الأمكنة والروابط التقليدية كما في فيلم «طبيعة ميتة» (2006). الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينسيا لنفس السنة. نفس التنديد والتمرُّد بقالب ميلودرامي لفساد السلطة والمال في لوحات دامية في فيلم «لمسة الخطيئة» (2013)… و«حينما تختفي الجبال»، محاولة تركيب عمل أبطاله في مواجهة المجهول الذي يطرح سؤال مصير ومستقبل أجيال قادمة. ونبرة الصدق تبدو واضحة في الفيلم وفي تعبير المخرج نفسه لما صرح: «حينما أخرج فيلماً، تكون قِواي صادقة على قدر الإمكان».
يحضر الزمن وانتقاله في أفلام هذا المخرج الصيني، ففي فيلم «المدينة 24» (2008) يتناول ثلاث فترات تاريخية وهي: الخمسينيات والستينيات والحاضر من القرن الماضي، نفس المنظور بالنسبة لفيلم «حينما تختفي الجبال» ثلاث فترات زمنية من 25 سنة من القرن الـ 21 للصين ومحيطها الإقليمي والدولي. نفس الملاحظة يمكن الإشارة لها بالنسبة للمكان، حيث الخروج من الصين في اتجاه فرنسا في فيلم «بلا جدوى» (2006)، تَمّ الاتجاه نحو أستراليا في فيلم «حينما تختفي الجبال». تضيق الأمكنة في المحطة والسيارة وغرفة المنزل والقطار وتتسع أمام البحر والجبال والطبيعة بشكل كبير ترافقها تيمة السفر بعيون كاميرا تتنفس وتبحث عن ملاذات للحرّيّة. فكما يقول جاك رونسيير «الدوائر المغلقة دائماً ما تكون مفتوحة»، لذا يسعى المخرج للبحث عن هذه الأمكنة وأنواع الاستيلاب وتداعياتها على كافة المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية وسبل الخروج منها.
_________
*الدوحة