فجوات الإسمنت وتماثل النمو!




مهند النابلسي*


خاص ( ثقافات )

قرأت في إحدى الصحف اليومية “القديمة” مقالة غريبة، يطرح صاحبها تشبيهاً فيزيائياً كنموذج محتمل للتفاعل البشري، حيث يتحدث عن إسمنت متساوي الفجوات… وأعتقد أن هذا الطرح مثير للجدل، فالمعروف علمياً أن الإسمنت هو ناتج كيماوي لتفاعلات ناتجة عن وجود الماء، وتؤدي في المحصلة لتكون هلاماً متراصاً بفجوات قليلة غير متجانسة الحجم، ثم يتحدث كاتب المقالة عن تجربة محاكاة قشرة البيض التي ينتج عنها إسمنت بفجوات متساوية.

أعتقد أن ذلك صعب الإدراك، وعذراً لصاحب المقالة التي قصد منها تشبيه الوضع السياسي الشرق أوسطي بالعام 1995 وكأنه يشبه الفجوات المتساوية لقشرة البيض، فالحقيقة أن الواقع السياسي (القديم والراهن) يكرس تماثل النمو العام بالفجوات “الإسمنتية” المتباينة الأحجام وربما الأشكال، فهناك معايير غير موضوعية لقياس المواطنة، وهناك آفات اجتماعية متأصلة تعصف بكل مفاهيم النمو والتطور والعدل والمساواة وتخلق ازدواجية “كئيبة” بين القول والسلوك… كما أن هناك نفاقاً مستفحلاً على كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والعملية والسياسية، ناهيك عن الكراهية الشديدة لمعظم أوجه النقد البناء مما يعزز وجهات النظر الأحادية والميل للإقصاء والتغول والانفراد بالرأي… والمجال لا يتسع هنا لعقد المقارنات الدالة التي لا تصب بالتأكيد في مصلحة “التجانس” في حجم فجوات النمو والتطور، إذاً لنطرح بعض الأمثلة والإحصائيات المعبرة بمجال البحث العلمي: فعدد الباحثين الأردنيين لا يزيد عن 70 باحثاً فقط، في حين تملك إسرائيل أكثر من 372 باحثاً (حسب إحصائيات العام 1995)، وهذا يدل على ضعف القناعة بأهمية البحث العلمي كاستثمار للمستقبل، وحيث نلاحظ ضعف العلاقة ما بين عمل المؤسسات العلمية والمؤسسات الإنتاجية ومؤسسات إدارة الدولة، ويبدو سوء التنسيق وتبعثر الجهود جلياً، وخاصة مع غموض معايير توزيع الكوادر والتخصصات، وتغول الواسطة والمحسوبية بطرق تعيين المناصب القيادية والإشرافية.

أعتقد (بعيداً عن دهاليز السياسة والصراعات المتأججة حالياً) أن ما يحدث بمنطقتنا العربية وفيما يسمى الشرق الأوسط، يشبه (لحد بعيد) الفجوات المتباينة للإسمنت العادي، فالغرب “الاستعماري المتعالي الخبيث واللئيم” بمعظمه يسعى منذ عقود لكي لا يكون هناك تماثل في النمو بين إسرائيل والعرب، كما تسعى أمريكا لتفوق إسرائيل النوعي بالسلاح والتكنولوجيا المتقدمة، فيما نجحت بتصدير “الفوضى اللاخلاقة” لدول الربيع العربي البائسة، وأطلقت مارد “الطائفية والإثنية” من رقاده التاريخي المزمن بمساعدة دول إقليمية معروفة.

لماذا نتصنع التفاؤل ونحن نلاحظ بأسى الفجوات الهائلة في النمو والتطور الصناعي- الخدمي، وكيف تسعى إسرائيل بخبث للتسلل لأسواق المنطقة من منطلق تطبيق مفهوم “اقتصاد السوق” وتعزيز حركات الاستثمار وتغول رأس المال، وكيف لنا أن نكرس أقوالنا لأفعال وسلوكيات عملية واقعية؟

لن أتطرق بهذا المقال القصير العام لغياب الرؤية والاستراتيجية وتغول الفساد بأنواعه العديدة وهيمنة “التوريث والواسطة والمحسوبية” على كل مفاصل حياتنا الاقتصادية والسياسية والثفافية والاجتماعية!

توقعت المفوضية الأوروبية ارتفاع عدد المهاجرين والنازحين إلى أوروبا لحوالي ثلاثة ملايين شخص بحلول العام 2017… هكذا يهرب مئات الآلاف من النازحين واللاجئين من بلدانهم الأصلية التي عصفت بها أهوال الفقر والمجاعات والحروب الأهلية والاقتتال الداخلي والطغيان والإرهاب المرعب والفاشية الدينية والفساد وعدم تكافؤ الفرص والبطالة إلى “جنة الشمال” الأوروبية التي تكاد تعجز عن استقبالهم واحتوائهم، كما يذهب بعضهم لأمريكا وكندا وأستراليا وشتى أصقاع المعمورة…

 نعود هنا لنظرية “عدم التماثل” بفرص الحياة وأسباب العيش المستقر الآمن للبشر ولتباين مستويات العيش بين البشر، وقد ساعدت العولمة هنا بكل صورها وعممت نماذج الحياة المتنوعة عبر العالم، كما سهلت الهجرة مافيات تجارة البشر وبعض الدول الإقليمية الخبيثة لإحراج الآخرين وتوريطهم، كما أن ظروف الحياة القاهرة للنازحين بالدول العربية المجاورة وقلة وشح المساعدات بأنواعها قد ساعد على استفحال أزمة اللجوء عالمياً، مما أحرج الكثير من الدول “غير المستعدة” لقبول هذه الأعداد الكبيرة من النازحين خوفاً على استقرار أوضاعها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، كما أن بعض دول أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي المتفككة تعاني نفسها من ضعف الاقتصاد وتفشي البطالة (كبولونيا ومولدافيا ورومانيا وأوكرانيا على سبيل المثال)، وتجد بالنازحين الجدد منافساً محتملاً ومنغصاً بشرياً وعبئاً اجتماعياً بغيضاً غير مقبول… وفي اعتقادي أن السبب الخفي لهجرة الكثير من الناس العاديين الذين يحظون بفرص عمل واستقرار حياتي في بلادهم الأصلية فيكمن حقيقة بالخبر التالي:

أثار اختيار وزير دفاع في كندا من أصول هندية ضجة واسعة في البلاد، لكن أغلب التعليقات جاءت مؤيدة لهذا الإجراء!

لم أقتنع أبداً بما قاله رئيس البنك الأوروبي ماريو دراجي بأن اقتصاد أوروبا سيقوى إذا استثمرت الدول في جهود التعامل مع أزمة اللاجئين، وقد أثبتت تفجيرات باريس الدامية بأن:

طباخي السموم يأكلونها ولا يكتفون بتذوقها: فهل ستعيد الهجمات الباريسية التفكير بمراجعة الدعم “اللامباشر” للإرهاب الذي تمارسه الحكومة الفرنسية، وهل ستؤدي لمراجعة فكرة اندماج النازحين والإرهابيين المندسين بالمجتمعات الأوروبية لتعزيز الاقتصاد… وهل ستراجع المستشارة الألمانية “ميركيل” موقفها واندفاعها!؟

وقد وجدت أبلغ وأصدق تعبير لأحداث 13 تشرين الثاني بباريس ممثلاً بما كتبته الباحثة رزان إبراهيم فيما يلي، استناداً لنص ورد برواية الكاتب اللبناني أمين معلوف “القرن الأول بعد بياتريس”:

أوروبا تعيش تفسخ العالم العربي
طالما وجدت في الرواية ما يسعف أفكاري

عبث في جنوب الكرة الأرضية سيؤدي إلى كارثة عالمية على مستوى الأرض كلها. أما أن ينظر بقية العالم إلى تفشي البلاء في العالم العربي من موقع المشاهد البعيد، فذاك مما تشهد أحداث باريس المؤسفة ليلة أمس استحالته. 

فرواية أمين معلوف (القرن الأول بعد بياتريس) تقف عند نقطة معينة ساد عندها في الشمال شعور بأن جزءاً من العالم هو الأكثر اكتظاظاً هو في طور للتحول إلى منطقة محظورة وفضاء تهيم فيه الأرواح، كما ساد الشعور أن هذا الكوكب الواقع في الأسفل الذي اعتاد اعتباره عضواً ميتاً هو جزء من جسده وبدأ فجأة يعيش تفسخ جنوب تحولت شعوبه إلى مسوخ متعطشة للعنف بسبب حرمانها من كل حياة طبيعية ومنعها من أي مستقبل.

تتمثل الكتابة الحقيقية بأحداث صدمة كهربية بوعي القارئ، بغرض انتشاله من الخدر والتقاعس والقبول بالأمر الواقع ثم دفعه لليقظة والفعل الواعي والعمل الصائب، فقد انتكسنا (بدل الدخول الواعد للقرن الحادي والعشرين والتقدم ومواكبة العصر) ببداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ودمرنا دولنا وإنجازاتنا بحجة “التحرر من الطغاة” والحرية والتعددية والديموقراطية، وبدلاً من تحقيق ذلك سرقت الانتفاضات الشعبية من قبل الخفاقيش القاتلة التي استندت للفاشية الدينية المقدسة لتحقيق مآربها المشبوهة بالتنسيق مع قوى التخلف والظلام والردة العربية وبالتسيق مع إسرائيل التلمودية والاستعمار الغربي-العثماني العتيد، وأجهزة المخابرات الإقليمية والعالمية المحترفة، ثم دخلنا بمعظمنا لنفق ظلامي طويل ومهلك وجهنمي بائس قد يستمر لعقد قادم وربما يتجاوزه!

* ناقد فني أردني

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *