بين سحر الصراع وسحر الأيدلوجيا


أسماء الغول

كنا حينها نزور جدي بمستشفى بالقدس، لم أكن أتجاوز الخامسة حين أبهرتني الحشائش الخضراء والمساحات الواسعة والمصعد الكهربائي الذي اعتقدت وقتها أنه يسافر بنا من مكان إلى مكان.
 اشترينا البيض المسلوق وكعك السمسم الذي تشتهر به القدس، كان جدي يعمل بأحد الفنادق هناك مثله مثل آلاف العاملين من قطاع غزة، وقد بدأ يعاني من مرض القلب الذي سيودي بحياته بعد 23 عاماً. 
كانت القدس في طفولتي تعني الأشجار الكثيرة والوجوه المتنوعة، كل شيء عكس المخيم الذي تربيت به، لم أشعر هناك سوى بالاندهاش. كنت أسأل جَدي يومها عن كل شيء اعتبرته غريبا عني؛ “ليش يا سيدي هديك بشعرها؟”، فيرد “هدول يهود يا سيدي”، “ليش في شجر كثير هين يا سيدي؟”، “هاي حديقة المستشفى لزيارة المرضى”. كان الجميع مشغول بوضع جَدي الصحي وتعب قلبه، ورغم ذلك لم ينسَ أحد هذه الطفلة التي تنظر إلى كل شيء حولها فيردون على أسئلتها وينادونها ويسحبونها من يدها، انه الحب على طريقة المخيم، ولاحقا سأكتشف أن هذه القسوة الحنونة علمتني الكثير. الآن أنا في الثالثة والثلاثين من عمري، ولأول مرة منذ تلك الأيام أزور القدس. 

أذكر أنني مررت بها من بعيد حين عدنا من الامارات عن طريق الاردن إلى الضفة ثم إلى غزة عام 1997. لم أصدق أنني أخيرا سأزورها، فقد قدمت كثيراً للحصول على تصريح من الجانب الإسرائيلي، وكان يتم رفضي لأسباب أمنية، ولكني أخيرا أصبحت في السيارة متوجهة إليها من معبر بيت حانون “ايرز”، بعد أن استطاعت القنصلية الأميركية الحصول على تصريح لي ولسبعة عشر صحافيا آخرين، للمشاركة في ورشة عمل حول أخلاقيات الصحافة الاستقصائية تستمر ليومين، تحت اشراف المدربة الأميركية المصرية هدى عثمان. في الطريق من المعبر للقدس، أول شيء لاحظته اقتراب السماء من الارض، وهذا لا يحدث إلا إذا نظرت إلى أفق واسع وبعيد، فالأفق الوحيد في قطاع غزة هو أفق البحر، إن ما يجعل غزة غزة هو بحرها. هنا تذكرني الشوارع والمدن، واللافتات المنظمة بأوروبا، لكن الجبال والطبيعة تذكرني بأنه الوطن، انه شعور بالانتماء وعدم الانتماء. سألت نفسي “هل يجب أن يكون مخيما كبيرا كي اشعر انه وطني؟”، بالتأكيد لا. أعتقد أننا نحن من ولدنا بالمخيمات لا توجد عندنا عقدة المكان الأول، بل عقدة السفر، إلا أن هذه الطريق لا شيء فيها يجعلها تشبه وطني؛ ليست لغة اللافتات أو شكل الشوارع، أو السائقين المحيطين بسيارتنا. القدس بعيدة ساعة ونصف عن غزة، الآن بدأت أراها، واقعاً حياً، ان السياسة تشعرك أنها بعيدة جدا، والاحتلال يشعرك أنها مستحيلة، ليست سوى ذاك الحلم في الشعارات الوطنية. وصلت إليها الآن.. في وعيي الحالي، وليس وعي تلك الطفلة، بقي الاندهاش من المساحات الخضراء ذاته، لكن أشعر بغربة داخل الوطن..غربة لم تشعر بها جدتي يوما وهي تروي ذكرياتها عن القدس والبلاد. وطن نقلته لي بالحكايات ذاتها، فكان وجودي كأنني لمست قصصها، لمست عالم الطفولة المتخيل الذي كان قطعة من الجنة وقتها. ان الوصول للقدس أجمل بكثير من التغني بها، حتى أنه اسهل، رأيت شجر الياسمين بأنواعه في كل مكان، الاحجار القديمة والشوارع المرتفعة والمنخفضة.

 يقول لي الشاب الذي يعمل بالفندق “نحن هنا في القدس الشرقية يعني الأراضي المحتلة عام 1967، وهناك على الشارع المقابل القدس الغربية يعني الاراضي المحتلة عام 1948”. فأرد عليه “إذن هناك احتلالان في القدس؟!”، وربما زمنان للاحتلال، وأهمس في داخلي، “كم احتلالا تحتمل المدن؟، وكم هو الزمن سخي معه؟”. التزامي بورشة العمل التدريبية، واليومين القصيرين، قيود لم تمكني من قضاء الوقت الكافي بعد 28 عاماً حرمني خلالها الاحتلال من زيارتها، كما لا يزال يحرم الآلاف غيري. هذا الوقت القصير جعلني أخرج منذ السادسة صباحا، لأتمشى، فقطفت الياسمين من امام أحد المنازل القديمة في القدس الشرقية، وفكرت انه بقي لتكتمل أيقونة القدس في متخيل ساذج أن أسمع صوت المطربة فيروز يصدح من مكان ما. سمعت ضجة أهل البيت، عجّلت خطوتي، فلا أريدهم أن يروني متلبسة بسرقة ياسمينهم، لكني في الوقت ذاته تمنيت أن يفتح الباب لاخوض نقاشا مع العائلة عن الورد وغزة واسئلة الانطباعات الاولى والزيارات الاولى..لكني هربت. مشيت…إن المدينة تذكرني بعمان، وبيروت، إلا أنها في الوقت ذاته مدينة لا تشبه إلا نفسها، كانت بدأت أخبار التوتر في القدس تتصاعد، وتلقيت على هاتفي رسائل إخبارية كثيرة حول ما يحدث، ولكني لا ارى شيئاً حولي. أحياناً سطوة الاعلام خاصة المؤدلج منه، تحول الاماكن إلى شيء آخر، وربما المشكلة في مفهومي للتوتر السياسي، فتعودته بغزة أن يكون قصفا، وحربا جديدة تطحن المدينة بأكملها.

 غالبا نظرة القادم من غزة للقدس تشبه نظرة أهل القدس لغزة، كل طرف يتعاطف مع الاخر ويعتقد أن مدينته حالها أفضل من الاخرى، سمعت أغاني وطنية قادمة من بعيد، كما تناهى إلى أذني حديث رجلين في الشارع، احدهما يقول للاخر “خربت الاوضاع”. استمتع بالمشي؛ هناك هواء ومطر خفيف، “انها اول ايام المطر منذ الصيف” كما قالت احدى المقدسيات. أزهار الياسمين تنبت من بين الجدران العتيقة وليس فقط بجانب ابواب المنازل، إن الصراع يجعل لهذه المدينة سحرها وربما شجرها، فما أراه في هذه المدينة بغربها وشرقها، لا استطيع أن اصفه بالتعايش، انه سكون من نوع ما. لا يمكن ان يكون تعايشاً؛ اذا كان بضعة تلاميذ من اليهود الإسرائيلين ينتظرون حافلة معهدهم وبصحبتهم سيارة الشرطة، ولا يمكن أن يكون تعايشاً إذا كانت مسطرة طفل فلسطيني مكسورة تجعله متهما بنية القتل، ويعتقله الاحتلال.

إن الامور داخل القدس مختلفة تماما عن المنظور الايدولوجي الذي قد ننظر نحن من خلاله الى المدينة، شعرت أن هذا الصراع بقدسيته يحميها من الانفجارات، هناك اتفاق ضمني على الهدوء أو كان كذلك، فلاحقا بعد زيارتنا وصلت هبة السكاكين لذروتها. انه اختبار صعب ومن نوع جديد علي، معاناة مختلفة أن تعيش مع محتلك في ذات المدينة، ويتصرف الجميع كمدنيين، وربما في عبارتي هذه أنا الأخرى لا ازال انظر من خلال أيدولوجيا مكونات غزة الى القدس!.فكرت؛ هل لو ولدت وكبرت في هذه المدينة أستطيع أن أعيش السكون والمدَنيّة ذاتهما؟. إذا كان البحر جمال غزة، فسحرها الآخر هو الأيديولوجيا. إن القدس فيها الصراع الذي ولدت من أجله تلك الأيديولوجيا في غزة، ولكنها مع ذلك تبقى مدينة غير مؤدلجة، بل فيها سحر الصراع الساكن ولغزة سحر الأيديولوجيا المتفجر، وطالما كانا في تبدل بفترات تاريخية كما الآن فانفجر سكون القدس، وسكن انفجار غزة. إن ثبات الصراع يغذي ديناميكية الأيديولوجيا، لكن الأخيرة نادراً ما غذت الصراع في القدس، لكن إذا كانت عبارتي الأخيرة صحيحة، فكيف يحدث أن هناك أكثر من أربع وعشرين عملية طعن في أقل من شهر؟، إنها فورات الغضب التاريخية اللازمة لتذكرنا بالصراع، وليعرف الجميع قيمة السكون. رجعت إلى الفندق لأجد فيروز تصدح في صالة الاستقبال، ابتسمت داخلي، اكتملت أيقونتي الآن. ان حقيقة أن جدي كان يعمل يوما في هذه المدينة، ومشى في شبابه بشوارعها وهو ينتظر راتبه كي يعلَم أبنائه التسعة وبناته الثلاث في جامعات مصر وليبيا وغزة، هي ذكرى أثرت بي أكثر من أي شيء آخر. أمشي وأحاول أن أعرف ماذا كان يدور بذهنه وقتها؛ هل كان يفكر أن يوسع بيت المخيم بغرفة أخرى؟، لقد كان دوما يعطيني مصروفا أكثر من صديقاتي وأنا في المدرسة الابتدائية، كما كان فخورا بأبنائه وبناته جميعهم، توفي قبل أن يعرف ان هذا البيت سيتحول الى فتات في حرب 2014. لم أبكِ في القدس، لم أشعر بتلك المشاعر الكلاسيكية، ربما لأني أعايش الأيديولوجيا، ولا أعيشها داخلي، إلا أنني لن أنكر أنني بكيت داخل المسجد الأقصى، وأنا أدعو لعائلتي. الذاكرة تعطي للاماكن هيبتها، انها مثل اللحظات التي تشبه لحظة ولادة طفلك الأول، أو لحظة تخرجك أو حبك الأول، ان الذاكرة تضخم الأحاسيس، وتحول الواقع لأسطورة.. لذلك فإن سمعة الأماكن ولحظاتنا الأولى أكثر هيبة منها ذاتها. إحدى بوابات الأقصى يدخل منها السياح الأجانب، يلتقطون الصور، لم أشعر أنني أختلف عنهم سوى بدخولي للصلاة في المسجد، توجد غصة ما تذكرك أنك غريب عن كل شيء هنا، أو ربما هذه هي المشاعر الاعتيادية لكن لا أحد يصرح بها، فتكفي صورة سيلفي هناك لتحكي العكس وأنك عتيق فيها. التقطت بضع صور تشبه كل الصور التي يلتقطها المئات يوميا، لكنها أبدا لا تشبه صورة تلك الطفلة في ذاكرتي التي أكلت الكعك وحولها المئات من الوجوه المتنوعة والفرحة. وقت زيارة الاجانب ينتهي عند الساعة الثانية والنصف ظهرا، هناك محاولات اقحام للمستوطنين بأن يكون لديهم ساعات محددة، إنهم يقسمون المسجد الأقصى زمانيا.

دخل أمامنا مستوطن وحوله ثلاثة رجال شرطة إسرائيليين، وخرج من البوابة في الناحية الأخرى من باحة المسجد الأقصى، فتصاعدت تكبيرات المرابطين والمرابطات. استفزاز مجاني، وصناعة للكراهية، لتتذكر فجأة الصراع، إن هناك توازنا ما يجعل الاشياء لا تصل حد الانفجار، وسكونا لا يصل حد التعايش، انها الهوية العقائدية القوية للمدينة، فهي مهبط الاديان الثلاثة، وهنا ميزان الضبط. عدت الى الفندق في القدس الشرقية.

هناك ازدحام، اضطرت السيارة أن تقف أمام البيت الذي قطفت ياسمينه صباح اليوم، فُتح الباب، نظرت وانتظرت باهتمام الذين من المفترض أن يكونوا أصدقائي الخياليين، إلا أن من خرج مستوطن وأبناؤه يرتدون القلنسوات الصغيرة على رؤوسهم. صُدمت وأول ما فكرت به كيف يكون بيتاً قديماً وحجراً قدسياً، وعراقة وورد الياسمين ويعيش به من هو مستحدث زمانياً ومكانياً، السائق لاحظ صدمتي فقال “كانت هناك عائلة عربية، لم تستطع الاحتفاظ بالمنزل، ووضعت خيمة لمدة طويلة أمامه، ثم رحلت”. لحظتها لم يسعفني سوى تذكر كلمات جدي حين أتعبني التغيير في المدينة الجديدة، “ولا يهمك يا سيدي، ستعودين بعد قليل إلى غزة”، فاستعجلت الرحيل إلى الأيديولوجيا.

________
*الأيام الفلسطينية

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *