«السيد الرئيس» رواية استورياس.. ملحمة الاستبداد


لينا هويان الحسن

«وزن الأموات يجعل الأرض تدور ليلا، وفي النهار وزن الأحياء، عندما يفوق عدد الاحياء يصبح الليل أبديا، لن تكون له نهاية سينقص وزن الاحياء كي يعود الفجر»

من أجل الذين يقاسون التعذيب بإسم العدالة. كتب ميغيل أنخل استورياس روايته الشهيرة « السيد الرئيس» الصادرة حديثا عن دار الجمل، قام بترجمتها جمال خلاصي، لكن الرواية صدرت عام 1946 وأوصلت كاتبها لجائزة نوبل التي حصل عليها استورياس عام 1967 تعتبر الرواية الأهم في تاريخ أمريكا اللاتينية. كتبها الاديب والشاعر والصحافي الغواتيمالي «استورياس» بروح تضافرت فيها حرفية الروائي وموهبة الشاعر ودقة الصحافي لتكون أجمل رواية ساخرة يمكن ان تُقرأ في فضح «الديكتاتورية العسكرية». استورياس يصف فيها حياة الشعب في ظل رئيس لا يرحم. استورياس عاش حياته في المنفى لأنه كان من اوائل الأدباء الذي ناهضوا الاستبداد، وببراعة كبيرة نقل جو الرهبة والهلع وانعدام الأمن والقلق والذعر الذي ساد في غواتيمالا ابان حكم «مانويل استيرادا كابريرا»، رغم ان اسم هذا الديكتاتور لا يظهر ولا مرة في الرواية، وهنا الذكاء الروائي الذي تميزت به هذه الرواية التي تعصف بالقارئ منذ السطور الإولى. يمكن اعتبار الصفحة الاولى من رواية السيد الرئيس لاستورياس التي تمتد لتكون 365 صفحة، واحدة من أجمل وأقوى الصفحات الافتتاحية التي يمكن أن تحظى بها رواية.
تبدأ الرواية بقوة عمياء سلبت حياة العقيد خوزي باراليس سوريانتي الملقب بالرجل ذي البغلة الصغيرة. وتبدأ عملية التحقيق الملفقة سلفا، حيث يراد منها اتهام جنرال غضب منه السيد الرئيس لسبب غامض، يكفي انه غضب ليتولى المنافقون حوله تلفيق شتى التهم للجنرال، لهذا نجد أن القاضي يدوّن شهادة مزورة أُرغم على قولها شاهد أعمى. تبدو العدالة كناموسة صغيرة تفرّ عبر الطرق الملتوية الضيقة لضواحي المدينة الفقيرة والمعتمة، حيث لا معنى أن يصرخ متهم في وجه القاضي: «ولكنني بريء»، البراءة لا تُمنح لأحد، البراءة مصادرة، وهنالك ثمن لكل شيء لأبسط شيء عليك أن تدفع ثمناً. يتضخم ملفّ محاكمة الجنرال كناليس بتهمة التمرد والعصيان والخيانة لن يستطيع الدفاع عن نفسه. الحكم مكتوب سلفا تماما كما التهمة المعدة بحمق وحقد واصرار.
كاميليا ابنة الجنرال، بشعرها كالنار السوداء غير المرتب ووجهها البرونزي اللامع من أثر زبدة الكاكاو، وعيناها الخضراوان المشقوقتان بانحناء حتى الصدغ. تعيش محاطة بكثير من الاعمام والعمات وابناء وبنات الاعمام. كانت تجذب شعرها وتصرخ وتقوم بتكشيرات مضحكة. يسوؤها أن تنتمي لهذا السرب من الاشخاص من نفس العائلة، ان تكون الصغرى، ان تكون ابنة الجنرال، ان تذهب معهم الى الاستعراضات العسكرية، أن تذهب معهم الى اي مكان، الى القداس الكبير لتتجول حول مسرح كولومبس، ان تنزل لتتسلق منحدرات الوديان. كان اعمامها فزاعات بشوارب بأصوات الخواتم في أصابعهم. أبناء أعمامها خرق قليلو التربية ومقلقون عماتها نساء لا يعجبن أحدا.
يغدو اختطاف ابنة الجنرال هو الانتقام التقليدي من هروب الجنرال المطلوب رأسه من قبل الرئيس. الذي يعيد قراءة القانون العسكري الذي يحفظه عن ظهر قلب وكمن يتمتع بحساء حار تلمع الرغبة في عينيه كلما وجد فصولا قانونية – كل سطرين – هذه الجملة الصغيرة: عقوبة الاعدام، أو مرادفها: العقوبة القصوى.
التفاصيل
ما هي أبرز روايات الانسانية إن لم تكن تأريخ التفاصيل الحزينة الصغيرة؟! مثل قصة الخادمة التي عُذِبت لتقول شيئا لا تعرفه، ضربوها وعذبوها وجلدوها واخيرا احضروا لها رضيعها ووضعوه قربها وهي موثقة اليدين والرجلين وتركوه يبكي حتى الموت، وعندما سمحوا لها بإرضاعه كان قد أصبح جثة عفنة ثم باعوها لبيت المومسات؟ طبعا ستموت مجنونة في مستشفى للفقراء.
إنه التأريخ الحقيقي الذي يتقنه الروائيون ويخشاه المؤرخون، وحدهم الروائيون يؤرخون لأولئك الذين لا يتحدث عنهم مؤرخو القصور؟
إن «الانسيكلوبيديا» الغنية بالمعلومات والأفكار، لا تخبرنا عن ذلك، حقا إن حوليات الانسانية الصادقة لا تجد متنفسها إلا في الروايات.
الجنرال في رحلة هروبه يقول له مرافقه ودليله الهندي: «سنصل إلى النهر أيها الجنرال لكن المكان الذي سنمر منه لا يمكن أن يعبره إلا رجل حقيقي». في مكان حتى الوحوش لا يمكنها المغامرة فيه يدير الجنرال كناليس رأسه في كل النواحي تائها في الطبيعة المنسية المنيعة المدرة مثل روح اسلافها، ويعبر.
شعب ملعون
كاميليا التي يقع في غرامها مختطفها، ويحاول الزواج منها رغم احتضارها، يخفيها عن اعين اعوان السيد الرئيس، لكن السيد الرئيس يعمد الى اغتيال الجنرال بطريقته الخاصة، عندما تصدر الصحف الرسمية مزينة بصورة ابنته وهي عروس وقد عقد قرانها على مختطفها. الجنرال الذي قطع غابات وصحارى وجبالا لينجو، يقرأ الخبر ويموت.
«ليس هناك أمل في الحرية، يا أصدقاء، نحن محكومون بتحمل هذا إلى ما شاء. المواطنون الذين يتطلعون لسعادة الوطن بعيدون جدا: بعضهم يتسولون الصدقة في أرض غريبة، والآخرون يتعفنون في مقابر جماعية. يوما ما ستنغلق الشوارع من الرعب، ولن تعطي الاشجار ثمارا كالسابق، الذرة لن تغذينا، والماء لن يروينا، وقريبا يأتي زلزال ليسحق كل شيء فليأت، لأننا شعب ملعون. تصرخ فينا أصوات السماء مع الرعود: «أخساء نجسون شركاء الجور على جدران السجون ترك مئات الرجال آثار أدمغتهم التي فجرتها رصاصات المجرمين مازال رخام القصور مبللا بدماء الابرياء اين نولي وجوهنا لنرى الحرية؟»
رواية «السيد الرئيس» تنحاز إلى فكرة جريئة يطرحها أحيانا النقاد: الروائيون هم، مؤرخو التاريخ المعاصر دون زيف، يحاولون كتابة هذه الحقبة بالذات، وهذه التفاصيل بالذات، تاريخ الناس الذين لا يسمح لهم باختراع الاحداث التاريخية، إنما فقط مسموح لهم ان يكونوا بيادق او أدوات او ضحايا، في وطن يغدو فيه «الموت» هو الملاذ الآمن حيث لا يمكن لأحد أن يصيبه مكروه. الموت هو النجاة الوحيدة من العذاب والتعذيب وعتمة السجون. رواية رائعة تُقرأ وتُحفظ في رف قريب من قارئها.
______
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *