عزت سراييج شاعر البوسنة الذي تجرأ على أن يعيش


داود الجلنداني


من غير النادر أن تلتقي بشاعر أو روائي أو كاتب في مختلف صنوف الأدب وتدخل في حالة من الذهول مع كل نص من نصوصه، إلا أن هذا ما حدث حين كنت أتصفح الكتاب الهدية الذي يأتي كل شهر مع مجلة دبي الثقافية لعدد شهر مايو وكان يحمل عنوان «عشق وحداد» وهو يحتفي بمجموعة من مختارات الشعر العالمي. هذا الكتاب الذي جمع مقتطفاته الشعرية المترجم الرداد شراطي وحوى قصائد لعدد من الشعراء من ايطاليا وبلجيكا والبوسنة وإسبانيا والبرتغال. وما يهمنا هنا هو الشاعر البوسني عزت سراييج (1930 – 2002) وديوانه (أحد ما دقّ الجرس) المكتوب بالإيطالية، وقد نال هذا الديوان جائزة البرتو مورافيا للعام 2002 .

هذا الشاعر الذي أتعرف عليه للمرة الأولى يتمتع بعبقرية مذهلة في رسم الصور الشعرية، فيبهرك بقدرته على اقتناص الفكرة واختيار الصورة المناسبة التي سترسخ بذهن القارئ. أما عن طريقته في إنهاء جملته فهي مفاجئة بحيث لا تستطيع أمامها سوى الدهشة والإعجاب. يقول عزت سراييج في قصيدته «سيدتي» التي كتبها في 1964م :
سيّدتي
أعفيكِ الحدادَ يومَ رحيلي
يومَ لا أجيئكِ إلا في انفلات شكل الذكريات
كوني سعيدة
كما في ما مضى من مساءاتِنا الجميلة
اقرئي مرّة كتبي واصرخي
هذه الأمنية التي يتمنى الشاعر من حبيبته أن تحققها له وهي أن تُعفي نفسها من الحداد عليه يوم رحيله، هذا الشاعر المُترفق بحبيبته التي يعلم جيداً أن رحيله سيربكها كثيراً، تأتي من معرفة الخبير بالفقد وبالحنين الذي يتوقد في قلب الحبيب عند فراق محبوبه، كيف لا وقد عاصر شاعرنا الغزو الصربي للبوسنة ورأى ما يخلفه القتل والدمار والخراب من ثكل للقلوب واغتيال للحياة لا تمحوه السنين. يقول الشاعر لحبيبته حين ينفلت عقد الذكريات وتستحيل الأماكن والزوايا قنابل تنفجر في وجه المكلوم عندما تباغته الذكريات، يقول لها أن تتذكر المساءات الجميلة التي مضت عليهما سوية، أن تقرأ كتبه وأشعاره ورسائله إليها فتصرخ مرةً حتى لا يستبد بها الأنين، يريد لها أن تعيش الحزن، مرةً واحدة.
ولا يوجه شاعرنا حديثه لحبيبته التي يُعفيها من الحداد يوم رحيله فقط، بل يُخاطب الأجيال التي تأتي بعد الحرب، الأجيال التي عاش بعضها أزمة اللجوء والتشريد فيقول لها:
أيتها الأجيالُ القادمة ابحثي عنكِ ملءَ تَحَرٍّ أحمرَ،
أجسادُنا ستضاجع بعضها تحت الأرض الخرساء،
فلتسيري بتؤدة
لئلا تجرحي شفتينا
لئلا تطئي نظراتِنا الميّتة
يتخيل الشاعر الخطوات الحافية للأجيال القادمة على الأرض التي عادوا إليها بعد الحرب، يمرون على الأجساد المطمورة بركام البيوت المهدمة وبالأشجار المُقتلعة، فيقول لهذه الأجيال امشي برفق، لا تُزعجي النيام تحت الأرض الخرساء، رفقاً بالحبيبين اللذين لم تكتب لهما الحرب اللقاء على الأرض فتعانقا تحتها، لا تجرحي الشفاه العطشى ولا النظرات المّيتة الحزينة. أيتها الأجيال كوني أرفق بهما من المدافع ومن غريزة الإفناء.
ولسوء حظ شاعرنا البوسني فهو لا يستطيع كتابة مرثيته الأولى/‏الأخيرة كعادة الشعراء، كما فعل غازي القصيبي سبيل المثال في قصيدته «سيدتي السبعون»، يُخبرنا عزت سراييج عن رحيله، لكنه أيضاً باقٍ ويدعونا لزيارته في المنزل رقم 9/‏3 الكائن بزقاقِ الملكِ تفرتكو:
كم أغبطُ الآن ذلك الفتى عزّت سراييج، تلميذ السنة الأولى ثانوي
الذي كان يرتدي معطفا عسكريا ويذهب
لغزو العالَم غيرَ عابئٍ بعجزه عن تصريف
فِعْلِهِ المُفضّل عَشِقَ.
لن يًسمح لي أبدا بكتابة مرثيتي الأولى
لن يُسمَح لي أبدا أن أعود إلى سنّ السابعة عشرة أو الخامسة والعشرين
إني راحلٌ. أحانَ الوقتُ؟ عليّ أن أتّخذ من الذكريات ملجأ
لكنّ لي أشياءَ كثيرةً أريدُ قولها
إني راحل. ومع ذلك فأنا دوما هنا. إذا مررتم بالرقم 9/‏3 الكائن بزقاقِ
الملكِ تفرتكو، سأقدّم لكم كأسَ شايٍ وذِكرى
أنا دوما هنا. رجاءً امنحوني دقيقةً كي ألملم نفسي!
وهل يبقى من حال الخارجين من أزمة الحروب سوى الذكرى والصور التي حملوها ذات رحيل مفاجئ على وقع القصف وصوت جنازير الدبابات؟ ولكن شاعرنا كريمٌ فهو يقدم لنا مع الذكرى شاياً، هو هناك دوماً في عنوانه، فقط امنحوه دقيقة ليلملم نفسه قبل الدخول. وعلى الرغم من المآسي فإن الشاعرَ مرهفٌ لا يعبأ إلا بالسلام وبالحب وبالموسيقى والأغنيات، هو وإن جنّدوه ففيه شيء لا يستقيم مع قرع طبول الحرب، هو غارقٌ في شيء آخر:
لم أعرفْ كيف أمشي على إيقاع قرْع الطبول.
لم أعرف كيف أقاوم غزوَ الحُنُوِّ والكمنجات
شاعرنا العذب عاش كل شيء في حياته، عاشها بطولها وعرضها، آلمتهُ واختبرها وخَلُصَ في النهاية أن أهدانا قصائده التي ستبقى تُشير لشاعرها القدير، وهو نبيلٌ يعطِفُ على أحبائه من وخز الوداع ومن الفراق. عاش كل شيء «إلاّ الموت»:
عشتُ كلَّ شيء
إلا الموت
لي فسحةٌ أخرى لأزورَ بلدا ما
لأتّخذَ صديقا
لِمَ لا؟
لي أيضاً فسحة الحصول على وِسامٍ شرفٍ
(سيكون الأول في حياتي)
ولي ختاما أن أقول
عشتُ كلَّ شيءٍ
إلا الموت
ألاّ أجرحَ حين أودِّع
مَن أحب ويحبّني
هو وحدَه ما يربطني بهذه الحياة
ويتساءل عزت سراييج عن مصير ذلك الشحرور الذي كان يُغني الربيع الماضي في محطة القطار:
أيُّ منتهى بلغة ذاك الشحرور
الذي غنّى الربيعَ الماضي
لمّا كنّا ننتظر قدوم القطار
بمحطّة دولفيشي؟
أتكفي قصيدةٌ عن الشحرور
لتحلّ محلَّ غناء الشحرور؟
أشكُّ في ذلك
لا يظن شاعرنا بأن قصيدته عن الشحرور الذي لم ينسى تغريده منذ الربيع الأخير سوف تكون بديلاً جيداً عن غناء الشحرور ذاته، فلا شيء يُستبدل عن الحياة، لا يمكن أن نستبدل الحب بالذكريات وبالصور، ولذلك لا يمكن لنا كذلك أن نستبدل شاعرنا البوسني بقصائده التي وصلت إلينا متأخرة، والعتب في ذلك علينا بعض الشيء، لكننا ربما سنجد مكاناً لوصيته للحبيبات في أن يترُكن الحداد يوم رحيلنا ففي الحياة متسعٌ من فرح. وهناك متسعٌ في مقالنا هذا لُشكر المترجم الذي أوصل إلينا بجهده وبلغته التي ترجم بها من الإيطالية قصائد الشاعر القدير عزت سراييج.
________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *