مهند النابلسي*
خاص ( ثقافات )
(أسبوع الفيلم الياباني في عمان)
شاهدت أربعة أفلام يابانية تختلف عن النمط المعهود والمتوقع للسينما الشبابية العاطفية: فهي سينما “نظيفة” بلا إثارة مصطنعة، وبدون اجترار ممل للأحداث، كما أنها بدت حافلة بالتفاصيل العملية والحياتية والسلوكية، لذا فقد اعتبرتها كدروس إنسانية في التربية العاطفية.
فيلم “جينكس” يتحدث عن فتاة كورية تهرب من مأساة فقدانها لصديقها، لتقضي ثلاثة أشهر في جامعة يابانية، ثم لتلتقي بالصدفة مع فتاة يابانية هادئة وانطوائية تدعى “كاتيده”، وعندما تكتشف أن كاتيده معجبة بزميلها “يوسكيه”، لكنها تعجز لخجلها عن التعبير عن عواطفها، هكذا تبذل “جيهوري” جهوًدا استثنائية لتقريب كليهما من الآخر متبعة نمطاً كورياً فريداً يدعى “جينيكس”، ولكنها تبالغ وتنغمس كثيراً حتى تجد نفسها منجذبة لـ”يوسكيه”، وتقاوم هذا الشعور وتغلب نواياها الطيبة على مشاعرها الشخصية حتى تنجح أخيراً بمساعيها الإنسانية وتقرب بينهما… أما الفيلم الثاني “احرص على المشاركة” فيتحدث بأسلوب فريد عن علاقة الشاب “شيرو” مع والده المريض المقبل على الوفاة، ويستعرض علاقته الإشكالية مع والده الوقور المتشدد العصبي سلوكياً أيام كان بأوج صحته، وعندما يتم تشخيص إصابة شيرو نفسه أيضاً بمرض سرطان المعدة وتبيان خطورة حالته، يخفي حقيقة حالته عن والدته الطيبة وخطيبته الوديعة، ثم يقدم بعد وفاة والده بعمل غريب مفاجئ يتمثل بنقل نعش والده المتوفى لبحيرة مجاورة، ثم يجر جثمان والده المتوفى (بحضور المعزين المندهشين) ليقدم مع الجثمان على صيد السمك في البحيرة، التزاماً بتحقيق وصية والده الذي تمنى ذلك قبل وفاته، هكذا أدهشنا هذا الفيلم بهذه اللقطات الغريبة المحزنة التي تدل على رهافة العلاقة بين الابن والأب مع قرب وفاة الابن، ثم كشفه ذلك لخطيبته “الوفية” التي لم تتخلَّ عنه في اللحظات الأخيرة…
الفيلم الثالث “ما وراء الذكريات” فيجمع الفتاة الحزينة كانا مع الشاب العابث روكو، وكلاهما يعاني من ماضٍ مأساوي يتمثل بفقدان كانا (التي تعمل بإعلانات الأفلام) لصديقها منذ الطفولة “هاروتا” بسن الخامسة عشرة، بعد أن دعسه باص كبير سريع أثناء انشغاله بإرسال “مسيج موبايل” لها، مما يعقدها عاطفياً، وعندما تقابل روكو الموظف بشركة توزيع الأفلام، تنجذب له تدريجياً على الرغم من تشاحنهما المستمر لتناقض سلوكهما، كما نلاحظ أنه يخفي أيضاً ماضياً مريراً يتمثل بفقدانه لصديقته الصغيرة أثناء طفولته، عندما صدها بعنف وأسقطها أرضاً لتدهس من قبل سيارة سريعة، ونراهما وهما يقومان معاً بزيارة مدفن الفتى والطفلة، ثم يتعزز حبهما من خلال مأساتهما “الحزينة” المشتركة… يغلب على هذه الأفلام الثلاثة حالات متتابعة من “الاستلقاء والتلهف والركض السريع والإحباط”، كما تبدو بعض المشاهد والتعابير الوجهية وكأنها تتماهى بنائياً مع مشاهد مماثلة تعودنا مشاهدتها في أفلام التحريك اليابانية الشهيرة!
أما الفيلم الرابع الذي شاهدته “كل شيء بدأ عندما قابلتك”، فهو شريط متشابك يجمع ست قصص حب منفصلة، تتطور فيها الأحداث لتجمع الأحباء مع اقتراب ليلة الكريسماس (عيد الميلاد)، حيث نلاحظ أن القاسم المشترك لهذه القصص يتمثل بمحطة قطارات طوكيو الشهيرة، التي يمر من خلالها حوالي مليون شخص يومياً…وهم يركضون لهاثاً لأعمالهم ومصالحهم، آملين بلقاء وربما مغامرة جديدة: فهناك سائق القطار المتقاعد بسبب مرضه الخطير، الذي يحضر تدريجياً مع زوجته المتلهفة لإبلاغ ابنه الوحيد الصغير ذي السنوات العشر بخبر وفاته القريبة، وهناك المهندس المنشغل دوماً والمتعالي الذي يكتشف صعوبة خسرانه لخطيبته الوفية ثم يقرر الزواج منها لكي لا يخسرها بعد خذلانه المستمر لها، كما نلاحظ صاحبة محل الحلوى بنفس الحي التي تتحسر دوماً على فقدانها لصديقها، ثم تفاجأ بواقع ما حدث بعد أن يخبرها زائر عجوز بتفاصيل سوء التفاهم التزاماً بوصية صديقها المتوفى حديثاً، مما يشجع العاملة الشابة في المحل على الإقدام بدورها للاعتراف بحبها لزميلها خوفاً من خسرانه، ثم وصولاً لتفاصيل قصة حب “كاروكي” المتعالي والمشغول دوماً بإدارة شركته المتخصصة بتصميم المواقع الإلكترونية، والذي لا يؤمن أبداً بالحب، ولكنه يلتقي بالصدفة بمطعم مجاور مع ممثلة شابة مكافحة تدعى “ريكو” ويعاملها بتكبر وغطرسة لاعتقاده بأنها خططت عملياً للقائه طمعاً بثرائه، مما يقودها أخيراً للتخلي يائسة عن عملها كممثلة، ثم يشعر بالذنب لأنه أساء التقدير، فيهرع ليلتقيها قبل فوات الآوان بمحطة القطارات محاولاً إصلاح علاقته معها… أدهشتنا هذه الأفلام الجميلة بحسها الرومانسي اللافت ورهافة الإحساس الإنساني ورقة السلوك النسوي، كما أطلعتنا على تفاصيل الحياة اليومية ونمط الحياة اليابانية الغنية بالرقي والذوق والدهشة والجودة، كما استمتعنا بالمشاهد “الجمالية” المتنوعة وكأنها تقودنا برحلة سياحية فريدة داخل كوكب حضاري اسمه “اليابان”!
* ناقد فني من الأردن